فصل: باب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب النَّفَقَاتِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب النفقات وفضل النفقة على الأهل‏)‏ كذا لكريمة، وقد تقدم في رواية أبي ذر والنسفي ‏"‏ كتاب النفقات ‏"‏ ثم البسملة ثم قال ‏"‏ باب فضل النفقة على الأهل ‏"‏ وسقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ لأبي ذر‏.‏

*3*باب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْعَفْوُ الْفَضْلُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقول الله عز وجل‏:‏ ويسألونك ماذا ينفقون‏؟‏ قل العفو، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏)‏ كذا للجميع، ووقع للنسفي عند قوله ‏(‏قل العفو‏)‏ وقد قرأ الأكثر ‏"‏ قل العفو ‏"‏ بالنصب أي تنفقون العفو أو أنفقوا العفو، وقرأ أبو عمرو وقبله الحسن وقتادة ‏"‏ قل العفو ‏"‏ بالرفع أي هو العفو، ومثله قولهم‏:‏ ماذا ركبت أفرس أم بعير‏؟‏ يجوز الرفع والنصب‏.‏

قوله ‏(‏وقال الحسن‏:‏ العفو الفضل‏)‏ وصله عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد بسند صحيح عن الحسن البصري وزاد‏:‏ ولا لوم على الكفاف‏.‏

وأخرج عبد بن حميد أيضا من وجه آخر عن الحسن قال ‏"‏ أن لا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس ‏"‏ فعرف بهذا المراد بقوله ‏"‏ الفضل ‏"‏ أي ما لا يؤثر في المال فيمحقه‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم من مرسل يحيى بن أبي كثير بسند صحيح إليه أنه ‏"‏ بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏:‏ إن لنا أرقاء وأهلين، فما ننفق من أموالنا‏؟‏ فنزلت‏"‏‏.‏

وبهذا يتبين مراد البخاري من إيرادها في هذا الباب‏.‏

وقد جاء عن ابن عباس وجماعة أن المراد بالعفو ما فضل عن الأهل، أخرجه ابن أبي حاتم أيضا، ومن طريق مجاهد قال‏:‏ العفو الصدقة المفروضة‏.‏

ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس العفو ما لا يتبين في المال، وكان هذا قبل أن تفرص الصدقة‏.‏

فلما اختلفت هذه الأقوال كان ما جاء من السبب في نزولها أولى أن يؤخذ به، ولو كان مرسلا‏.‏

ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فَقُلْتُ عَنْ النَّبِيِّ فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً

الشرح‏:‏

حديث أبي مسعود الأنصاري وهو عقبة بن عمرو‏.‏

قوله ‏(‏عن عدي بن ثابت‏)‏ تقدم في الإيمان من وجه آخر عن شعبة ‏"‏ أخبرني عدي بن ثابت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي مسعود الأنصاري فقلت‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ القائل ‏"‏ فقلت ‏"‏ هو شعبة، بينه الإسماعيلي في رواية له من طريق علي بن الجعد عن شعبة فذكره إلى أن قال ‏"‏ عن أبي مسعود فقال‏.‏

قال شعبة‏:‏ قلت قال عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال نعم ‏"‏ وتقدم في كتاب الإيمان عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير مراجعة، وذكر المتن مثله‏.‏

وفي المغازي عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن عدي عن عبد الله بن يزيد أنه سمع أبا مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وذكر المتن مختصرا ليس فيه ‏"‏ وهو يحتسبها ‏"‏ وهذا مقيد لمطلق ما جاء في أن الإنفاق على الأهل صدقة كحديث سعد رابع أحاديث الباب حيث قال فيه ‏"‏ ومهما أنفقت فهو لك صدقة ‏"‏ والمراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر، والمراد بالصدقة الثواب وإطلاقها عليه مجاز وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلا‏.‏

وهو من مجاز التشبيه والمراد به أصل الثواب لا في كميته ولا كيفيته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية، ولهذا أدخل البخاري حديث أبي مسعود المذكور في ‏"‏ باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ‏"‏ وحذف المقدار من قوله ‏"‏ إذا أنفق ‏"‏ لإرادة التعميم ليشمل الكثير والقليل‏.‏

وقوله ‏"‏على أهله ‏"‏ يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص الزوجة ويلحق به من عداها بطريق الأولى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب فثبوته فيما ليس بواجب أولي‏.‏

وقال الطبري ما ملخصة‏:‏ الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع‏.‏

وقال المهلب‏:‏ النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم؛ ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها - في اللذة والتأنيس والتحصين وطلب الولد - كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق، والصدقة على النفقة

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس، وهذا الحديث ليس في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وهو على شرط شيخنا في ‏"‏ تقريب الأسانيد‏"‏، لكنه لما لم يكن في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ لم يخرجه كأنظاره، لكنه أخرجه من رواية همام عن أبي هريرة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن القاسم، وأبو نعيم من طريق عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك‏.‏

قوله ‏(‏قال الله أنفق يا ابن آدم أنفق عليك‏)‏ أنفق الأولى بفتح أوله وسكون القاف بصيغة الأمر بالإنفاق، والثانية بضم أوله وسكون القاف على الجواب بصيغة المضارع، وهو وعد بالخلف، ومنه قوله تعالى ‏(‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه‏)‏ وقد تقدم القدر المذكور من هذا الحديث في تفسير سورة هود من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد في أثناء حديث ولفظه ‏"‏ قال الله أنفق أنفق عليك ‏"‏ وقال ‏"‏ يد الله ملأى ‏"‏ الحديث وهذا الحديث الثاني أخرجه الدار قطني في ‏"‏ غرائب مالك ‏"‏ من طريق سعيد بن داود عن مالك وقال صحيح تفرد به سعيد عن مالك‏.‏

وأخرج مسلم الأول من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إن الله تعالى قال لي‏:‏ أنفق أنفق عليك ‏"‏ الحديث، وفرقه البخاري كما سيأتي في كتاب التوحيد، وليس في روايته ‏"‏ قال لي ‏"‏ فدل على أن المراد بقوله في رواية الباب ‏"‏ يا ابن آدم ‏"‏ النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد جنس بني آدم ويكون تخصيصه صلى الله عليه وسلم بإضافته إلى نفسه لكونه رأس الناس، فتوجه الخطاب إليه ليعمل به ويبلغ أمته، وفي ترك تقييد النفقة بشيء معين ما يرشد إلى أن الحث على الإنفاق يشمل جميع أنواع الخير، وسيأتي شرح حديث شعيب مبسوطا في التوحيد إن شاء الله تعالى

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن ثور بن زيد‏)‏ في رواية محمد بن الحسن في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن مالك ‏"‏ أخبرني ثور‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله‏)‏ كذا قال جميع أصحاب مالك عنه في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وغيره، وأكثرهم ساقه على لفظ رواية مالك عن صفوان بن سليم به مرسلا ثم قال ‏"‏ وعن ثور بسنده مثله ‏"‏ وسيأتي في كتاب الأدب عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك كذلك، واقتصر أبو قرة موسى بن طارق على رواية مالك عن ثور فقال ‏"‏ الساعي على الأرملة والمسكين له صدقة ‏"‏ بين ذلك الدار قطني في ‏"‏ الموطآت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أو القائم الليل الصائم النهار‏)‏ هكذا للجميع عن مالك بالشك لكن لأكثرهم - مثل معن بن عيسى وابن وهب وابن بكير في آخرين - بلفظ ‏"‏ أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل‏"‏، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية الدراوردي عن ثور بمثل هذا اللفظ، لكن قاله بالواو لا بلفظ أو، وسيأتي في الأدب من رواية القعنبي عن مالك بلفظ ‏"‏ وأحسبه قال‏:‏ كالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر ‏"‏ شك القعنبي، وقد ذكره الأكثر بالشك عن مالك لكن بمعناه، فيحمل اختصاص القعنبي باللفظ الذي أورده، ومعنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين‏.‏

والأرملة بالراء المهملة التي لا زوج لها، والمسكين تقدم بيانه في كتاب الزكاة، وقوله ‏"‏القائم الليل ‏"‏ يجوز في الليل الحركات الثلاث كما في قولهم الحسن الوجه، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة إمكان اتصاف الأهلي أي الأقارب بالصفتين المذكورين، فإذا ثبت هذا الفضل لمن ينفق على من ليس له بقريب ممن اتصف بالوصفين، فالمنفق على المتصف، أولى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لِي مَالٌ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالشَّطْرِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ

الشرح‏:‏

حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، والمراد منه هنا قوله ‏"‏ ومهما أنفقت فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك ‏"‏ وقد أخرج مسلم من حديث مجاهد عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ دينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، قال‏:‏‏.‏

الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظم أجرا ‏"‏ ومن حديث أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رقعه ‏"‏ أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ‏"‏ قال أبو قلابة بدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عياله يعفهم وينفعهم الله به‏؟‏ قال الطبري‏:‏ البداءة في الإنفاق بالعيال، يتناول النفس، لأن نفس المرء من جملة عياله بل هي أعظم حقا عليه من بقية عياله، إذ ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه، ثم الإنفاق على عياله كذلك‏.‏

*3*باب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وجوب النفقة على الأهل والعيال‏)‏ الظاهر أن المراد بالأهل في الترجمة الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص، أو المراد بالأهل الزوجة والأقارب والمراد بالعيال الزوجة والخدم فتكون الزوجة ذكرت مرتين تأكيدا لحقها، ووجوب نفقة الزوجة تقدم دليله أول النفقات‏.‏

ومن السنة حديث جابر عند مسلم ‏"‏ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ‏"‏ ومن جهة المعنى أنها محبوسة عن التكسب لحق الزوج، وانعقد الإجماع على الوجوب، لكن اختلفوا في تقديرها فذهب الجمهور إلى أنها بالكفاية، والشافعي وطائفة - كما قال ابن المنذر - إلى أنها بالأمداد، ووافق الجمهور من الشافعية أصحاب الحديث كابن خزيمة وابن المنذر ومن غيرهم أبو الفضل ابن عبدان‏.‏

وقال الروياني في ‏"‏ الحلية ‏"‏ هو القياس‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ ما سيأتي في ‏"‏ باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ ‏"‏ بعد سبعة أبواب‏.‏

وتمسك بعض الشافعية بأنها لو قدرت بالحاجة لسقطت نفقة المريضة والغنية في بعض الأيام، فوجب إلحاقها بما يشبه الدوام وهو الكفارة لاشتراكهما في الاستقرار في الذمة، ويقويه قوله تعالى ‏(‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏)‏ فاعتبروا الكفارة بها ‏"‏ والأمداد معتبرة في الكفارة ‏"‏ ويخدش في هذا الدليل أنهم صححوا الاعتياض عنه، وبأنها لو أكلت معه على العادة سقطت بخلاف الكفارة فيهما، والراجح من حيث الدليل أن الواجب الكفاية، ولا سيما وقد نقل بعض الأئمة الإجماع الفعلي في زمن الصحابة والتابعين على ذلك ولا يحفظ عن أحد منهم خلافه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ الِابْنُ أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أفضل الصدقة ما ترك غنى‏)‏ تقدم شرحه في أول الزكاة وبيان اختلاف ألفاظه وكذا قوله ‏"‏ واليد العليا ‏"‏ وقوله ‏"‏ وابدأ بمن تعول ‏"‏ أي بمن يجب عليك نفقته، يقال عال الرجل أهله إذا مانهم، أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة‏.‏

وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب‏.‏

وقال ابن المنذر اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا وذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب‏.‏

وألحق الشافعي ولد الولد وإن سفل بالولد في ذلك، وقوله ‏"‏تقول المرأة ‏"‏ وقع في رواية للنسائي من طريق محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به ‏"‏ فقيل من أعول يا رسول الله‏؟‏ قال امرأتك ‏"‏ الحديث، وهو وهم والصواب ما أخرجه هو من وجه آخر عن ابن عجلان به وفيه ‏"‏ فسئل أبو هريرة‏:‏ من تعول يا أبا هريرة ‏"‏ وقد تمسك بهذا بعض الشراح وغفل عن الرواية الأخرى، ورجح ما فهمه بما أخرجه الدار قطني من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ المرأة تقول لزوجها أطعمني ‏"‏ ولا حجة فيه لأن في حفظ عاصم شيئا، والصواب التفصيل، وكذا وقع للإسماعيلي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بسند حديث الباب ‏"‏ قال أبو هريرة تقول امرأتك إلخ ‏"‏ وهو معنى قوله في آخر حديث الباب ‏"‏ لا هذا من كيس أبي هريرة ‏"‏ وقع في رواية الإسماعيلي المذكورة ‏"‏ قالوا يا أبا هريرة شيء تقول من رأيك أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ هذا من كيسي ‏"‏ وقوله من كيسي هو بكسر الكاف للأكثر أي من حاصله إشارة إلى أنه من استنباطه مما فهمه من الحديث المرفوع مع الواقع، ووقع في رواية الأصيلي بفتح الكاف أي من فطنته‏.‏

قوله ‏(‏تقول المرأة إما أن تطعمني‏)‏ في رواية النسائي عن محمد بن عبد العزيز عن حفص بن غياث بسند حديث الباب ‏"‏ إما أن تنفق علي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ويقول العبد أطعمني واستعملني‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ ويقول خادمك أطعمني وإلا فبعني‏.‏

قوله ‏(‏ويقول الابن أطعمني، إلى من تدعني‏)‏ ‏؟‏ في رواية النسائي والإسماعيلي ‏"‏ تكلني ‏"‏ وهو بمعناه‏.‏

واستدل به على أن من كان من الأولاد له مال أو حرفة لا تجب نفقته على الأب، لأن الذي يقول ‏"‏ إلى من دعني ‏"‏‏؟‏ إنما هو من لا يرجع إلى شيء سوى نفقة الأب، ومن له حرفة أو مال لا يحتاج إلى قول ذلك‏.‏

واستدل بقوله ‏"‏ إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ‏"‏ من قال يفرق بين الرجل وامرأته إذا أعسر بالنفقة واختارت فراقه، وهو قول جمهور العلماء‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ يلزمها الصبر، وتتعلق النفقة بذمته‏.‏

واستدل الجمهور بقوله تعالى ‏(‏ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا‏)‏ ، وأجاب المخالف بأنه لو كان الفراق واجبا لما جاز الإبقاء إذا رضيت، ورد عليه بأن الإجماع دل على جواز الإبقاء إذا رضيت فبقي ما عداه على عموم النهي‏.‏

وطعن بعضهم في الاستدلال بالآية المذكورة بأن ابن عباس وجماعة من التابعين قالوا‏:‏ نزلت فيمن كان يطلق فإذا كادت العدة تنقضي راجع، والجواب أن من قاعدتهم ‏"‏ أن العبرة بعموم اللفظ‏"‏‏.‏

حتى تمسكوا بحديث جابر بن سمرة ‏"‏ اسكنوا في الصلاة ‏"‏ اترك رفع اليدين عند الركوع مع أنه إنما ورد في الإشارة بالأيدي في التشهد بالسلام على فلان وفلان، وهنا تمسكوا بالسبب‏.‏

واستدل للجمهور أيضا بالقياس على الرقيق والحيوان، فإن من أعسر بالإنفاق عليه أجبر على بيعه اتفاقا‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب حَبْسِ نَفَقَةِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ وَكَيْفَ نَفَقَاتُ الْعِيَالِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال‏)‏ ‏؟‏ ذكر فيه حديث عمر، وهو مطابق لركن الترجمة الأول، وأما الركن الثاني وهو كيفية النفقة على العيال فلم يظهر لي أولا وجه أخذه من الحديث، ولا رأيت من تعرض له، ثم رأيت أنه بمكن أن يؤخذ منه دليل التقدير لأن مقدار نفقة السنة إذا عرف عرف منه توزيعها على أيام السنة فيعرف حصة كل يوم من ذلك، فكأنه قال‏:‏ لكل واحدة في كل يوم قدر معين من المغل المذكور، والأصل في الإطلاق التسوية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ قَالَ لِي مَعْمَرٌ قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ قَالَ مَعْمَرٌ فَلَمْ يَحْضُرْنِي ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني محمد بن سلام‏)‏ كذا في رواية كريمة، وللأكثر ‏"‏ حدثني محمد ‏"‏ حسب‏.‏

قوله ‏(‏قال لي معمر قال لي الثوري‏)‏ هذا الحديث مما فات ابن عيينة سماعه من الزهري فرواه عنه بواسطة معمر، وقد رواه أيضا عن عمرو بن دينار عن الزهري بأتم من سياق معمر، وتقدم في تفسير سورة الحشر‏.‏

وأخرجه الحميدي وأحمد في مسنديهما عن سفيان عم معمر وعمرو بن دينار جميعا عن الزهري، وقد أخرج مسلم رواية معمر وحدها عن يحيى بن يحيى عن سفيان عن معمر عن الزهري ولكنه لم يسق لفظه وقد أخرج إسحاق بن راهويه رواية معمر منفردة عن سفيان عنه عن الزهري بلفظ ‏"‏ كان ينفق على أهله نفقة سنة من مال بني النضير ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح ‏"‏ وقد أخرج مسلم الحديث مطولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وفي كل من الإسنادين رواية الأقران، فإن ابن عيينة عن معمر قرينان، وعمرو بن دينار عن الزهري كذلك‏.‏

ويؤخذ منه المذاكرة بالعلم وإلقاء العالم المسألة على نظيره ليستخرج ما عنده من الحفظ، وتثبت معمر وإنصافه لكونه اعترف أنه لا يستحضر إذ ذاك في المسألة شيئا، ثم لما تذكرها أخبر بالواقعة كما هي ولم يأنف مما تقدم‏.‏

قوله ‏(‏كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم‏)‏ كذا أورده مختصرا ثم ساق المصنف الحديث بطوله من طريق عقيل عن ابن شهاب الزهري، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل فرض الخمس‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ في الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة، وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث ‏"‏ كان لا يدخر شيئا لغد ‏"‏ فيحمل على الادخار لنفسه وحديث الباب على الادخار لغيره، ولو كان له في ذلك مشاركة، لكن المعنى أنهم المقصد بالادخار دونه حتى لو لم يوجدوا لم يدخر، قال‏:‏ والمتكلمون على لسان الطريقة جعلوا أو بعضهم ما زاد على السنة خارجا عن طريقة التوكل انتهى‏.‏

وفيه إشارة إلى الرد على الطبري حيث استدل بالحديث على جواز الادخار مطلقا خلافا لمن منع ذلك، وفي الذي نقله الشيخ تقييد بالسنة اتباعا للخبر الوارد، لكن استدلال الطبري قوي، بل التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع لأن الذي كان يدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة، لأنه كان إما تمرا وإما شعيرا، فلو قدر أن شيئا مما يدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك، والله أعلم‏.‏

ومع كونه صلى الله عليه وسلم كان يحتبس قوت سنة لعياله فكان في طول السنة ربما استجره منهم لمن يرد عليه ويعوضهم عنه، ولذلك مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتا لأهله‏.‏

واختلف في جواز ادخار القوت لمن يشتريه من السوق، قال عياض‏:‏ أجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث، ولا حجة فيه لأنه إنما كان من مغل الأرض، ومنعه قوم إلا أن كان لا يضر بالسعر، وهو متجه إرفاقا بالناس‏.‏

ثم محل هذا الاختلاف إذا لم يكن في حال الضيق، وإلا فلا يجوز الادخار في تلك الحالة أصلا‏.‏

*3*باب وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ إِلَى قَوْلِهِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

وَقَالَ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَقَالَ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ وَهِيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فِصَالُهُ فِطَامُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين - إلى قوله - بصير‏)‏ كذا لأبي ذر والأكثر‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ إلى قوله بما تعملون بصير ‏"‏ وقال ‏(‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ وقال ‏(‏وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته‏)‏ قيل دلت الآية الأولى على إيجاب الإنفاق على المرضعة من أجل رضاعها الولد، كانت في العصمة أم لا‏.‏

وفي الثانية الإشارة إلى قدر المدة التي يجب ذلك فيها‏.‏

وفي الثالثة الإشارة إلى مقدار الإنفاق وأنه بالنظر لحال المنفق‏.‏

وفيها أيضا الإشارة إلى أن الإرضاع لا يتحتم على الأم، وقد تقدم في أوائل النكاح في ‏"‏ باب لا رضاع بعد حولين ‏"‏ البحث في معنى قوله تعالى ‏(‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ وأخرج الطبري عن ابن عباس أن إرضاع الحولين مختص بمن وضعت لستة أشهر، فمهما وضعت لأكثر من ستة أشهر نقص من مدة الحولين تمسكا بقوله تعالى ‏(‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ ‏.‏

وتعقب بمن زاد حملها على ثلاثين شهرا فإنه يلزم إسقاط مدة الرضاعة ولا قائل به، والصحيح أنها محمولة على الغالب وأخذ من الآية الأولى والثانية أن من ولد لستة أشهر فما فوقها التحق بالزوج‏.‏

قوله ‏(‏وقال يونس‏)‏ هو ابن يزيد، وهذا الأثر وصله ابن وهب في جامعه عن يونس قال ‏"‏ قال ابن شهاب - فذكره إلى قوله - وتشاور ‏"‏ وأخرجه ابن جرير من طريق عقيل عن ابن شهاب نحوه‏.‏

وقوله ‏"‏ضرارا لها إلى غيرها ‏"‏ يتعلق بمنعها أي منعها ينتهي إلى رضاع غيرها، فإذا رضيت فليس له ذلك‏.‏

ووقع في رواية عقيل ‏"‏ الوالدات أحق برضاع أولادهن، وليس لوالدة أن تضار ولدها فتأبى رضاعه وهي تعطي عليه ما يعطي غيرها، وليس للمولود له أن ينزع ولده مها ضرارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها، فإن أرادا فصال الولد عن تراض منهما وتشاور دون الحولين فلا بأس‏"‏‏.‏

قوله في آخر الكلام ‏(‏فصاله فطامه‏)‏ هو تفسير ابن عباس، أخرجه الطبري عنه وعن السدي وغيرهما، والفصال مصدر يقال فاصلته أفاصله مفاصلة وفصالا إذا فارقته من خلطة كانت بينهما، وفصال الولد منعه من شرب اللبن، قال ابن بطال‏:‏ قوله تعالى ‏(‏والوالدات يرضعن‏)‏ لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر لما فيه من الإلزام، كقولك حسبك درهم أي اكتف بدرهم، قال‏:‏ ولا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إذا كان أبوه حيا موسرا بدليل قوله تعالى ‏(‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏)‏ قال ‏(‏وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى‏)‏ فدل على أنه لا يجب عليها إرضاع ولدها، ودل على أن قوله ‏(‏والوالدات يرضعن أولادهن‏)‏ سيق لمبلغ غاية الرضاعة التي مع اختلاف الوالدين في رضاع المولود جعلت حدا فاصلا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أحد القولين عن ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وعن ابن عباس أنه مختص بمن ولدت لستة أشهر كما تقدم قريبا أخرجه الطبري أيضا بسند صحيح، إلا أنه اختلف في وصله أو وقفه على عكرمة، وعن ابن عباس قول ثالث أن الحولين لغاية الإرضاع وأن لا رضاع بعدهما أخرجه الطبري أيضا ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين الزهري وابن عباس، ثم أخرج بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال‏:‏ ما كان من رضاعة بعد الحولين فلا رضاع، وعن ابن عباس أيضا بسند صحيح مثله، ثم أسند عن قتادة قال‏:‏ كان إرضاعها الحولين فرضا ثم خفف بقوله تعالى ‏(‏لمن أراد أن يتم الرضاعة‏)‏ والقول الثاني هو الذي عول عليه البخاري، ولهذا عقب الآية الأولى بالآية الثانية وهي قوله تعالى ‏(‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏)‏ وما جزم به ابن بطال من أن الخبر بمعنى الأمر هو قول الأكثر، لكن ذهب جماعة إلى أنها خبر عن المشروعية، فإن بعض الوالدات يجب عليهن ذلك وبعضهن لا يجب كما سيأتي بيانه، فليس الأمر على عمومه، وهذا هو السر في العدول عن التصريح بالإلزام كأن يقال‏:‏ وعلى الوالدات إرضاع أولادهن كما جاء بعده ‏(‏وعلى الوارث مثل ذلك‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالوالدات هنا المبتوتات المطلقات، وأجمع العلماء على أن أجرة الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلقة من العدة، والأم بعد البينونة أولى بالرضاعة إلا إن وجد الأب من يرضع له بدون ما سألت، إلا أن لا يقبل الولد غيرها فتجبر بأجرة مثلها، وهو موافق للمنقول هنا عن الزهري، واختلفوا في المتزوجة‏:‏ فقال الشافعي وأكثر الكوفيين لا يلزمها إرضاع ولدها‏.‏

وقال مالك وابن أبي ليلى من الكوفيين تجبر على إرضاع ولدها ما دامت متزوجة بوالده، واحتج القائلون بأنها لا تجبر بأن ذلك إن كان لحرمة الولد فلا يتجه لأنها لا تجبر عليه إذا كانت مطلقة ثلاثا بإجماع، مع أن حرمة الولدية موجودة، وإن كان لحرمة الزوج لم يتجه أيضا لأنه لو أراد أن يستخدمها في حق نفسه لم يكن له ذلك ففي حق غيره أولى ا هـ‏.‏

ويمكن أن يقال إن ذلك لحرمتها جميعا، وقد تقدم كثير من مباحث الرضاع في أوائل النكاح، والله أعلم‏.‏

*3*باب نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةِ الْوَلَدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها ونفقة الولد‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة في قصة هند امرأة أبي سفيان وسيأتي شرحه بعد أربعة أبواب‏.‏

وحديث أبي هريرة ‏"‏ إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها ‏"‏ وقد مر شرحه في أواخر النكاح‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقعت هذه الترجمة وحديثها متأخرة عن الباب الذي بعده عند النسفي

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة هند امرأة أبي سفيان سيأتي شرحه بعد أربعة أبواب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها ‏"‏ قد مر شرحه في أواخر النكاح‏.‏

*3*باب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب عمل المرأة في بيت زوجها‏)‏ أورد فيه حديث علي في طلب فاطمة الخادم، والحجة منه قوله فيه ‏"‏ تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى‏"‏، وقد تقدم الحديث في أوائل فرض الخمس وأن شرحه يأتي في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وسأذكر شيئا مما يتعلق بهذا الباب في الباب الذي يليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَام أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ قَالَ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ

الشرح‏:‏

حديث علي في طلب فاطمة الخادم، والحجة منه قوله فيه ‏"‏ تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى‏"‏، وقد تقدم الحديث في أوائل فرض الخمس وأن شرحه يأتي في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وسأذكر شيئا مما يتعلق بهذا الباب في الباب الذي يليه‏.‏

ويستفاد من قوله ‏"‏ ألا أدلكما على خير مما سألتما ‏"‏ أن الذي يلازم ذكر الله يعطي قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم لها، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث، والذي يظهر أن المراد أن نفع التسبيح مختص بالدار الآخرة ونفع الخادم مختص بالدار الدنيا، والآخرة خير وأبقى

*3*باب خَادِمِ الْمَرْأَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب خادم المرأة‏)‏ أي هل يشرع ويلزم الزوج إخدامها‏؟‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ مُجَاهِدًا سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ قِيلَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ قَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ

الشرح‏:‏

حديث على المذكور في الذي قبله وسياقه أخصر منه، قال الطبري‏:‏ يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مثلها يلي ذلك بنفسه‏.‏

ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها صلى الله عليه وسلم الخادم لم يأمر زوجها بأن يكفيها ذلك إما بإخدامها خادما أو باستئجار من يقوم بذلك أو بتعاطي ذلك بنفسه ولو كانت كفاية ذلك إلى علي لأمره به كما أمره أن يسوق إليها صداقها قبل الدخول، مع أن سوق الصداق ليس بواجب إذا رضيت المرأة أن تؤخره، فكيف يأمره بما ليس بواجب عليه ويترك أن يأمره بالواجب‏؟‏ وحكى ابن حبيب عن أصبغ وابن الماجشون عن مالك أن خدمة البيت تلزم المرأة ولو كانت الزوجة ذات قدر وشرف إذا كان الزوج معسرا، قال‏:‏ ولذلك ألزم النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بالخدمة الباطنة وعليا بالخدمة الظاهرة‏.‏

وحكى ابن بطال أن بعض الشيوخ قال‏:‏ لا نعلم في شيء من الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة، وإنما جرى الأمر بينهم على ما تعارفوه من حسن العشرة وجميل الأخلاق، وأما أن تجبر المرأة على شيء من الخدمة فلا أصل له، بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مؤنة الزوجة كلها‏.‏

ونقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته، فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على حسب الحاجة إليه‏.‏

وقال الشافعي والكوفيون‏:‏ يفرض لها ولخادمها النفقة إذا كانت ممن تخدم‏.‏

وقال مالك والليث ومحمد بن الحسن‏:‏ يفرض لها ولخادمها إذا كانت خطيرة وشذ أهل الظاهر فقالوا ليس على الزوج أن يخدمها ولو كانت بنت الخليفة، وحجة الجماعة قوله تعالى ‏(‏وعاشروهن بالمعروف‏)‏ وإذا احتاجت إلى من يخدمها فامتنع لم يعاشرها بالمعروف‏.‏

وقد تقدم كثير من مباحث هذا الباب في ‏"‏ باب الغيرة ‏"‏ من أواخر النكاح في شرح حديث أسماء بنت أبي بكر في ذلك