فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏)‏ كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد بن حميد والترمذي والطبري وغيرهم وصححه الحاكم من طريق يؤثر بن أبي فاختة ‏"‏ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه ألف سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه ربه عز وجل في كل يوم مرتين ‏"‏ قال‏:‏ ثم تلا ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة‏)‏ قال بالبياض والصفاء ‏(‏إلى ربها ناظرة‏)‏ قال تنظر كل يوم في وجه الله، لفظه الطبري من طريق مصعب بن المقدام عن إسرائيل عن ثوير، وأخرجه عبد عن شبابة عن إسرائيل ولفظه‏:‏ لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه ونعيمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، وكذا أخرجه الترمذي عن عبد‏.‏

وقال غريب، رواه غير واحد عن إسرائيل مرفوعا، ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر موقوفا، ورواه الثوري عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفا أيضا، قال‏:‏ ولا نعلم أحدا ذكر فيه مجاهدا غير الثوري بالعنعنة‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه ابن مردويه من أربعة طرق عن إسرائيل عن ثوير قال ‏"‏ سمعت ابن عمر ‏"‏ ومن طريق عبد الملك بن أبجر عن ثوير مرفوعا‏.‏

وقال الحاكم بعد تخريجه ثوير لم ينقم عليه إلا التشيع‏.‏

قلت‏:‏ لا أعلم أحدا صرح بتوثيقه، بل أطبقوا على تضعيفه‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ الضعف على أحاديثه بين وأقوى ما رأيت فيه قول أحمد بن حنبل فيه، وفي ليث بن أبي سليم ويزيد بن أبي زيد‏:‏ ما أقرب بعضهم من بعض‏.‏

وأخرج الطبري من طريق أبي الصهباء موقوفا نحو حديث ابن عمر‏.‏

وأخرج بسند صحيح إلى يزيد النحوي عن عكرمة في هذه الآية قال ‏"‏ تنظر إلى ربها نظرا ‏"‏ وأخرج عن البخاري عن آدم عن مبارك عن الحسن قال ‏"‏ تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنظر ‏"‏ وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة‏:‏ انظروا ماذا أعطى الله عبده من النور في عينه من النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا - يعني في الجنة - ثم قال‏:‏ لو جعل نور جميع الخلق في عيني عبد ثم كشف عن الشمس ستر واحد ودونها سبعون سترا ما قدر على أن ينظر إليها، ونور الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزءا من نور الستر، وإبراهيم فيه ضعف، وقد أخرج عبد بن حميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية، ويمكن الجمع بالحمل على غير أهل الجنة‏.‏

وأخرج بسند صحيح عن مجاهد‏:‏ ناظرة تنظر الثواب، وعن أبي صالح نحوه، وأورد الطبري الاختلاف فقال الأول عندي بالصواب ما ذكرناه عن الحسن البصري وعكرمة وهو ثبوت الرؤية لموافقته الأحاديث الصحيحة، وبالغ ابن عبد البر في رد الذي نقل عن مجاهد وقال هو شذوذ، وقد تمسك به بعض المعتزلة وتمسكوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه ‏"‏ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‏"‏ قال بعضهم فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية، وتعقب بأن المنفي فيه رؤيته في الدنيا لأن العبادة خاصة بها، فلو قال قائل إن فيه إشارة إلى جواز الرؤية في الآخرة لما أبعد، وزعمت طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة أن في الخبر دليلا على أن الكفار يرون الله في القيامة من عموم اللقاء والخطاب‏.‏

وقال بعضهم يراه بعض دون بعض، واحتجوا بحديث أبي سعيد حيث جاء فيه أن الكفار يتساقطون في النار إذا قيل لهم ألا تردون، ويبقى المؤمنون، وفيهم المنافقون فيرونه لما ينصب الجسر ويتبعونه، ويعطي كل إنسان منهم نوره ثم يطفأ نور المنافقين، وأجابوا عن قوله ‏(‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ أنه بعد دخول الجنة وهو احتجاج مردود، فإن بعد هذه الآية ‏(‏ثم إنهم لصالوا الجحيم‏)‏ فدل على أن الحجب وقع قبل ذلك، وأجاب بعضهم بأن الحجب يقع عند إطفاء النور، ولا يلزم من كونه يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممن أدخل نفسه فيهم أن تعمهم الرؤية لأنه أعلم بهم، فينعم على المؤمنين برؤيته دون المنافقين كما يمنعهم من السجود، والعلم عند الله تعالى قال البيهقي وجه الدليل من الآية أن لفظ ‏"‏ ناضرة ‏"‏‏:‏ الأول بالضاد المعجمة الساقطة من النضرة بمعنى السرور، ولفظ ‏"‏ ناظرة ‏"‏ بالظاء المعجمة المشالة يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء‏:‏ نظر التفكر والاعتبار كقوله تعالى ‏(‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏)‏ ونظر الانتظار كقوله تعالى ‏(‏ما ينظرون إلا صيحة واحدة‏)‏ ونظر التعطف والرحمة كقوله تعالى ‏(‏لا ينظر الله إليهم‏)‏ ونظر الرؤية كقوله تعالى ‏(‏ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت‏)‏ والثلاثة الأول غير مرادة، وأما الأول فلأن الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثاني فلأن في الانتظار تنغيصا وتكديرا، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهل الجنة لا ينتظرون شيئا لأنه مهما خطر لهم أتوابه، وأما الثالث فلا يجوز لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إلا نظر الرؤية، وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف العينين اللتين في الوجه، ولأنه هو الذي يتعدى بإلى كقوله تعالى ‏(‏ينظرون إليك‏)‏ وإذا ثبت أن ‏"‏ ناظرة ‏"‏ هنا بمعنى رائية اندفع قول من زعم أن المعنى ناظرة إلى ثواب ربها لأن الأصل عدم التقدير وأيد منطوق الآية ‏"‏ حق المؤمنين ‏"‏ بمفهوم الآية الأخرى ‏"‏ في حق الكافرين ‏"‏ أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، وقيدها بالقيامة في الآيتين إشارة إلى أن الرؤية تحصل للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا انتهى ملخصا موضحا‏.‏

وقد أخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن الحسن بن عبد العزيز الجروي وهو من شيوخ البخاري، سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول، سمعت مالك بن أنس وقيل له يا أبا عبد الله قول الله تعالى ‏(‏إلى ربها ناظرة‏)‏ يقول قوم إلى ثوابه، فقال كذبوا فأين هم عن قوله تعالى ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ ومن حيث النظر أن كل موجود يصح أن يرى، وهذا على سبيل التنزل وإلا فصفات الخالق لا تقاس على صفات المخلوقين، وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم وما ذكروه من الفرق بين الدنيا والآخرة أن أبصار أهل الدنيا فانية وأبصارهم في الآخرة باقية جيد، ولكن لا يمنع تخصيص ذلك بمن ثبت وقوعه له، ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة والله منزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده، فهو راء لا من جهة، واختلف من أثبت الرؤية في معناها فقال قوم‏:‏ يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب ‏"‏ كما ترون القمر ‏"‏ إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم وقال بعضهم‏:‏ إن المراد بالرؤية العلم وعبر عنها بعضهم بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الإبصار إلى المرئيات‏.‏

وقال بعضهم رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم، إلا أنه أتم وأوضح من العلم وهذا أقرب إلى الصواب من الأول وتعقب الأول بأنه حينئذ لا اختصاص لبعض دون بعض لأن العلم لا يتفاوت، وتعقبه ابن التين بأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى لمفعولين تقول‏:‏ رأيت زيدا فقيها أي علمته، فإن قلت رأيت زيدا منطلقا لم يفهم منه إلا رؤية البصر، ويزيده تحقيقا قوله في الخبر إنكم سترون ربكم عيانا، لأن اقتران الرؤية بالعيان لا يحتمل أن يكون بمعنى العلم‏.‏

وقال ابن بطال ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثا وحالا في مكان، وأولوا قوله ‏"‏ ناظرة ‏"‏ بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى، ثم ذكر نحو ما تقدم ثم قال وما تمسكوا به فاسد لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلقها بالمرئي بمنزلة العلم في تعلقه بالمعلوم فإذا كان تعلق العلم بالمعلوم لا يوجب حدوثه فكذلك المرئي‏.‏

قال وتعلقوا بقوله تعالى ‏(‏لا تدركه الأبصار‏)‏ وبقوله تعالى لموسى ‏(‏لن تراني‏)‏ والجواب عن الأول أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا جمعا بين دليلي الآيتين، وبأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته، وعن الثاني المراد لن تراني في الدنيا جمعا أيضا، ولأن نفي الشيء لا يقتضي إحالته مع ما جاء من الأحاديث الثابتة على وفق الآية، وقد تلقاها المسلمون بالقبول من لدن الصحابة والتابعين حتى حدث من أنكر الرؤية وخالف السلف‏.‏

وقال القرطبي اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم، وأهل السنة لا يشترطون شيئا من ذلك سوى وجود المرئي، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئي وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها والعلم عند الله تعالى‏.‏

ثم ذكر المؤلف في الباب أحد عشر حديثا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ وَهُشَيْمٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا

الشرح‏:‏

حديث جرير ذكره مطولا ومختصرا من ثلاثة أوجه‏.‏

قوله ‏(‏خالد أو هشيم‏)‏ كذا في نسخة من رواية أبي ذر عن المستملي بالشك وفي أخرى بالواو وكذا للباقين‏.‏

قوله ‏(‏عن إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي خالد‏.‏

قوله ‏(‏عن قيس‏)‏ هو ابن أبي حازم ونسب في رواية مروان بن معاوية عن إسماعيل المشار إليها‏.‏

قوله ‏(‏عن جرير‏)‏ في رواية مروان المذكورة ‏"‏ وسمعت جرير بن عبد الله ‏"‏ وفي رواية بيان في الباب عن قيس ‏"‏ حدثنا جرير‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية جرير عن إسماعيل في تفسير سورة ق ‏"‏ كنا جلوسا ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ليلة البدر‏)‏ في رواية إسحاق ‏"‏ ليلة أربع عشرة ‏"‏ ووقع في رواية بيان المذكورة ‏"‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر فقال ‏"‏ ويجمع بينهما بأن القول لهم صدر منه بعد أن جلسوا عنده‏.‏

قوله ‏(‏إنكم سترون ربكم‏)‏ في رواية عبد الله بن نمير وأبي أسامة ووكيع عن إسماعيل عند مسلم ‏"‏ إنكم ستعرضون على ربكم فترونه ‏"‏ وفي رواية أبي شهاب ‏"‏ إنكم سترون ربكم عيانا ‏"‏ هكذا اقتصر أبو شهاب على هذا القدر من الحديث للأكثر ووقع في رواية المستملي في أوله ‏"‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر فقال ‏"‏ وأخرجه الإسماعيلي من طريق خلف بن هشام عن أبي شهاب كالأكثر، ومن طريق محمد بن زياد البلدي عن أبي شهاب مطولا، واسم ‏"‏ أبي شهاب ‏"‏ هذا عبد ربه بن نافع الحناط بالحاء المهملة والنون، واسم الراوي عنه عاصم بن يوسف كان خياطا بالخاء المعجمة والتحتانية، قال الطبري تفرد أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد بقوله عيانا وهو حافظ متقن من ثقات المسلمين انتهى‏.‏

وذكر شيخ الإسلام الهروي في كتابه الفاروق أن زيد ابن أبي أنيسة رواه أيضا عن إسماعيل بهذا اللفظ وساقه من رواية ‏"‏ أكثر من ستين نفسا ‏"‏ عن إسماعيل بلفظ واحد كالأول‏.‏

قوله ‏(‏لا تضامون‏)‏ بضم أوله وتخفيف الميم للأكثر وفيه روايات أخرى تقدم بيانها في باب الصراط جسر جهنم من ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وقال البيهقي الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله ‏"‏ لا تضامون في رؤيته ‏"‏ بالضم والتشديد معناه لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا يضم بعضكم إلى بعض، ومعناه بفتح التاء كذلك والأصل لا تتضامون في رؤيته باجتماع في جهة وبالتخفيف من الضيم، ومعناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا شَكَّ إِبْرَاهِيمُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ السَّعْدَانَ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ أَوْ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ أَوْ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ أَبَدًا وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ فَيَقُولُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ لَا أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ قَالَ لَهُ ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ تَمَنَّهْ فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ

قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا حَفِظْتُ إِلَّا قَوْلَهُ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ إن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال‏:‏ هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ‏"‏ الحديث بطوله وقد مضى شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ ووقع هنا في قوله ‏"‏ فإذا جاء ربنا عرفناه ‏"‏ في رواية أبي ذر عن الكشميهني ‏"‏ فإذا جاءنا ‏"‏ ويحتاج إلى تأمل‏.‏

وفي قوله ‏"‏ أول من يجيز ‏"‏ في رواية المستملي ‏"‏ يجيء ‏"‏ من المجيء وفي قوله ‏"‏ ويعطى ربه ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ويعطى الله ‏"‏ وفي قوله ‏"‏ أي رب لا أكون ‏"‏ في رواية المستملي ‏"‏ لا أكونن ‏"‏ وقد تقدمت الإشارة لذلك وغيره في شرح الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ثُمَّ قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ وَأَصْحَابُ الْأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ فَيَقُولُونَ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا قَالَ فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجَسْرُ قَالَ مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتُحِشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ

فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ اللُّؤْلُؤُ فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِيمُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا قَالَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ قَالَ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ أَكْلَهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَالَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي فَيَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قَالَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا قَالَ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في معنى حديث أبي هريرة بطوله، وتقدم شرحه أيضا هناك، وقوله في سنده عن زيد هو ابن أسلم، ‏"‏ وعطاء ‏"‏ هو ابن يسار، وقوله فيه ‏"‏ وأصحاب آلهة مع آلهتهم ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ إلههم ‏"‏ بالإفراد وقوله ‏"‏ ما يجلسكم ‏"‏ بالجيم واللام من الجلوس أي يقعدكم عن الذهاب‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ ما يحبسكم ‏"‏ بالحاء والموحدة من الحبس أي يمنعكم وهو بمعناه، وقوله فيه ‏"‏ فيأتيهم الله في صورة ‏"‏ استدل ابن قتيبة بذكر الصورة على أن لله صورة لا كالصور كما ثبت أنه شيء لا كالأشياء وتعقبوه‏.‏

وقال ابن بطال تمسك به المجسمة فأثبتوا لله صورة، ولا حجة لهم فيه لاحتمال أن يكون بمعنى العلامة وضعها الله لهم دليلا على معرفته كما يسمى الدليل والعلامة صورة وكما تقول صورة حديثك كذا وصورة الأمر كذا والحديث والأمر لا صورة لهما حقيقة، وأجاز غيره أن المراد بالصورة الصفة، وإليه ميل البيهقي، ونقل ابن التين أن معناه صورة الاعتقاد، وأجاز الخطابي أن يكون الكلام خرج على وجه المشاكلة لما تقدم من ذكر الشمس والقمر والطواغيت، وقد تقدم بسط هذا هناك، وكذا قوله ‏"‏ نعوذ بك ‏"‏ وقال غيره في قوله في الصورة التي يعرفونها يحتمل أن يشير بذلك إلى ما عرفوه حين أخرج ذرية آدم من صلبه ثم أنساهم ذلك في الدنيا ثم يذكرهم بها في الآخرة، وقوله ‏"‏فإذا رأينا ربنا عرفناه ‏"‏ قال ابن بطال عن المهلب إن الله يبعث لهم ملكا ليختبرهم في اعتقاد صفات ربهم الذي ليس كمثله شيء فإذا قال لهم أنا ربكم ردوا عليه لما رأوا عليه من صفة المخلوق، فقوله فإذا جاء ربنا عرفناه أي إذا ظهر لنا في ملك لا ينبغي لغيره وعظمة لا تشبه شيئا من مخلوقاته فحينئذ يقولون أنت ربنا، قال‏:‏ وأما قوله ‏"‏ هل بينكم وبينه علامة تعرفونها، فيقولون الساق ‏"‏ فهذا يحتمل أن الله عرفهم على ألسنة الرسل من الملائكة أو الأنبياء أن الله جعل لهم علامة تجليه الساق، وذلك أنه يمتحنهم بإرسال من يقول لهم أنا ربكم وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ‏(‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏)‏ وهي وإن ورد أنها في عذاب القبر فلا يبعد أن تتناول يوم الموقف أيضا، قال‏:‏ وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏يوم يكشف عن ساق‏)‏ قال عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه‏:‏ قد سن أصحابك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها عن نور عظيم قال ابن فورك‏:‏ معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف‏.‏

وقال المهلب كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة‏.‏

وقال الخطابي تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن، وزاد‏:‏ إذا خفي عليكم شيء من القرآن فأتبعوه من الشعر وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد ‏"‏ في سنة قد كشفت عن ساقها ‏"‏ وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال‏:‏ يريد يوم القيامة، قال الخطابي وقد يطلق ويراد النفس، وقوله فيه ‏"‏ ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ‏"‏ ذكر العلامة جمال الدين بن هشام في المغني أنه وقع في البخاري في هذا الموضع ‏"‏ كيما ‏"‏ مجردة وليس بعدها لفظ يسجد فقال بعد أن حكى عن الكوفيين‏:‏ إن كي ناصبة دائما، قال ويرده قولهم كيمه كما يقولون لمه، وأجابوا بأن التقدير كي تفعل ماذا، ويلزمهم كثرة الحذف وإخراج ما الاستفهامية عن الصدر وحذف ألفها في غير الجر، وحذف الفعل المنصوب مع بقاء عامل النصب وكل ذلك لم يثبت، نعم وقع في صحيح البخاري في تفسير ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة‏)‏ فيذهب كيما فيعود ظهره طبقا واحدا، أي كيما يسجد، وهو غريب جدا لا يحتمل القياس عليه انتهى كلامه، وكأنه وقعت له نسخة سقطت منها هذه اللفظة، لكنها ثابتة في جميع النسخ التي وقفت عليها حتى أن ابن بطال ذكرها بلفظ ‏"‏ كي يسجد ‏"‏ بحذف ما، وكلام ابن هشام يوهم أن البخاري أورده في التفسير، وليس كذلك بل ذكرها هنا فقط، وقوله فيه ‏"‏ فيعود ظهره طبقا واحدا ‏"‏ قال ابن بطال تمسك به من أجاز تكليف ما لا يطاق من الأشاعرة واحتجوا أيضا بقصة أبي لهب، وأن الله كلفه الإيمان به مع إعلامه بأنه يموت على الكفر ويصلى نارا ذات لهب، قال ومنع الفقهاء من ذلك وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏)‏ وأجابوا عن السجود بأنهم يدعون إليه تبكيتا إذ أدخلوا أنفسهم في المؤمنين الساجدين في الدنيا فدعوا مع المؤمنين إلى السجود فتعذر عليهم فأظهر الله بذلك نفاقهم وأخزاهم، قال ومثله من التبكيت ما يقال لهم بعد ذلك ‏(‏ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا‏)‏ وليس في هذا تكليف ما لا يطاق بل إظهار خزيهم، ومثله كلف أن يعقد شعيرة فإنها للزيادة في التوبيخ والعقوبة انتهى‏.‏

ولم يجب عن قصة أبي لهب وقد ادعى بعضهم أن مسألة تكليف ما لا يطاق لم تقع إلا بالإيمان فقط، وهي مسألة طويلة الذيل ليس هذا موضع ذكرها، وقوله ‏"‏قال مدحضة مزلة ‏"‏ بفتح الميم وكسر الزاي ويجوز فتحها وتشديد اللام، قال أي موضع الزلل ويقال بالكسر في المكان وبالفتح في المقال، ووقع في رواية أبي ذر عن الكشميهني هنا الدحض الزلق، ليدحضوا ليزلقوا زلقا لا يثبت فيه قدم، وهذا قد تقدم لهم في تفسير سورة الكهف، وتقدم هناك الكلام عليه، وقوله ‏"‏عليه خطاطيف وكلاليب ‏"‏ تقدم بيانه، وقوله ‏"‏وحسكة ‏"‏ بفتح الحاء والسين المهملتين قال صاحب التهذيب وغيره الحسك نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم وربما اتخذ مثله من حديد وهو من آلات الحرب، وقوله ‏"‏مفلطحة ‏"‏ بضم الميم وفتح الفاء وسكون اللام بعدها طاء ثم حاء مهملتان كذا وقع عند الأكثر‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ مطلفحة ‏"‏ بتقديم الطاء وتأخير الفاء واللام قبلها ولبعضهم كالأول لكن بتقديم الحاء على الطاء والأول هو المعروف في اللغة وهو الذي فيه اتساع وهو عريض، يقال فلطح القرص بسطه وعرضه، وقوله شوكة عقيفة بالقاف ثم الفاء وزن عظيمة، ولبعضهم عقيفاء بصيغة التصغير ممدود‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قرأت في تنقيح الزركشي وقع هنا في حديث أبي سعيد بعد شفاعة الأنبياء فيقول الله‏:‏ بقيت شفاعتي فيخرج من النار من لم يعمل خيرا، وتمسك به بعضهم في تجويز إخراج غير المؤمنين من النار ورد بوجهين أحدهما أن هذه الزيادة ضعيفة لأنها غير متصلة كما قال عبد الحق في الجمع، والثاني أن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث هكذا قال، والوجه الأول غلط منه فإن الرواية متصلة هنا، وأما نسبة ذلك لعبد الحق فغلط على غلط لأنه لم يقله إلا في طريق أخرى وقع فيها، أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبه خردل من خير‏.‏

قال‏:‏ هذه الرواية غير متصلة، ولما ساق حديث أبي سعيد الذي في هذا الباب ساقه بلفظ البخاري ولم يتعقبه بأنه غير متصل ولو قال ذلك لتعقبناه عليه فإنه لا انقطاع في السند أصلا، ثم إن لفظ حديث أبي سعيد هنا ليس كما ساقه الزركشي وإنما فيه‏:‏ فيقول الجبار بقيت شفاعتي فيخرج أقواما قد امتحشوا، ثم قال في آخره‏:‏ فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيجوز أن يكون الزركشي ذكره بالمعنى‏.‏

حديث أنس في الشفاعة وقد مضى شرحه مستوفى في باب صفة الجنة والنار من ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وقوله هنا ‏"‏ وقال حجاج بن منهال حدثنا همام ‏"‏ كذا عند الجميع إلا في رواية أبي زيد المروزي عن الفربري، فقال فيها ‏"‏ حدثنا حجاج ‏"‏ وقد وصله الإسماعيلي من طريق إسحاق بن إبراهيم وأبو نعيم من طريق محمد ابن أسلم الطوسي قالا ‏"‏ حدثنا حجاج بن منهال ‏"‏ فذكره بطوله وساقوا الحديث كله إلا النسفي فساق منه إلى قوله ‏"‏ خلقك الله بيده ‏"‏ ثم قال ‏"‏ فذكر الحديث ‏"‏ ووقع لأبي ذر عن الحموي نحوه لكن قال ‏"‏ وذكر الحديث بطوله ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ حتى يهموا بذلك ‏"‏ ونحوه للكشميهني‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ ثلاث كذبات ‏"‏ في رواية المستملي ‏"‏ ثلاث كلمات ‏"‏ وقوله ‏"‏ فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ‏"‏ قال الخطابي هذا يوهم المكان والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره الذي اتخذها لأوليائه وهي الجنة وهي دار السلام، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل بيت الله وحرم الله، وقوله فيه ‏"‏ قال قتادة سمعته يقول فأخرجهم ‏"‏ هو موصول بالسند المذكور، ووقع للكشميهني ‏"‏ وسمعته أيضا يقول ‏"‏ وللمستملي ‏"‏ وسمعته يقول‏:‏ فأخرج فأخرجهم ‏"‏ الأول بفتح الهمزة وضم الراء والثاني بضم الهمزة وكسر الراء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ لَهُمْ اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ

الشرح‏:‏

حديث أنس‏:‏ اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض‏.‏

قوله في السند ‏(‏حدثني عمي‏)‏ هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد وأبوه هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وليعقوب فيه شيخ آخر أخرجه مسلم من طريقه أيضا عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه وهي أعلى من روايته إياه عن أبيه عن ‏"‏ صالح ‏"‏ وهو ابن كيسان عن ابن شهاب الزهري‏.‏

قوله ‏(‏أرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة‏)‏ كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه وقال في أوله ‏"‏ لما أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن ‏"‏ ثم أحال ببقيته على الرواية التي قبلها من طريق يونس عن الزهري ‏"‏ فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش ‏"‏ فذكر الحديث في معاتبتهم، وفي آخره ‏"‏ فقالوا بلى يا رسول الله رضينا، قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض ‏"‏ وقد تقدم من وجه آخر في غزوة حنين وساقه من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أتم منه، وتقدم شرحه مستوفى هناك بحمد الله تعالى‏.‏

والغرض منه هنا قوله ‏"‏ حتى تلقوا الله ورسوله ‏"‏ فإنها زيادة لم تقع في بقية الطرق، وقد تقدم في أوائل الفتن من رواية أنس عن أسيد بن الحضير في قصة فيها ‏"‏ فسترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني ‏"‏ وترجم له في مناقب الأنصار‏:‏ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعني للأنصار ‏"‏ اصبروا حتى تلقوني على الحوض ‏"‏ قال الراغب‏:‏ اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته، لقيه يلقاه ويقال أيضا في الإدراك بالحسن وبالبصيرة، ومنه ‏(‏ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه‏)‏ وملاقاة الله يعبر بها عن الموت وعن يوم القيامة، وقيل ليوم القيامة يوم التلاقي لالتقاء الأولين والآخرين فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ طَاوُسٍ قَيَّامُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَأَ عُمَرُ الْقَيَّامُ وَكِلَاهُمَا مَدْحٌ

الشرح‏:‏

عن ابن عباس في الدعاء عند قيام الليل وقد تقدم شرحه في أوائل ‏"‏ كتاب التهجد ‏"‏ مستوفى، والغرض منه قوله ‏"‏ ولقاءك حق ‏"‏ وقد ذكرت ما يتعلق باللقاء في الذي قبله ‏"‏ وسفيان ‏"‏ في سنده هو الثوري، ‏"‏ وسليمان ‏"‏ هو ابن أبي مسلم، وقوله فيه ‏"‏ وقال قيس بن سعد وأبو الزبير عن طاوس قيام ‏"‏ يريد أن قيس بن سعد روي هذا الحديث عن طاوس عن ابن عباس، فوقع عنده بدل قوله‏:‏ أنت قيم السموات والأرض‏:‏ ‏"‏ أنت قيام السموات والأرض ‏"‏ وكذلك أبو الزبير عن طاوس وطريق قيس وصلها مسلم وأبو داود من طريق عمران ابن مسلم عن قيس ولم يسوقا لفظه وساقها النسائي كذلك وأبو نعيم في المستخرج، ورواية أبي الزبير وصلها مالك في الموطأ عنه وأخرجها مسلم من طريقه ولفظه‏:‏ ‏"‏ قيام السموات والأرض‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ القيوم‏:‏ القائم على شيء‏)‏ وصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، قال الحليمي القيوم القائم على كل شيء من خلقه يدبره بما يريد‏.‏

وقال أبو عبيدة بن المثنى القيوم فيعول وهو القائم الذي لا يزول‏.‏

وقال الخطابي القيوم نعت للمبالغة في القيام على كل شيء فهو القيم على كل شيء بالرعاية له‏.‏

قوله ‏(‏وقرأ عمر القيام‏)‏ قلت تقدم ذكر من وصله عن عمر في تفسير سورة نوح‏.‏

قوله ‏(‏وكلاهما مدح‏)‏ أي القيوم والقيام لأنهما من صيغ المبالغة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ

الشرح‏:‏

حديث عدي بن حاتم ‏"‏ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ‏"‏ وقوله في سنده عن خيثمة في رواية حفص بن غياث عن الأعمش‏:‏ حدثني خيثمة بن عبد الرحمن كما تقدم في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وسياقه هناك أتم، وسيأتي أيضا من وجه آخر عن الأعمش وقوله ‏"‏ ولا حجاب يحجبه ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ولا حاجب ‏"‏ قال ابن بطال معنى رفع الحجاب إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، ويشير إليه قوله تعالى في حق الكفار ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في شرح قوله في قصة معاذ ‏"‏ واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ‏"‏ المراد بالحاجب والحجاب نفي المانع من الرؤية كما نفى عدم إجابة دعاء المظلوم ثم استعار الحجاب للرد فكان نفيه دليلا على ثبوت الإجابة والتعبير بنفي الحجاب أبلغ من التعبير بالقبول، لأن الحجاب من شأنه المنع من الوصول إلى المقصود فاستعير نفيه لعدم المنع، ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية، وهي أن يشترك شيئان في وصف ثم يعتمد لوازم أحدهما حيث تكون جهة الاشتراك وصفا فيثبت كماله في المستعار بواسطة شيء آخر فيثبت ذلك للمستعار مبالغة في إثبات المشترك، قال وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسم، قال‏:‏ ويحتمل أن يراد بالحجاب استعارة محسوس لمعقول لأن الحجاب حسي والمنع عقلي، قال‏:‏ وقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة والله سبحانه وتعالى منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس‏.‏

ولكن المراد بحجابه منعه أبصار خلقه وبصائرهم بما شاء متى شاء كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم، ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده ‏"‏ وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه ‏"‏ فإن ظاهره ليس مرادا قطعا فهي استعارة جزما وقد يكون المراد بالحجاب في بعض الأحاديث الحجاب الحسي لكنه بالنسبة للمخلوقين والعلم عند الله تعالى، ونقل الطيبي في شرح حديث أبي موسى عند مسلم ‏"‏ حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره ‏"‏ أن فيه إشارة إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وأشعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول وتبهت الأبصار وتتحير البصائر، فلو كشفه فتجلى لما وراءه بحقائق الصدفات وعظمة الذات لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا منظور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد به هنا منع الأبصار من الرؤية له بما ذكر فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل فعبر به عنه، وقد ظهر من نصوص الكتاب والسنة أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث هي في دار الدنيا المعدة للفناء دون دار الآخرة المعدة للبقاء، والحجاب في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه‏.‏

وقال النووي‏:‏ أصل الحجاب المنع من الرؤية، والحجاب في حقيقة اللغة الستر، وإنما يكون في الأجسام والله سبحانه منزه عن ذلك، فعرف أن المراد المنع من رؤيته وذكر النور لأنه يمنع من الإدراك في العادة لشعاعه، والمراد بالوجه الذات وبما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات لأنه سبحانه محيط بجميع الكائنات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى ‏"‏ وعبد العزيز بن عبد الصمد ‏"‏ هو ابن عبد الصمد العمي بفتح المهملة وتشديد الميم، ‏"‏ وأبو عمران ‏"‏ هو عبد الملك بن حبيب الجوني، ‏"‏ وأبو بكر ‏"‏ هو ابن أبي موسى الأشعري، وقد تقدم ذلك في تفسير سورة الرحمن‏.‏

قوله ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما‏)‏ في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد لا أعلمه إلا قد رفعه قال‏:‏ ‏"‏ جنتان من ذهب للمقربين ومن دونهما جنتان من ورق لأصحاب اليمين ‏"‏ أخرجه الطبري وابن أبي حاتم ورجاله ثقات وفيه رد على ما حكيته على الترمذي الحكيم أن المراد بقوله تعالى ‏(‏ومن دونهما جنتان‏)‏ الدنو بمعنى القرب لا أنهما دون الجنتين المذكورتين قبلهما، وصرح جماعة بأن الأوليين أفضل من الأخريين، وعكس بعض المفسرين، والحديث حجة للأولين، قال الطبري اختلف في قوله ‏(‏ومن دونهما جنتان‏)‏ فقال بعضهم معناه في الدرجة‏.‏

وقال آخرون معناه في الفضل، وقوله جنتان إشارة إلى قوله تعالى ‏(‏ومن دونهما جنتان‏)‏ وتفسير له، وهو خبر مبتدأ محذوف أي هما جنتان، وآنيتهما مبتدأ، ومن فضة خبره، قاله الكرماني قال‏:‏ ويحتمل أن يكون فاعل فضة كما قال ابن مالك مررت بواد إبل كله، أن كله فاعل أي جنتان مفضض آنيتهما انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، وظاهر الأول أن الجنتين من ذهب لا فضة فيهما وبالعكس، ويعارضه حديث أبي هريرة‏:‏ قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها‏؟‏ قال‏:‏ لبنة من ذهب ولبنة من فضة، الحديث أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان، وله شاهد عن ابن عمر أخرجه الطبراني وسنده حسن وآخر عن أبي سعيد أخرجه البزار ولفظه ‏"‏ خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ‏"‏ الحديث، ويجمع بأن الأول صفة ما في كل جنة من آنية وغيرها، والثاني صفة حوائط الجنان كلها، ويؤيده أنه وقع عند البيهقي في البعث في حديث أبي سعيد ‏"‏ أن الله أحاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ‏"‏ وعلى هذا فقوله ‏"‏ آنيتهما وما فيهما ‏"‏ بدل من قوله ‏"‏ من ذهب ‏"‏ ويترجح الاحتمال الثاني‏.‏

قوله ‏(‏وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه‏)‏ قال المازري‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تفهم ويخرج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس ليقرب تناولهم لها، فعبر عن زوال الموانع ورفعه عن الأبصار بذلك‏.‏

وقال عياض كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرا، وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازها، ومنه قوله تعالى ‏(‏جناح الذل‏)‏ فمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم برداء الكبرياء على وجهه ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها كأن يقول استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته وجلاله المانع إدراك أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداء الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم وقلوبهم كشف عنهم حجاب هيبته وموانع عظمته انتهى ملخصا‏.‏

وقال الطيبي قوله ‏"‏ على وجهه ‏"‏ حال من رداء الكبرياء‏.‏

وقال الكرماني هذا الحديث من المتشابهات فإما مفوض وإما متأول بأن المراد بالوجه الذات، والرداء صفة من صفة الذات اللازمة المنزهة عما يشبه المخلوقات، ثم استشكل ظاهره بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة، وأجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر إذ رداء الكبرياء لا يكون مانعا من الرؤية فعبر عن زوال المانع عن الإبصار بإزالة المراد انتهى‏.‏

وحاصله أن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية فكأن في الكلام حذفا تقديره بعد قوله إلا رداء الكبرياء‏:‏ فإنه يمن عليهم برفعه فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه، فكأن المراد أن المؤمنين إذا تبوؤوا مقاعدهم من الجنة لولا ما عندهم من هيبة ذي الجلال لما حال بينهم وبين الرؤية حائل، فإذا أراد إكرامهم حفهم برأفته وتفضل عليهم بتقويتهم على النظر إليه سبحانه، ثم وجدت في حديث صهيب في تفسير قوله تعالى ‏(‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏)‏ ما يدل على أن المراد برداء الكبرياء في حديث أبي موسى الحجاب المذكور في حديث صهيب، وأنه سبحانه يكشف لأهل الجنة إكراما لهم، والحديث عند مسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان ولفظ مسلم ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل‏:‏ تريدون شيئا أزيدكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ألم تبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة‏؟‏ قال‏:‏ فيكشف لهم الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم منه، ثم تلا هذه الآية ‏(‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏)‏ أخرجه مسلم عقب حديث أبي موسى، ولعله أشار إلى تأويله به‏.‏

وقال القرطبي في المفهم الرداء استعارة كنى بها عن العظمة كما في الحديث الآخر ‏"‏ الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ‏"‏ وليس المراد الثياب المحسوسة لكن المناسبة أن الرداء والإزار لما كانا متلازمين للمخاطب من العرب عبر عن العظمة والكبرياء بهما، ومعنى حديث الباب أن مقتضى عزة الله واستغنائه أن لا يراه أحد لكن رحمته للمؤمنين اقتضت أن يريهم وجهه كما لا للنعمة، فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء فكأنه رفع عنهم حجابا كان يمنعهم، ونقل الطبري عن علي وغيره في قوله تعالى ‏(‏ولدينا مزيد‏)‏ قال هو النظر إلى وجه الله‏.‏

قوله ‏(‏في جنة عدن‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان لما ثبت من استحالة أن يكون سبحانه جسما أو حالا في مكان، فيكون تأويل الرداء‏:‏ الآفة الموجودة لأبصارهم المانعة لهم من رؤيته، وإزالتها فعل، من أفعاله يفعله في محل رؤيتهم فلا يرونه ما دام ذلك المانع موجودا، فإذا فعل الرؤية زال ذلك المانع وسماه رداء لتنزله في المنع منزلة الرداء الذي يحجب الوجه عن رؤيته فأطلق عليه الرداء مجازا، وقوله ‏"‏في جنة عدن ‏"‏ راجع إلى القوم‏.‏

وقال عياض معناه راجع إلى النظرين أي وهم في جنة عدن لا إلى الله فإنه لا تحويه الأمكنة سبحانه‏.‏

وقال القرطبي يتعلق بمحذوف في موضع الحال من القوم مثل كائنين، في جنة عدن‏.‏

وقال الطيبي قوله ‏"‏ في جنة عدن متعلق بمعنى الاستقرار في الظرف فيقيد بالمفهوم انتفاء هذا الحصر في غير الجنة، وإليه أشار التوربشتي بقوله‏:‏ يشير إلى أن المؤمن إذا تبوأ مقعده والحجب مرتفعة والموانع التي تحجب عن النظر إلى ربه مضمحلة إلا ما يصدهم من الهيبة كما قيل‏:‏ أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله فإذا حفهم برأفته ورحمته رفع ذلك عنهم تفضلا منه عليهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ وَجَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

عن ‏"‏ عبد الله ‏"‏ وهو ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏قال عبد الله‏)‏ وهو ابن مسعود راويه، وهو موصول بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏مصداقه‏)‏ أي الحديث، ومصداق بكسر أوله مفعال من الصدق بمعنى الموافقة‏.‏

قوله ‏(‏إن الذين يشترون - إلى أن قال - ولا يكلمهم الله الآية‏)‏ كذا لأبي ذر وغيره والمراد هنا من هذه الآية قوله بعده ‏(‏ولا ينظر إليهم‏)‏ ويؤخذ منه تفسير قوله ‏"‏ لقي الله وهو عليه غضبان ‏"‏ ومقتضاه أن الغضب سبب لمنع الكلام، والرؤية والرضا سبب لوجودهما، وقد تقدم شرح هذا الحديث في ‏"‏ كتاب الأيمان والنذور‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏.‏

قوله ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن دينار المكي، وقد تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في ‏"‏ كتاب الشرب ‏"‏ وتقدم شرحه مستوفى في أواخر الأحكام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحَجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلَا لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ

الشرح‏:‏

حديث أبي بكرة ‏"‏ وعبد الوهاب ‏"‏ في سنده هو ابن عبد المجيد الثقفي، ‏"‏ وأيوب ‏"‏ هو السختياني، ‏"‏ ومحمد ‏"‏ هو ابن سيرين، ‏"‏ وابن أبي بكرة ‏"‏ هو عبد الرحمن كما وقع التصريح به في ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ والسند كله بصريون، وقد تقدم بعينه في بدء الخلق وفي المغازي، وأغفل المزي ذكر هذا السند في التوحيد وفي المغازي وهو ثابت فيهما، وزعم أنه أخرجه في التفسير عن أبي موسى ولم أره في التفسير مع أنه لم يذكر منه في بدء الخلق إلا قطعة يسيرة إلى قوله‏:‏ ‏"‏ وشعبان ‏"‏ وساقه بتمامه في المغازي، ‏"‏ وهنا ‏"‏ إلا أنه سقط من وسطه هنا عند أبي ذر عن السرخسي، قوله قال‏:‏ ‏"‏ فأي يوم هذا - إلى قوله - قال فإن دماءكم ‏"‏ وقد تقدم شرحه مفرقا، أما ما يتعلق بأوله وهو ‏"‏ أن الزمان قد استدار كهيئته ‏"‏ ففي تفسير سورة براءة، وأما ما يتعلق بالشهر الحرام والبلد الحرام‏.‏

ففي باب الخطبة أيام مني من ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ وأما ما يتعلق بالنهي عن ضرب بعضهم رقاب بعض ففي ‏"‏ كتاب الفتن‏"‏، وأما ما يتعلق بالحث على التبليغ ففي ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ والمراد منه هنا قوله ‏"‏ وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ‏"‏ وقد ذكرت ما فسر به اللقاء في الحديث الخامس، وبالله التوفيق‏.‏

‏(‏تكملة‏)‏ ‏:‏ جمع الدار قطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد، وأسند الدار قطني عن يحيى بن معين قال عندي سبعة عشر حديثا في الرؤية صحاح‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما جاء في قول الله تعالى‏:‏ إن رحمة الله قريب من المحسنين‏)‏ قال ابن بطال الرحمة تنقسم إلى صفة ذات وإلى صفة فعل، وهنا يحتمل أن تكون صفة ذات، فيكون معناها إرادة إثابة الطائعين، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون معناها أن فضل الله بسوق السحاب وإنزال المطر قريب من المحسنين فكان ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وإرادته، ونحو تسمية الجنة رحمة لكونها فعلا من أفعاله حادثة بقدرته‏.‏

وقال البيهقي في ‏"‏ كتاب الأسماء والصفات ‏"‏ باب الأسماء التي تتبع إثبات التدبير لله دون من سواه فمن ذلك ‏"‏ الرحمن الرحيم ‏"‏ قال الخطابي‏:‏ معنى الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم، قال‏:‏ والرحيم خاص بالمؤمنين كما قال سبحانه ‏(‏وكان بالمؤمنين رحيما‏)‏ وقال غيره‏:‏ الرحمن خاص في التسمية عام في الفعل، والرحيم عام في التسمية خاص في الفعل انتهى‏.‏

وقد تقدم شيء من هذا في أوائل التوحيد في باب ‏(‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏)‏ وتكلم أهل العربية على الحكمة في تذكير قريب مع أنه وصف الرحمة فقال الفراء‏:‏ قريبة وبعيدة إن أريد بها النسب ثبوتا ونفيا فتؤنث جزما فتقول فلانة قريبة أو ليست قريبة لي، فإن أريد المكان جاز الوجهان لأنه صفة المكان فتقول فلانة قريبة وقريب إذا كانت في مكان غير بعيد، ومنه قوله‏:‏ عشية لا عفراء منك قريبة فتدنوا ولا عفراء منك بعيد ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏"‏ له الويل إن أمسى ولا أم سالم ‏"‏ قريب البيت وأما قول بعضهم سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما فمردود لأنه رد الجائز بالمشهور‏.‏

وقال تعالى ‏(‏وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا‏)‏ وقال أبو عبيدة قريب في قوله تعالى ‏(‏قريب من المحسنين‏)‏ ليس وصفا للرحمة إنما هو ظرف لها فجاز فيه التأنيث والتذكير ويصلح للجمع والمثنى والمفرد، ولو أريد بها الصفة لوجبت المطابقة، وتعقبه الأخفش بأنها لو كانت ظرفا لنصبت، وأجيب بأنه يتسع في الظرف ووراء ذلك أجوبة أخرى متقاربة، ويقال إن أقواها قول أبي عبيدة فقيل‏:‏ هي صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب، وقيل‏:‏ لما كانت بمعنى الغفران أو العفو أو المطر أو الإحسان حملت عليه، وقيل‏:‏ الرحم بالضمة والرحمة بمعنى واحد فذكر باعتبار الرحم، وقيل المعنى أنها ذات قرب كقولهم حائض لأنها ذات حيص، وقيل‏:‏ هو مصدر جاء على فعيل كنقيق لصوت الضفدع، وقيل‏:‏ لما كان وزنه وزن المصدر نحو زفير وشهيق أعطى حكمه في استواء التذكير والتأنيث، وقيل‏:‏ إن الرحمة بمعنى مفعلة فتكون بمعنى مفعول وفعيل بمعنى مفعول كثير، وقيل‏:‏ أعطى فعيل بمعنى فاعل حكم فعيل بمعنى مفعول، وقيل‏:‏ هو من التأنيث المجازي كطلع الشمس وبهذا جزم ابن التين، وتعقبوه بأن شرطه تقدم الفعل وهنا جاء الفعل متأخرا فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر، وأجيب بأن بعضهم حكى الجواز مطلقا والله أعلم‏.‏

ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا فَأَرْسَلَ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْتُ مَعَهُ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ حَسِبْتُهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنَّةٌ فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَتَبْكِي فَقَالَ إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ

الشرح‏:‏

حديث أسامة بن زيد وقد تقدم التنبيه عليه في أوائل ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ وقوله ‏"‏ إنما يرحم الله ‏"‏ فيه إثبات صفة الرحمة له وهو مقصود الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا فَقَالَتْ الْجَنَّةُ يَا رَبِّ مَا لَهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتْ النَّارُ يَعْنِي أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي وَقَالَ لِلنَّارِ أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا قَالَ فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ثَلَاثًا حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ اختصمت الجنة والنار ‏"‏ و ‏"‏ يعقوب ‏"‏ في سنده هو ابن إبراهيم بن سعد الذي تقدم في الحديث الخامس من الباب قبله، ‏"‏ والأعرج ‏"‏ هو عبد الرحمن بن هرمز، وليس لصالح بن كيسان عنه في الصحيحين إلا هذا الحديث‏.‏

قوله ‏(‏اختصمت‏)‏ في رواية همام عن أبي هريرة المتقدمة في سورة ق ‏"‏ تحاجت ‏"‏ ولمسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج ‏"‏ احتجت ‏"‏ وكذا له من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة، وكذا في حديث أبي سعيد عنده قال الطيبي‏:‏ تحاجت أصله تحاججت وهو مفاعلة من الحجاج وهو الخصام وزنه ومعناه، يقال‏:‏ حاججته محاججة ومحاجة وحجاجا أي غالبته بالحجة ومنه ‏"‏ فحج آدم موسى ‏"‏ لكن حديث الباب لم يظهر فيه غلبة واحد منهما‏.‏

قلت‏:‏ إنما وزان ‏"‏ فحج آدم موسى ‏"‏ لو جاء تحاجت الجنة والنار فحاجت الجنة النار، وإلا فلا يلزم من وقوع الخصام الغلبة، قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة بأن يخلق الله فيهما حياة وفهما وكلاما والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازا كقولهم ‏"‏ امتلأ الحوض وقال قطني ‏"‏ والحوض لا يتكلم وإنما ذلك عبارة عن امتلائه وأنه لو كان ممن ينطق لقال ذلك، وكذا في قول النار ‏(‏هل من مزيد‏)‏ قال وحاصل اختصاصهما افتخار أحدهما على الأخرى بمن يسكنها فتظن النار أنها بمن ألقى فيها من عظماء الدنيا أبر عند الله من الجنة، وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله تعالى أبر عند الله، فأجيبتا بأنه لا فضل لإحدهما على الأخرى من طريق من يسكنهما، وفي كلاهما شائبة شكاية إلى ربهما إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد رد الله الأمر في ذلك إلى مشيئته، وقد تقدم كلام النووي في هذا في تفسير ق‏.‏

وقال صاحب المفهم‏:‏ يجوز أن يخلق الله ذلك القوم فيما شاء من أجزاء الجنة والنار، لأنه لا يشترط عقلا في الأصوات أن يكون محلها حيا على الراجح ولو سلمنا الشرط لجاز أن يخلق الله في بعض أجزائهما الجمادية حياة لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن الدار الآخرة لهي الحيوان‏)‏ إن كل ما في الجنة حي، ويحتمل أن يكون ذلك بلسان الحال والأول أولى‏.‏

قوله ‏(‏فقالت الجنة يا رب ما لها‏)‏ فيه التفات لأن نسق الكلام أن تقول مالي، وقد وقع كذلك في رواية همام مالي، وكذا لمسلم عن أبي الزناد‏.‏

قوله ‏(‏إلا ضعفاء الناس وسقطهم‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ وعجزهم ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ وغرثهم ‏"‏ وقد تقدم بيان المراد بالضعفاء في تفسير ق، وسقطهم بفتحتين جمع ساقط وهو النازل القدر الذي لا يؤبه له، وسقط المتاع رديئه وعجزهم بفتحتين أيضا جمع عاجز ضبطه عياض، وتعقبه القرطبي بأنه يلزم أن يكون بتاء التأنيث ككاتب وكتبة وسقوط التاء في هذا الجمع نادر، قال والصواب بضم أوله وتشديد الجيم مثل‏:‏ شاهد وشهد، وأما ‏"‏ غرثهم ‏"‏ فهو بمعجمة ومثلثة جمع غرثان أي جيعان، ووقع في رواية الطبري بكسر أوله وتشديد الراء ثم مثناة أي غفلتهم، والمراد به أهل الإيمان الذين لم يتفطنوا للشبه، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك فهم أهل عقائد صحيحة وإيمان ثابت وهم الجمهور، وأما أهل العلم والمعرفة فهم بالنسبة إليهم قليل‏.‏

قوله ‏(‏وقالت النار فقال للجنة‏)‏ كذا وقع هنا مختصرا قال ابن بطال سقط قول النار هنا من جميع النسخ وهو محفوظ في الحديث، رواه ابن وهب عن مالك بلفظ أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين‏.‏

قلت‏:‏ هو في غرائب مالك للدار قطني وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد وله من رواية سفيان عن أبي الزناد ‏"‏ يدخلني الجبارون والمتكبرون ‏"‏ وفي رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ مالي لا يدخلني إلا ‏"‏ أخرجه النسائي، وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ فقالت النار في ‏"‏ أخرجه أبو يعلى وساق مسلم سنده‏.‏

قوله ‏(‏فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي‏)‏ زاد أبو الزناد في روايته ‏"‏ أرحم بك من أشاء من عبادي ‏"‏ وكذا لهمام‏.‏

قوله ‏(‏وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء‏)‏ زاد أبو الزناد ‏"‏ من عبادي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ملؤها‏)‏ بكسر أوله وسكون اللام بعدها همزة‏.‏

قوله ‏(‏فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وأنه ينشئ للنار من يشاء‏)‏ قال أبو الحسن القابسي المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقا وأما النار فيضع فيها قدمه قال‏:‏ ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقا إلا هذا انتهى‏.‏

وقد مضى في تفسير سورة ق من طريق محمد بن سرين عن أبي هريرة ‏"‏ يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد فيضع الرب عليها قدمه فتقول قط قط ‏"‏ ومن طريق همام بلفظ ‏"‏ فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا ‏"‏ وتقدم هناك بيان اختلافهم في المراد بالقدم مستوفى، وأجاب عياض بأن أحد ما قيل في تأويل القدم أنهم قوم تقدم في علم الله أنه يخلقهم قال‏:‏ فهذا مطابق للإنشاء، وذكر القدم بعد الإنشاء يرجح أن يكونا متغايرين، وعن المهلب قال في هذه الزيادة حجة لأهل السنة في قولهم إن لله أن يعذب من لم يكلفه لعبادته في الدنيا لأن كل شيء ملكه فلو عذبهم لكان غير ظالم انتهى‏.‏

وأهل السنة إنما تمسكوا في ذلك بقوله تعالى ‏(‏لا يسئل عما يفعل‏)‏ و ‏(‏يفعل ما يشاء‏)‏ وغير ذلك، وهو عندهم من جهة الجواز، وأما الوقوع ففيه نظر، وليس في الحديث حجة للاختلاف في لفظه ولقبوله التأويل، وقد قال جماعة من الأئمة إن هذا الموضع مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط واحتج بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني واحتج بقوله ‏(‏ولا يظلم ربك أحدا‏)‏ ثم قال وحمله على أحجار تلقى في النار أقرب من حمله على ذي روح يعذب بغير ذنب انتهى، ويمكن التزام أن يكونوا من ذوي الأرواح ولكن لا يعذبون كما في الخزنة، ويحتمل أن يراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء فهو إنشاء الإدخال لا الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق بدليل قوله ‏"‏ فيلقون فيها وتقول هل من مزيد ‏"‏ وأعادها ثلاث مرات ثم قال ‏"‏ حتى يضع فيها قدمه فحينئذ تمتلئ ‏"‏ فالذي يملؤها حتى تقول حسبي هو القدم كما هو صريح الخبر وتأويل القدم قد تقدم والله أعلم، وقد أيد ابن أبي جمرة حمله على غير ظاهره بقوله تعالى ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ إذ لو كان على ظاهره لكان أهل النار في نعيم المشاهدة كما يتنعم أهل الجنة برؤية ربهم لأن مشاهدة الحق لا يكون معها عذاب‏.‏

وقال عياض يحتمل أن يكون معنى قوله عند ذكر الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا أنه يعذب من يشاء غير ظالم له كما قال أعذب بك من أشاء، ويحتمل أن يكون راجعا إلى تخاصم أهل الجنة والنار، فإن الذي جعل لكل منهما عدل وحكمة وباستحقاق كل منهم من غير أن يظلم أحدا‏.‏

وقال غيره‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك على سبيل التلميح بقوله تعالى ‏(‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا‏)‏ فعبر عن ترك تضييع الأجر بترك الظلم، والمراد أنه يدخل من أحسن الجنة التي وعد المتقين برحمته، وقد قال للجنة أنت رحمتي وقال ‏(‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏)‏ وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة والعلم عند الله تعالى، وفي الحديث دلالة على اتساع الجنة والنار بحيث تسع كل من كان ومن يكون إلى يوم القيامة وتحتاج إلى زيادة، وقد تقدم في آخر الرقاق أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا عشرة أمثالها‏.‏

وقال الداودي يؤخذ من الحديث أن الأشياء توصف بغالبها لأن الجنة قد يدخلها غير الضعفاء والنار قد يدخلها غير المتكبرين، وفيه رد على من حمل قول النار ‏(‏هل من مزيد‏)‏ على أنه استفهام إنكار وأنها لا تحتاج إلى زيادة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنْ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ يُقَالُ لَهُمْ الْجَهَنَّمِيُّونَ وَقَالَ هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفع‏)‏ بفتح المهملة وسكون الفاء ثم مهملة هو أثر تغير البشرة فيبقى فيها بعض سواد‏.‏

قوله ‏(‏وقال همام حدثنا قتادة حدثنا أنس‏)‏ تقدم موصولا في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ مع شرحه وأراد به هنا أن العنعنة التي في طريق هشام محمولة على السماع بدليل رواية همام والله أعلم‏.‏