فصل: باب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب استعذاب الماء‏)‏ بالذال المعجمة أي طلب الماء العذب، والمراد به الحلو‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى رَايِحٌ

الشرح‏:‏

حديث أنس في صدقة أبي طلحة لقوله فيه‏:‏ ‏"‏ ويشرب من ماء فيها طيب ‏"‏ وقد ورد في خصوص هذا اللفظ - وهو استعذاب الماء - حديث عائشة رضي الله عنها ‏"‏ كان رسول الله يستعذب له الماء من بيوت السقيا ‏"‏ والسقيا بضم المهملة وبالقاف بعدها تحتانية قال قتيبة‏:‏ هي عين بينها وبين المدينة يومان، هكذا أخرجه أبو داود عنه بعد سياق الحديث بسند جيد وصححه الحاكم، وفي قصة أبي الهيثم بن التيهان أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم يسأل عن أبي الهيثم ‏"‏ ذهب يستعذب لنا من الماء ‏"‏ وهو عند مسلم كما سأبينه بعد، وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع ‏"‏ كان أبو أيوب حين نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس ‏"‏ ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرة ومن بيوت السقيا مرة‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه فقد كرهه مالك لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله الصالحون‏.‏

وليس في شرب الماء الملح فضيلة، قال‏:‏ وفيه دلالة على أن استطابة الأطعمة جائزة وأن ذلك من فعل أهل الخير، وقد ثبت أن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏)‏ نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم، قال‏:‏ ولو كانت مما لا يريد الله تناوله ما امتن بها على عباده، بل نهيه عن تحريمها يدل على أنه أراد منهم تناولها ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها، وإن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ أما أن استعذاب الماء لا ينافي الزهد والورع فواضح، وأما الاستدلال بذلك على لذيذ الأطعمة فبعيد‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ هذا الحديث أصل في جواز شرب الماء من البستان بغير ثمن‏.‏

قلت‏:‏ المأذون له في الدخول فيه لا شك فيه، وأما غيره فلما اقتضاه العرف من المسامحة بذلك، وثبوت ذلك بالفعل المذكور فيه نظر‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ ذلك مال رايح أو رابح ‏"‏ الأول بتحتانية والثاني بموحدة والحاء مهملة فيهما، فالأول معناه أن أجره يروح إلى صاحبه أي يصل إليه ولا ينقطع عنه، والثاني‏:‏ معناه كثير الربح، وأطلق عليه صفة صاحبه المتصدق به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ شك عبد الله بن مسلمة ‏"‏ هو القعنبي، وقوله‏:‏ ‏"‏ قال إسماعيل ‏"‏ هو ابن أبي أويس ويحيى هو ابن يحيى، ورايح في روايتهما بالتحتانية وقد تقدمت رواية إسماعيل مصرحا فيها بالتحديث في تفسير آل عمران، ورواية يحيى بن يحيى كذلك في الوكالة، وتقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الوكالة‏.‏

*3*باب شَوْبِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب شرب اللبن بالماء‏)‏ أي ممزوجا، وإنما قيده بالشرب للاحتراز عن الخلط عند البيع فإنه غش‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني بالواو بدل الراء، والشوب الخلط، قال ابن المنير‏:‏ مقصوده أن ذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، وهو يؤيد ما تقدم من فائدة تقييده الخليطين بالمسكر، أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن عند الحليب يكون حارا وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَناً وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِئْرِ فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ قَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبدان‏)‏ هو عبد الله بن عثمان، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا وأتى داره‏)‏ أي دار أنس، وهي جملة حالية أي رآه حين أتى داره، وقد تقدم في الهبة من طريق أبي طوالة عن أنس بلفظ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فاستسقى، فحلبنا شاة لنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحلبت‏)‏ عين في هذه الرواية أنه هو الذي باشر الحلب، وقوله‏:‏ ‏"‏ فشبت ‏"‏ كذا للأكثر من الشوب بلفظ المتكلم، ووقع في رواية الأصيلي بكسر المعجمة بعدها تحتانية على البناء للمجهول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو بكر عن يساره‏)‏ زاد في رواية أبي طوالة وعمر تجاهه، وقد تقدم ضبطها في الهبة، وتقدم في الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث ‏"‏ فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي‏:‏ أعط أبا بكر ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ فقال عمر هذا أبو بكر ‏"‏ قال الخطابي وغيره‏:‏ كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم في قصيدة له‏:‏ ‏"‏ وكان الكأس مجراها اليمينا ‏"‏ فخشي عمر لذلك أن يقدم الأعرابي على أبي بكر في الشرب فنبه عليه لأنه احتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر تقديم أبي بكر على تلك العادة فتصير السنة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك‏.‏

ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعطى الأعرابي فضله‏)‏ أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه، وقد تقدم في الهبة ذكر من زعم أن اسم هذا الأعرابي خالد بن الوليد وأنه وهم، ووقع عند الطبراني من حديث عبد الله بن أبي حبيبة قال‏:‏ ‏"‏ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فجئت فجلست عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره، ثم دعا بشراب فشرب وناولني عن يمينه ‏"‏ وأخرجه أحمد لكن لم يسم الصحابي، ولا يمكن تفسير المبهم في حديث أنس به أيضا لأن هذه القصة كانت بقباء وتلك في دار أنس أيضا فهو أنصاري ولا يقال له أعرابي كما استبعد ذلك في حق خالد بن الوليد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قال‏:‏ الأيمن فالأيمن‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وقال ‏"‏ بالواو بدل ‏"‏ ثم ‏"‏ وفي رواية أبي طوالة ‏"‏ الأيمنون فالأيمنون ‏"‏ وفيه حذف تقديره الأيمنون مقدمون أو أحق أو يقدم الأيمنون‏.‏

وأما رواية الباب فيجوز الرفع على ما سبق، والنصب على تقدير قدموا أو أعطوا‏.‏

ووقع في الهبة بلفظ ‏"‏ ألا فيمنوا ‏"‏ والكلام عليها‏.‏

واستنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهلم جرا، ويلزم منه أن يكون عمر في الصورة التي وردت في هذا الحديث شرب بعد الأعرابي ثم شرب أبو بكر بعده‏.‏

لكن الظاهر عن عمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه‏.‏

والله أعلم‏.‏

وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من سبق إلى مجلس علم أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمجيء من هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز، وأن من استحق شيئا لما يدفع عنه إلا بإذنه كبيرا كان أو صغيرا إذا كان ممن يجوز إذنه‏.‏

وفيه أن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم على سبيل الفضل لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب قاله ابن عبد البر، ومحله ما إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له‏.‏

وفيه دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه ولو كان صغير السن وتناوله مما عندهم من طعام وشراب من غير بحث‏.‏

وسيأتي بقية فوائده بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كَرَعْنَا قَالَ وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ قَالَ فَانْطَلَقَ بِهِمَا فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ قَالَ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وسعيد بن الحارث هو الأنصاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل على رجل من الأنصار‏)‏ كنت ذكرت في المقدمة أنه أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، ثم وقفت عن ذلك لما أخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن فليح في أول حديثي الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قوما من الأنصار يعود مريضا لهم، وقصة أبي الهيثم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، واستوعب ابن مردويه في تفسير التكاثر طرقه فزاد عن ابن عباس وأبي عسيب وأبي سعيد ولم يذكر في شيء من طرقه عبادة، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، ثم وقفت على المستند في ذلك وهو ما ذكره الواقدي من حديث الهيثم بن نصر الأسلمي قال‏:‏ ‏"‏ خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاشم - وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان وكان ماؤها طيبا - ولقد دخل يوما صائفا ومعه أبو بكر على أبي الهيثم فقال‏:‏ هل من ماء بارد‏؟‏ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج فصبه على لبن عنز له وسقاه، ثم قال له‏:‏ إن لنا عريشا باردا فقل فيه يا رسول الله عندنا، فدخله وأبو بكر، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرطب ‏"‏ الحديث‏.‏

والشجب بفتح المعجمة وسكون الجيم ثم موحدة يتخذ من شنة تقطع ويخرز رأسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومعه صاحبه‏)‏ هو أبو بكر الصديق كما ترى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال له‏)‏ زاد في رواية الإسماعيلي من قبل هذا ‏"‏ وإلى جانبه ماء في ركي ‏"‏ وهو بفتح الراء وكسر الكاف وبعدها شدة البئر المطوية، وزاد في رواية ستأتي بعد خمسة أبواب ‏"‏ فسلم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل - أي عليهما - السلام‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة‏)‏ بفتح المعجمة وتشديد النون وهي القربة الخلقة‏.‏

وقال الداودي‏:‏ هي التي زال شعرها من البلى‏.‏

قال المهلب‏:‏ الحكمة في طلب الماء البائت أنه يكون أبرد وأصفى، وأما مزج اللبن بالماء فلعل ذلك كان في يوم حار كما وقع في قصة أبي بكر مع الراعي‏.‏

قلت‏:‏ لكن القصتان مختلفتان، فصنيع أبي بكر ذلك باللبن لشدة الحر، وصنيع الأنصاري لأنه أراد أن لا يسقي النبي صلى الله عليه وسلم ماء صرفا فأراد أن يضيف إليه اللبن فأحضر له ما طلب منه وزاد عليه من جنس جرت عادته بالرغبة فيه‏.‏

ويؤيد هذا ما في رواية الهيثم بن نصر قبل أن الماء كان مثل الثلج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإلا كرعنا‏)‏ فيه حذف تقديره‏:‏ فاسقنا، وإن لم يكن عندك كرعنا‏.‏

ووقع في رواية ابن ماجه التصريح بطلب السقي‏.‏

والكرع بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف‏.‏

وقال ابن التين حكى أبو عبد الملك أنه الشرب باليدين معا، قال‏:‏ وأهل اللغة على خلافه‏.‏

قلت‏:‏ ويرده ما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها ‏"‏ الحديث ولكن في سنده ضعف، فإن كان محفوظا فالنهي فيه للتنزيه، والفعل لبيان الجواز، أو قصة جابر قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الري، أشار إلى هذا الأخير ابن بطال، وإنما قيل للشرب بالفم كرع لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء، ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر فقال‏:‏ ‏"‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا ‏"‏ وهو الكرع، وسنده أيضا ضعيف، فهذا إن ثبت احتمل أن يكون النهي خاصا بهذه الصورة، وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح‏.‏

ووقع في رواية أحمد ‏"‏ وإلا تجرعنا ‏"‏ بمثناة وجيم وتشديد الراء أي شربنا جرعة جرعة، وهذا قد يعكر على الاحتمال المذكور‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والرجل يحول الماء في حائطه‏)‏ أي ينقل الماء من مكان إلى مكان آخر من البستان ليعم أشجاره بالسقي، وسيأتي بعد خمسة أبواب من وجه آخر بلفظ ‏"‏ وهو يحول في حائط له ‏"‏ يعني الماء، وفي لفظ له ‏"‏ يحول الماء في الحائط ‏"‏ فيحتمل أن يكون وقع منه تحويل الماء من البئر مثلا إلى أعلاها ثم حوله من مكان إلى مكان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى العريش‏)‏ هو خيمة من خشب وثمام بضم المثلثة مخففا، وهو نبات ضعيف له خواص، وقد يجعل من الجريد كالقبة أو من العيدان ويظلل عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسكب في قدح‏)‏ في رواية أحمد‏:‏ فسكب ماء في قدح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم حلب عليه من داجن له‏)‏ في رواية أحمد وابن ماجه فحلب له شاة ثم صب عليه ماء بات في شن، والداجن بجيم ونون‏:‏ الشاة التي تألف البيوت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم شرب الرجل‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ وشرب النبي صلى الله عليه وسلم وسقى صاحبه ‏"‏ وظاهره أن الرجل شرب فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجه ‏"‏ ثم سقاه ثم صنع لصاحبه مثل ذلك ‏"‏ أي حلب له أيضا وسكب عليه الماء البائت، هذا هو الظاهر، ويحتمل أن تكون المثلية في مطلق الشرب‏.‏

قال المهلب‏:‏ في الحديث أنه لا بأس بشرب الماء البارد في اليوم الحار، وهو من جملة النعم التي امتن الله بها على عباده، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة‏:‏ ألم أصح جسمك، وأرويك من الماء البارد ‏"‏‏؟‏

*3*باب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لِأَنَّهُ رِجْسٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب شراب الحلواء والعسل‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ الحلواء ‏"‏ بالمد ولغيره بالقصر، وهما لغتان، قال الخطابي‏:‏ هي ما يعقد من العسل ونحوه‏.‏

وقال ابن التين عن الداودي‏:‏ هي النقيع الحلو، وعليه يدل تبويب البخاري ‏"‏ شراب الحلواء ‏"‏ كذا قال، وإنما هو نوع منها، والذي قاله الخطابي هو مقتضى العرف‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ الحلوى كل شيء حلو، وهو كما قال، لكن استقر العرف على تسمية ما لا يشرب من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو ذلك، ولا يلزم مما قال اختصاص الحلوى بالمشروب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الزهري‏:‏ لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏أحل لكما الطيبات‏)‏ وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ووجهه ابن التين أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى البول رجسا‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ويحرم عليهم الخبائث‏)‏ والرجس من جملة الخبائث، ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة عند الشدة وهي رجس أيضا، ولهذا قال ابن بطال‏:‏ الفقهاء على خلاف قول الزهري، وأشد حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، ولم يختلفوا في جواز تناولها عند الضرورة‏.‏

وأجاب بعض العلماء عن الزهري باحتمال أنه كان يرى أن القياس لا يدخل الرخص، والرخصة في الميتة لا في البول‏.‏

قلت‏:‏ وليس هذا بعيدا من مذهب الزهري، فقد أخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من رواية ابن أخي الزهري قال‏:‏ كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر، فقيل له أنت تفطر في رمضان إذا كنت مسافرا، فقال‏:‏ إن الله تعالى قال في رمضان ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ وليس ذلك لعاشوراء‏.‏

قال ابن التين‏:‏ وقد يقال إن الميتة لسد الرمق، والبول لا يدفع العطش، فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة فيه‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي نظيره في الأثر الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن مسعود في السكر‏:‏ إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم‏)‏ ‏.‏

قال ابن التين‏:‏ اختلف في السكر بفتحتين‏:‏ فقيل هو الخمر، وقيل‏:‏ ما يجوز شربه كنقيع التمر قبل أن يشتد وكالخل، وقيل‏:‏ هو نبيذ التمر إذا اشتد‏.‏

قلت‏:‏ وتقدم في تفسير النحل عن أكثر أهل العلم أن السكر في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا‏)‏ وهو ما حرم منها، والرزق الحسن ما أحل‏.‏

وأخرج الطبري من طريق أبي رزين أحد كبار التابعين قال‏:‏ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر‏.‏

ومن طريق النخعي نحوه‏.‏

ومن طريق الحسن البصري بمعناه‏.‏

ثم أخرج من طريق الشعبي قال‏:‏ السكر نقيع الزبيب يعني قبل أن يشتد والخل، واختار الطبري هذا القول وانتصر له لأنه لا يستلزم منه دعوى نسخ، ويستمر الامتنان بما تضمنته الآية على ظاهره، بخلاف القول الأول فإنه يستلزم النسخ والأصل عدمه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا في الآية محتمل، لكنه في هذا الأثر محمول على المسكر، وقد أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن النخعي والشعبي وسعيد بن جبير أنهم قالوا‏:‏ السكر خمر، ويمكن الجمع بأن السكر بلغة العجم الخمر وبلغة العرب النقيع قبل أن يشتد، ويؤيده ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال‏:‏ السكر خمور الأعاجم، وعلى هذا ينطبق قول ابن مسعود ‏"‏ إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ‏"‏ ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار‏:‏ إن كان أراد مسكر الأشربة فلعله سقط من الكلام ذكر السؤال، وإن كان أراد السكر بالضم وسكون الكاف قال‏:‏ فأحسبه هذا أراد، لأنني أظن أن عند بعض المفسرين سئل ابن مسعود عن التداوي بشيء من المحرمات فأجاب بذلك‏.‏

والله أعلم بمراد البخاري‏.‏

قلت‏:‏ قد رويت الأثر المذكور في ‏"‏ فوائد علي بن حرب الطائي ‏"‏ عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال‏:‏ اشتكى رجل منا يقال له خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله، فذكره‏.‏

وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه، وروينا في ‏"‏ نسخة داود بن نصير الطائي ‏"‏ بسند صحيح عن مسروق قال‏:‏ ‏"‏ قال عبد الله هو ابن مسعود‏:‏ لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة، وإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود كذلك، وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر‏.‏

وأخرج إبراهيم الحربي في غريب الحديث، من هذا الوجه قال‏:‏ أتينا عبد الله في مجدرين أو محصبين نعت لهم السكر فذكر مثله‏.‏

ولجواب ابن مسعود شاهد آخر أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة قالت‏:‏ اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فأخبرته، فقال‏:‏ إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم‏.‏

ثم حكى ابن التين عن الداودي قال‏:‏ قول ابن مسعود حق لأن الله حرم الخمر لم يذكر فيها ضرورة وأباح الميتة وأخواتها في الضرورة‏.‏

قال‏:‏ ففهم الداودي أن ابن مسعود تكلم على استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك، وإنما تكلم على التداوي بها فمنعه، لأن الإنسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعه، بخلاف الميتة في سد الرمق‏.‏

وكذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها بالجرعة من الخمر فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لأن الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه لا يتحقق‏.‏

ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه قال‏:‏ لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا، ولأنها تذهب بالعقل‏.‏

وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا، وأما إذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الأمر بأن التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش، وإن كانت كثيرا فهو يذهب العقل، ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شيء فيقع في أشد منه‏.‏

وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش، قال مالك لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشا، وهذا هو الأصح عند الشافعية، لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من شيء يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب، أما المتخذ من شيء بارد كالشعير فلا‏.‏

وأما التداوي فإن بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم ذكره، وأيضا فتحريمها مجزوم به، وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث‏.‏

ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها‏.‏

أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله، فقد أطلق الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي، وصحح النووي هنا الجواز، وينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها، وقد صرح من أجاز التداوي بالثاني، وأجازه الحنفية مطلقا لأن الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة تحل فيها، فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى، وعن بعض المالكية إن دعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة، والأصح عند الشافعية في الغص الجواز‏.‏

وهذا ليس من التداوي المحض، وسيأتي في أواخر الطب ما يدل على النهي عن التداوي بالخمر وهو يؤيد المذهب الصحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة، ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل ‏"‏ قال ابن المنير‏:‏ ترجم على شيء وأعقبه بضده وبضدها تتبين الأشياء، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصا، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أحل لكم الطيبات‏)‏ إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهو حلال، وبقول ابن مسعود الإشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فيه شفاء للناس‏)‏ فدل الامتنان، به على حله، فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم، قال ابن المنير‏:‏ ونبه بقوله شراب الحلواء على أنها ليست الحلوى المعهودة التي يتعاطاها المترفون اليوم، وإنما هي حلو يشرب إما عسل بماء أو غير ذلك مما يشاكله انتهى‏.‏

ومحتمل أن تكون الحلوى كانت تطلق لما هو أعم مما يعقد أو يؤكل أو يشرب، كما أن العسل قد يؤكل إذا كان جامدا وقد يشرب إذا كان مائعا وقد يخلط فيه الماء ويذاب ثم يشرب، وقد تقدم في كتاب الطلاق من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة في حديث الباب زيادة ‏"‏ وإن امرأة من قوم حفصة أهدت لها عكة عسل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة ‏"‏ الحديث في ذكر المغافير‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏ سقته شربة من عسل ‏"‏ محتمل لأن يكون صرفا حيث يكون مائعا، ويحتمل أن يكون ممزوجا‏.‏

وقال النووي‏:‏ المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته، وهو من الخاص بعد العام، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة، لا سيما إن حصل اتفاقا‏.‏

وروى البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن أبي سليمان الداراني قال‏:‏ قول عائشة ‏"‏ كان يعجبه الحلوى ‏"‏ ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترفه والشره‏.‏

وإنما كان إذا قدمت إليه ينال منها نيلا جيدا فيعلم بذلك أنه يعجبه طعمها، وفيه دليل على اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى‏.‏

*3*باب الشُّرْبِ قَائِماً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الشرب قائما‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما‏.‏

كذا قال، وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ قَالَ أَتَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِماً فَقَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن النزال‏)‏ بفتح النون وتشديد الزاي وآخره لام، في الرواية الثانية ‏"‏ سمعت النزال بن سبرة ‏"‏ وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة، تقدمت له رواية عن ابن مسعود في فضائل القرآن وغيره، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين‏.‏

وقد روى مسعر هذا الحديث عن عبد الملك بن ميسرة مختصرا، ورواه عنه شعبة مطولا، وساقه المصنف في هذا الباب، ووافق الأعمش شعبة على سياقه مطولا‏.‏

ومسعر وشيخه وشيخ شيخه هلاليون كوفيون، وأبو نعيم أيضا كوفي، وعلي نزل الكوفة ومات بها، فالإسناد الأول كله كوفيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتى علي‏)‏ وقوله في الرواية التي تليها ‏"‏ عن علي ‏"‏ وقع عند النسائي ‏"‏ رأيت عليا ‏"‏ أخرجه من طريق بهز بن أسد عن شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على باب الرحبة‏)‏ زاد في رواية شعبة أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، والرحبة بفتح الراء والمهملة والموحدة المكان المتسع، والرحب بسكون المهملة المتسع أيضا، قال الجوهري‏:‏ ومنه أرض رحبة بالسكون أي متسعة، ورحبة المسجد بالتحريك وهي ساحته، قال ابن التين‏:‏ فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك، وهذا هو الصحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ قَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قِيَاماً وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏"‏ حوائج ‏"‏ هو جمع حاجة على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه مولد، والجمع حاجات وحاج وقال ابن ولاد‏:‏ الحوجاء الحاجة وجمعها حواجي بالتشديد، ويجوز التخفيف، قال‏:‏ فلعل حوائج مقلوبة من حواجي مثل سوائع من سواعي‏.‏

وقال أبو عبيد الهروي‏:‏ قيل‏:‏ الأصل حائجة فيصح الجمع على حوائج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أتي بماء‏)‏ في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي ‏"‏ فدعا بوضوء ‏"‏ وللترمذي من طريق الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة ‏"‏ ثم أتي علي بكوز من ماء ‏"‏ ومثله من رواية بهز بن أسد عن شعبة عند النسائي، وكذا لأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فشرب وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه‏)‏ كذا هنا‏.‏

وفي رواية بهز ‏"‏ فأخذ منه كفا فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه‏"‏‏.‏

وكذلك عند الطيالسي ‏"‏ فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه ‏"‏ ومثله في رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي، ويؤخذ منه أنه في الأصل ‏"‏ ومسح على رأسه ورجليه ‏"‏ وأن آدم توقف في سياقه فعبر بقوله ‏"‏ وذكر رأسه ورجليه ‏"‏ ووقع في رواية الأعمش ‏"‏ فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ورأسه ‏"‏ وفي رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي ‏"‏ فمسح بوجهه ورأسه ورجليه ‏"‏ ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل والتثليث في الجميع، وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة، والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عند أحمد بن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها فقد ضعفه الدار قطني، والصفة التي ذكرها هي صفة إسباغ الوضوء الكامل، وقد ثبت في آخر الحديث قول علي‏:‏ هذا وضوء من لم يحدث كما سيأتي بيانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قام فشرب فضله‏)‏ هذا هو المحفوظ في الروايات كلها، والذي وقع هنا من ذكر الشرب مرة قبل الوضوء ومرة بعد الفراغ منه لم أره في غير رواية آدم، والمراد بقوله‏:‏ ‏"‏ فضله ‏"‏ بقية الماء الذي توضأ منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قال‏:‏ إن ناسا يكرهون الشرب قائما‏)‏ كذا للأكثر، وكأن المعنى إن ناسا يكرهون أن يشرب كل منهم قائما، ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ قياما ‏"‏ وهي واضحة، وللطيالسي ‏"‏ أن يشربوا قياما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صنع كما صنعت‏)‏ أي من الشرب قائما، وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال‏:‏ ‏"‏ شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت ‏"‏ ولأحمد ورأيته من طريقين آخرين ‏"‏ عن علي أنه شرب قائما، فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال‏:‏ ما تنظرون أن أشرب قائما‏؟‏ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا ‏"‏ ووقع في رواية النسائي والإسماعيلي زيادة في آخر الحديث من طرق عن شعبة ‏"‏ وهذا وضوء من لم يحدث ‏"‏ وهي على شرط الصحيح، وكذا ثبت في رواية الأعمش عند الترمذي‏.‏

واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه‏.‏

ومنها عند مسلم عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما ‏"‏ ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ ‏"‏ نهى ‏"‏ ومثله للترمذي وحسنه من حديث الجارود، ولمسلم من طريق أبي غطفان عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقيء‏"‏، وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان من طريق أبي صالح عنه بلفظ ‏"‏ لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء ‏"‏ ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال‏:‏ قه، قال‏:‏ لمه‏؟‏ قال‏:‏ أيسرك أن يشرب معك الهر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان ‏"‏ وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين‏.‏

وأخرج مسلم من طريق قتادة عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة فقلنا لأنس‏:‏ فالأكل‏؟‏ قال ذاك أشر وأخبث ‏"‏ قيل‏:‏ وإنما جعل الأكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن الشرب‏.‏

فهذا ما ورد في المنع من ذلك‏.‏

قال المازري‏:‏ اختلف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز، وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا‏:‏ لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا‏.‏

قال‏:‏ وأيضا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم في أنه ليس على أحد أن يستقيء‏.‏

قال وقال بعض الشيوخ‏:‏ الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ وتضمن حديث أنس الأكل أيضا، ولا خلاف في جواز الأكل قائما‏.‏

قال‏:‏ والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل‏.‏

أو لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله وفعله هو لأمنه، قال‏:‏ وعلى هذا الثاني يحمل قوله‏:‏ ‏"‏ فمن نسي فليستقيء ‏"‏ على أن ذلك يحرك خلطا يكون القيء دواءه‏.‏

ويؤيده قول النخعي‏:‏ إنما نهى عن ذلك لداء البطن‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

وقال عياض‏:‏ لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له‏.‏

وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

ووقع للنووي ما ملخصه‏:‏ هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الأفضل، والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب‏.‏

وأما قول عياض‏:‏ لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوى والترهات‏؟‏ اهـ وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه‏.‏

وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر، فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه فيجاب عنه بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه ‏"‏ قلنا لأنس‏:‏ فالأكل ‏"‏ وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ومثل هذا يخرج في الشواهد، ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم‏.‏

قال النووي وتبعه شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ إن قوله ‏"‏ فمن نسي ‏"‏ لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا‏.‏

قلت‏:‏ وقد يطلق النسيان ويراد به الترك فيشمل السهو والعمد، فكأنه قيل من ترك امتثال الأمر وشرب قائما فليستقيء‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان جاريا على أصول الظاهرية والقول به، وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من لم يقل بالتحريم بحديث علي المذكور في الباب، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر ‏"‏ كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام ‏"‏ وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي أيضا وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني وعن أنس أخرجه البزار والأثرم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في ‏"‏ الأحكام ‏"‏ وعن أم سليم نحوه أخرجه ابن شاهين وعن عبد الله بن السائب عن خباب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي حاتم، وعن كبشة قالت‏:‏ ‏"‏ دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فشرب من قربة معلقة ‏"‏ أخرجه الترمذي وصححه، وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى بسند حسن‏.‏

وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري، وفي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين‏.‏

وسلك العلماء في ذلك مسالك‏:‏ أحدها‏:‏ الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال‏:‏ حديث أنس - يعني في النهي - جيد الإسناد ولكن قد جاء عنه خلافه، يعني في الجواز، قال‏:‏ ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في الثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث‏.‏

ثم أسند عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ لا بأس بالشرب قائما ‏"‏ قال الأثرم‏:‏ فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لما قال لا بأس به، قال‏:‏ ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائما أن يستقيء‏.‏

المسلك الثاني‏:‏ دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي - على تقدير ثبوتها - منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومنظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع‏.‏

فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال‏.‏

وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما سيأتي ذكره في هذا الباب من حديث ابن عباس، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده‏.‏

المسلك الثالث‏:‏ الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصره الصحاح‏:‏ والمراد بالقيام هنا المشي، يقال قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا ما دمت عليه قائما‏)‏ أي مواظبا بالمشي عليه‏.‏

وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها‏.‏

وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا فقال‏:‏ إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا‏.‏

وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما‏.‏

وفي حديث علي من الفوائد أن على العالم إذا رأى الناس اجتنبوا شيئا وهو يعلم جوازه أن يوضح لهم وجه الصواب فيه خشية أن يطول الأمر فيظن تحريمه، وأنه متى خشي ذلك فعليه أن يبادر للإعلام بالحكم ولو لم يسأل، فإن سئل تأكد الأمر به، وأنه إذا كره من أحد شيئا لا يشهر باسمه لغير غرض بل يكنى عنه كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِماً مِنْ زَمْزَمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عاصم الأحول‏)‏ قال الكرماني ذكر الكلاباذي أن أبا نعيم سمع من سفيان الثوري ومن سفيان بن عيينة وأن كلا منهما روى عن عاصم الأحول فيحتمل أن يكون أحدهما‏.‏

قلت‏:‏ ليس الاحتمالان فيهما هنا على السواء، فإن أبا نعيم مشهور بالرواية عن الثوري معروف بملازمته، وروايته عن ابن عيينة قليلة، وإذا أطلق اسم شيخه حمل على من هو أشهر بصحبته وروايته عنه أكثر، ولهذا جزم المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ أن سفيان هذا هو الثوري، وهذه قاعدة مطردة عند المحدثين في مثل هذا، وللخطيب فيه تصنيف سماه ‏"‏ المكمل لبيان المهمل‏"‏، وقد روى هذا الحديث بعينه سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول أخرجه أحمد عنه، وكذا هو عند مسلم رواية ابن عيينة، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن سفيان الثوري عن عاصم الأحول، لكن خصوص رواية أبي نعيم فيه إنما هي عن الثوري كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم‏)‏ في رواية ابن ماجه من وجه آخر عن عاصم في هذا الحديث ‏"‏ قال - أي عاصم - فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا ‏"‏ وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج، وعند أبي داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين ‏"‏ فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه، لأن عمدة عكرمة في إنكار كونه شرب قائما إنما هو ما ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك، لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس‏؟‏

*3*باب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من شرب وهو واقف على بعيره‏)‏ قال ابن العربي‏:‏ لا حجة في هذا على الشرب قائما، لأن الراكب على البعير قاعد غير قائم، كذا قال، والذي يظهر لي أن البخاري أراد حكم هذه الحالة وهل تدخل تحت النهي أو لا وإيراده الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز فلا يدخل في الصورة المنهي عنها، وكأنه لمح بما قال عكرمة أن مراد ابن عباس بقوله في الرواية التي جاءت عن الشعبي في الذي قبله أنه شرب قائما إنما أراد وهو راكب والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائرا؛ ويشبه القاعد من حيث كونه مستقرا على الدابة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَلَى بَعِيرِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مالك بن إسماعيل‏)‏ هو أبو غسان النهدي الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وقوله‏:‏ بعد ذلك ‏"‏ زاد مالك الخ ‏"‏ هو ابن أنس والمراد أن مالكا تابع عبد العزيز بن أبي سلمة على روايته هذا الحديث عن أبي النضر وقال في روايته ‏"‏ شرب وهو واقف على بعيره ‏"‏ وقد تقدمت هذه الرواية تامة في كتاب الصيام مع بقية شرح الحديث‏.‏