فصل: باب كَيْفَ الْحَشْرُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب نَفْخِ الصُّورِ

قَالَ مُجَاهِدٌ الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ زَجْرَةٌ صَيْحَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ النَّاقُورِ الصُّورِ الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الْأُولَى وَ الرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب نفخ الصور‏)‏ تكرر ذكره في القرآن في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وق وغيرها وهو بضم المهملة وسكون الواو وثبت كذلك في القراءات المشهورة والأحاديث وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها بفتح الواو جمع صورة وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح وقال أبي عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏‏:‏ يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة كما يقال سور المدينة جمع سورة قال الشاعر ‏"‏ لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة ‏"‏ فيستوي معنى القراءتين‏.‏

وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد‏:‏ كالصوف جمع صوفة قالوا والمراد النفخ في الصور وهي الأجساد لتعاد فها الأرواح كما قال تعالى ‏(‏ونفخت فيه من روحي‏)‏ وتعقب قوله ‏"‏ جمع ‏"‏ بأن هذه أسماء أجناس لا جموع وبالغ النحاس وغيره في الرد على التأويل وقال الأزهري‏:‏ إنه خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرج أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب العظمة ‏"‏ من طريق وهب بن منبه من قوله قال‏:‏ خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال للعرش‏:‏ خذ الصور فتعلق به‏.‏

ثم قال‏:‏ كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة‏.‏

فذكر الحديث وفيه ثم تجمع الأرواح كلها في الصور ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها فعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد فإضافة النفخ إلى الصور الذي هو القرن حقيقة وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز‏.‏

قوله ‏(‏قال مجاهد الصور كهيئة البوق‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى ‏(‏ونفخ في الصور‏)‏ قال كهيئة البوق‏.‏

وقال صاحب الصحاح‏.‏

البوق الذي يزمر به وهو معروف ويقال للباطل يعني يطلق ذلك عليه مجازا لكونه من جنس الباطل‏.‏

تنبيه‏:‏ لا يلزم من كون الشيء مذموما أن لا يشبه به الممدوح فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس مع النهي عن استصحاب الجرس كما تقدم تقريره في بدء الوحي والصور إنما هو قرن كما جاء في الأحاديث المرفوعة وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق والقرن في الآلة التي يستعملها اليهود للأذان ويقال إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن وشاهده قول الشاعر‏:‏ نحن نفخناهم غداة النقعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏"‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما الصور‏؟‏ قال‏:‏ قرن ينفخ فيه ‏"‏ والترمذي أيضا وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ ‏"‏ وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة ولأحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه ‏"‏ جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعني إسرافيل ‏"‏ وفي أسانيد كل منهما مقال‏.‏

وللحاكم بسند حسن عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏زجرة‏:‏ صيحة‏)‏ هو من تفسير مجاهد أيضا‏.‏

وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح مجاهد في قوله تعالى ‏(‏فإنما هي زجر واحدة فإذا هم ينظرون‏)‏ قال‏:‏ صيحة‏.‏

وفي قوله تعالى ‏(‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏)‏ قال‏:‏ صيحة‏.‏

قلت‏:‏ وهي عبارة عن نفخ الصور النفخة الثانية كما عبر بها عن النفخة الأولى في قوله تعالى ‏(‏ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم‏)‏ الآية‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ الناقور الصور‏)‏ وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏فإذا نقر في الناقور‏)‏ قال‏:‏ الصور ومعنى نقر‏:‏ نفخ قاله في الأساس‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق أخرى عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏فإذا نقر في الناقور‏)‏ قال‏:‏ قال الرسول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن ‏"‏ الحديث‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ونقل فيه الحليمي الإجماع ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه المذكور وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه وكذا في حديث الصور الطويل الذي أخرجه عبد بن حميد والطبري وأبو يعلى في الكبير والطبراني في الطوالات وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية والبيهقي في البعث من حديث أبي هريرة ومداره على إسماعيل بن رافع واضطرب في سنده مع ضعفه فرواه عن محمد بن كعب القرظي تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل مبهم ومحمد عن أبي هريرة تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل من الأنصار مبهم أيضا وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء أيضا في تفسيره عن محمد بن عجلان عن محمد بن كعب القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع وخفي عليه أن الشامي أضعف منه ولعله سرقه منه فألصقه بابن عجلان وقد قال الدار قطني‏:‏ إنه متروك يضع الحديث وقال الخليلي‏:‏ شيخ ضعيف شحن تفسيره بما لا يتابع عليه‏.‏

وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في حديث الصور‏:‏ جمعه إسماعيل ابن رافع من عدة آثار وأصله عنده عن أبي هريرة فساقه كله مساقا واحدا‏.‏

وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في سراجه وتبعه القرطبي في التذكرة وقول عبد الحق في تضعيفه أولى وضعفه قبله البيهقي فوقع في هذا الحديث عند علي بن معبد ‏"‏ إن الله خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ‏"‏ الحديث وقد ذكرت ما جاء عن وهب بن منبه في ذلك فلعله أصله وجاء أن الذي ينفخ في الصور غيره ففي الطبراني الأوسط عن عبد الله بن الحارث ‏"‏ كنا عند عائشة فقالت يا كعب أخبرني عن إسرافيل ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى يلتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور فقالت عائشة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ورجاله ثقات إلا على بن زيد بن جدعان ففيه ضعف فإن ثبت حمل على أنهما جميعا ينفخان ويؤيده ما أخرجه هناد بن السري في كتاب الزهد بسند صحيح لكنه موقوف علي عبد الرحمن بن أبي عمرة قال ‏"‏ ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور ‏"‏ ومن طريق عبد الله بن ضمرة مثله وزاد ‏"‏ ينتظران متى ينفخان ‏"‏ ونحوه عند أحمد من طريق سليمان التيمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب - أو قال بالعكس - ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا ‏"‏ ورجاله ثقات وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بغير شك ولابن ماجه والبزار من حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران ‏"‏ وعلى هذا فقوله في حديث عائشة ‏"‏ إنه إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه نفخ أنه ينفخ النفخة الأولى وهي نفخة الصعق ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية‏)‏ هو من تفسير ابن عباس أيضا وصله الطبري أيضا وابن أبي حاتم بالسند المذكور وقد تقدم بيانه في تفسير سورة والنازعات وبه جزم الفراء وغيره في ‏"‏ معاني القرآن ‏"‏ وعن مجاهد قال‏:‏ الراجفة الزلزلة والرادفة الدكدكة أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما عنه ونحوه في حديث الصور الطويل قال في رواية علي بن معبد‏:‏ ثم ترتج الأرض وهي الراجفة فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج‏.‏

ويمكن الجمع بأن الزلزلة تنشأ عن نفخة الصعق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ قَالَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ إن الناس يصعقون ‏"‏ وقد تقدم شرحه في قصة موسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء وذكرت فيه ما نقل عن ابن حزم أن النفخ في الصور يقع أربع مرات وتعقب كلامه في ذلك ثم رأيت في كلام ابن العربي أنها ثلاث‏:‏ نفخة الفزع كما في النمل‏.‏

ونفخة الصعق كما في الزمر ونفخة البعث وهي المذكورة في الزمر أيضا‏.‏

قال القرطبي‏:‏ والصحيح أنهما نفختان فقط لثبوت الاستثناء بقوله تعالى ‏(‏إلا من شاء الله‏)‏ في من الآيتين ولا يلزم من مغايرة الصعق للفزع أن لا يحصلا معا من النفخة الأولى ثم وجدت مستند ابن العربي في حديث الصور الطويل فقال فيه ‏"‏ ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين ‏"‏ أخرجه الطبري هكذا مختصرا وقد ذكرت أن سنده ضعيف ومضطرب وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنهما نفختان ولفظه في أثناء حديث مرفوع ‏"‏ ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ‏"‏ وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفا ‏"‏ ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون ‏"‏ وفي حديث أوس بن أوس الثقفي رفعه ‏"‏ إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الصعقة وفيه النفخة ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد تقدم في تفسير سورة الزمر من حديث أبي هريرة ‏"‏ بين النفختين أربعون ‏"‏ وفي كل ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط وقد تقدم شرحه هناك وفيه شرح قول أبي هريرة لما قيل له أربعون سنة ‏"‏ أبيت ‏"‏ بالموحدة ومعناه امتنعت من تبيينه لأني لا أعلمه فلا أخوص فيه بالرأي وقال القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏‏:‏ يحتمل قوله امتنعت أن يكون عنده علم منه ولكنه لم يفسره لأنه لم تدع الحاجة إلى بيانه ويحتمل أن يريد امتنعت أن أسأل عن تفسيره فعلى الثاني لا يكون عنده علم منه قال‏:‏ وقد جاء أن بين النفختين أربعين عاما قلت‏:‏ وقع كذلك في طريق ضعيف عن أبي هريرة في تفسير ابن مردويه وأخرج ابن المبارك في ‏"‏ الرقائق ‏"‏ من مرسل الحسن ‏"‏ بين النفختين أربعون سنة‏:‏ الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيى الله بها كل ميت ‏"‏ ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس وهو ضعيف أيضا وعنده أيضا ما يدل على أن أبا هريرة لم يكن عنده علم بالتعيين فأخرج عنه بسند جيد أنه لما قالوا ‏"‏ أربعون ماذا ‏"‏ قال ‏"‏ هكذا سمعت ‏"‏ وأخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة فذكر حديث أبي هريرة منقطعا ثم قال ‏"‏ قال أصحابه‏:‏ ما سألناه عن ذلك ولا زادنا عليه غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة ‏"‏ وفي هذا تعقب على قول الحليمي‏:‏ اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة‏.‏

قلت وجاء فيما يصنع بالموتى بين النفختين ما وقع في حديث الصور الطويل أن جميع الأحياء إذا ماتوا بعد النفخة الأولى ولم يبق إلا الله قال سبحانه‏:‏ أنا الجبار لمن الملك اليوم‏؟‏ فلا يجيبه أحد فيقول‏:‏ لله الواحد القهار‏.‏

وأخرج النحاس من طريق أبي وائل عن عبد الله أن ذلك يقع بعد الحشر ورجحه‏.‏

ورجح القرطبي الأول‏.‏

ويمكن الجمع بأن ذلك يقع مرتين وهو أولى‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق أبي الزعراء‏:‏ كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر الدجال إلى أن قال ‏"‏ ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون فليس في بني آدم خلق إلا في الأرض منه شيء قال فيرسل الله ماء من تحت العرش فتنبت جسمانهم ولحماتهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الري ‏"‏ ورواته ثقات‏.‏

إلا أنه موقوف‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ إذا تقرر أن النفخة للخروج من القبور فكيف تسمعها الموتى‏؟‏ والجواب‏:‏ يجوز أن تكون نفخة البعث تطول إلى أن يتكامل إحياؤهم شيئا بعد شيء وتقدم الإلمام في قصة موسى بشيء مما ورد في تعيين من استثنى الله تعالى في قوله تعالى ‏(‏فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏)‏ وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال‏:‏ الأول أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم فلا يصعقون وإلى هذا جنح القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ وفيه ما فيه ومستنده أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح وتعقبه صاحبه القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏ فقال فد صح فيه حديث أبي هريرة؛ وفي الزهد لهناد بن السري عن سعيد بن جبير موقوفا هم الشهداء وسنده إلى سعيد صحيح‏.‏

وسأذكر حديث أبي هريرة في الذي بعده وهذا هو قول الثاني‏.‏

الثالث الأنبياء وإلى ذلك جنح البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه أن يكون موسى ممن استثنى الله قال‏:‏ ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار‏.‏

وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع له في صعقة الطور‏.‏

ثم ذكر أثر سعيد بن جبير في الشهداء وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا‏؟‏ قال‏:‏ هم شهداء الله عز وجل صححه الحاكم ورواته ثقات ورجحه الطبري‏.‏

الرابع قال يحيى بن سلام في تفسيره‏:‏ بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يموت الثلاثة ثم يقول الله لملك الموت مت فيموت‏.‏

قلت‏:‏ وجاء نحو هذا مسندا في حديث أنس أخرجه البيهقي وابن مردويه بلفظ ‏"‏ فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت ‏"‏ الحديث وسنده ضعيف وله طريق أخرى عن أنس ضعيفة أيضا عند الطبري وابن مردويه وسياقه أتم وأخرج الطبري بسند صحيح عن إسماعيل السدي ووصله إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن ابن عباس مثل يحيى بن سلام ونحوه عن سعيد بن المسيب أخرجه الطبري وزاد ‏"‏ ليس فيهم حملة العرش لأنهم فوق السماوات ‏"‏ الخامس يمكن أن يأخذ مما في الرابع‏.‏

السادس الأربعة المذكورون وحملة العرش وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل المعروف بحديث الصور وقد تقدمت الإشارة إليه وأن سنده ضعيف مضطرب وعن كعب الأحبار نحوه وقال‏:‏ هم اثنا عشر أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم مقطوعا ورجاله ثقات‏.‏

وجمع في حديث الصور بين هذا القول وبين القول أنهم الشهداء ففيه ‏"‏ فقال أبو هريرة يا رسول الله فمن استثنى حين الفزع‏؟‏ قال‏:‏ الشهداء ‏"‏ ثم ذكر نفخة الصعق على ما تقدم‏.‏

السابع موسى وحده أخرجه الطبري بسند ضعيف عن أنس وعن قتادة وذكره الثعلبي عن جابر‏.‏

الثامن الولدان الذين في الجنة والحور العين‏.‏

التاسع هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب حكاهما الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم‏.‏

العاشر الملائكة كلهم جزم به أبو محمد بن حزم في ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏ فقال‏:‏ الملائكة أرواح لا أرواح فيها فلا يموتون أصلا‏.‏

وأما ما وقع عند الطبري بسند صحيح عن قتادة قال قال الحسن يستثنى الله وما يدع أحدا إلا أذاقه الموت فيمكن أن يعد قولا آخر‏.‏

قال البيهقي استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال لأن الاستثناء وقع من سكان السماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها لأن العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش ولأن الجنة فوق السماوات والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقتا للبقاء ويدل على أن المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط ابن عامر مطولا وفيه ‏"‏ يلبثون ما لبثهم ثم تبعث الصائحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله في رواية أبي الزناد عن الأعرج ‏(‏فما أدري أكان فيمن صعق‏)‏ كذا أورده مختصرا وبقيته ‏"‏ أم لا ‏"‏ أورده الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن شيخ البخاري فيه‏.‏

قوله ‏(‏رواه أبو سعيد‏)‏ يعني الخدري ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعني أصل الحديث وقد تقدم موصولا في كتاب الأشخاص وفي قصة موسى من أحاديث الأنبياء وذكرت شرحه في قصة موسى أيضا‏.‏

*3*باب يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يقبض الله الأرض يوم القيامة‏)‏ لما ذكر ترجمة نفخ الصور أشار إلى ما وقع في سورة الزمر قبل آية النفخ ‏(‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة‏)‏ الآية وفي قوله تعالى ‏(‏فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة‏)‏ ما قد يتمسك به أن قبض السماوات والأرض يقع بعد النفخ في الصور أو معه وسيأتي‏.‏

قوله ‏(‏رواه نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ سقط هذا التعليق هنا في رواية بعض شيوخ أبي ذر وقد وصله في كتاب التوحيد ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي سلمة‏)‏ كذا قال يونس وخالفه عبد الرحمن بن خالد فقال ‏"‏ عن الزهري عن سعيد بن المسيب ‏"‏ كما تقدم في تفسير سورة الزمر وهذا الاختلاف لم يتعرض له الدار قطني في ‏"‏ العلل‏"‏‏.‏

وقد أخرج ابن خزيمة في كتاب التوحيد الطريقين وقال‏:‏ هما محفوظان عن الزهري وسأشبع القول فيه إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد مع شرح الحديث إن شاء الله تعالى وأقتصر هنا على ما يتعلق بتبديل الأرض لمناسبة الحال‏.‏

قوله ‏(‏يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه‏)‏ زاد في رواية ابن وهب عن يونس ‏"‏ يوم القيامة ‏"‏ قال عياض‏:‏ هذا الحديث جاء في الصحيح على ثلاثة ألفاظ‏.‏

القبض والطي والأخذ‏.‏

وكلها بمعنى الجمع فإن السماوات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة ثم رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل فعاد ذلك إلى ضم بعضها إلى بعض وإبادتها فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وتفرقها دلالة على المقبوض والمبسوط لا على البسط والقبض قد يحتمل أن يكون إشارة إلى الاستيعاب انتهى‏.‏

وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد اختلف في قوله تعالى ‏(‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏)‏ هل المراد ذات الأرض وصفتها أو تبديل صفتها فقط وسيأتي بيانه في شرح ثالث أحاديث هذا الباب إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ بَلَى قَالَ تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ قَالَ إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ قَالُوا وَمَا هَذَا قَالَ ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن خالد‏)‏ هو ابن يزيد وفي رواية شعيب بن الليث عن أبيه ‏"‏ حدثني خالد بن يزيد ‏"‏ والسند كله بصريون إلى سعيد ومنه إلى منتهاه مدنيون‏.‏

قوله ‏(‏تكون الأرض يوم القيامة‏)‏ يعني أرض الدنيا ‏(‏خبزة‏)‏ بضم الحاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح الزاي قال الخطابي‏:‏ الخبزة الطلمة بضم المهملة وسكون اللام وهو عجين يوضع في الحفرة بعد إيقاد النار فيها قال والناس يسمونها الملة بفتح الميم وتشديد اللام وإنما الملة الحفرة نفسها‏.‏

قوله ‏(‏يتكفؤها الجبار‏)‏ بفتح المثناة والكاف وتشديد الفاء المفتوحة بعدها همزة أي يميلها من كفأت الإناء إذا قلبته وفي رواية مسلم ‏"‏ يكفؤها ‏"‏ بسكون الكاف‏.‏

قوله ‏(‏كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر‏)‏ قال الخطابي‏:‏ يعني خبز الملة الذي يصنعه المسافر فإنها لا تدحى كما تدحى الرقاقة وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي وهذا على أن السفر بفتح المهملة والفاء ورواه بعضهم بضم أوله جمع سفرة وهو الطعام الذي يتخذ للمسافر ومنه سميت السفرة‏.‏

قوله ‏(‏نزلا لأهل الجنة‏)‏ النزل بضم النون وبالزاي وقد تسكن‏.‏

ما يقدم للضيف وللعسكر يطلق على الرزق وعلى الفضل ويقال أصلح للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغذاء وعلى ما يعجل للضيف قبل الطعام وهو اللائق هنا قال الداودي‏:‏ المراد الله أنه يأكل منها من سيصير إلى الجنة من أهل المحشر لا أنهم لا يأكلونها حتى يدخلوا الجنة‏.‏

قلت‏:‏ وظاهر الخبر يخالفه وكأنه بنى على ما أخرجه الطبري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ تكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه‏.‏

ومن طريق أبي معشر عن محمد بن كعب أو محمد ابن قيس نحوه وللبيهقي بسند ضعيف عن عكرمة تبدل الأرض مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب‏.‏

وعن أبي جعفر الباقر نحوه‏.‏

وسأذكر بقية ما يتعلق بذلك في الحديث الذي بعده‏.‏

ونقل الطيبي عن البيضاوي أن هذا الحديث مشكل جدا لا من جهة إنكار صنع الله وقدرته على ما يشاء بل لعدم التوقيف على قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول مع ما ثبت في الآثار أن هذه الأرض تصير يوم القيامة نارا وتنضم إلى جهنم فلعل الوجه فيه أن معنى قوله خبزة واحدة أي كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا وهو نظير ما في حديث سهل يعني المذكور بعده كقرصة النقى فضرب المثل بها لاستدارتها وبياضها فضرب المثل في هذا الحديث بخبزة تشبه الأرض في معنيين‏:‏ أحدهما بيان الهيئة التي تكون الأرض عليها يومئذ والآخر بيان الخبزة التي يهيئها الله تعالى نزلا لأهل الجنة وبيان عظم مقدارها ابتداعا واختراعا‏.‏

قال الطيبي‏:‏ وإنما دخل عليه الإشكال لأنه رأى الحديثين في باب الحشر فظن أنهما لشيء واحد‏.‏

وليس كذلك وإنما هذا الحديث من باب وحديث سهل من باب وأيضا فالتشبيه لا يستلزم المشاركة بين المشبه والمشبه به في جميع الأوصاف بل يكفي حصوله في البعض وتقريره أنه شبه أرض الحشر بالخبزة في الاستواء والبياض وشبه أرض الجنة في كونها نزلا لأهلها ومهيأة لهم تكرمة بعجالة الراكب زاده يقنع به في سفره‏.‏

قلت‏:‏ آخر كلامه يقرر ما قال القاضي أن كون أرض الدنيا تصير نارا محمول على حقيقته وأن كونها تصير خبزة يأكل منها أهل الموقف محمول على المجاز والآثار التي أوردتها عن سعيد بن جبير وغيره ترد عليه والأولى الحمل على الحقيقة مهما أمكن وقدرة الله تعالى صالحة لذلك بل اعتقاد كونه حقيقة أبلغ وكون أهل الدنيا ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول زمان الموقف بل يقلب الله لهم بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة ويكون معنى قوله ‏"‏ نزلا لأهل الجنة ‏"‏ أي الذين يصيرون إلى الجنة أعم من كون ذلك يقع بعد الدخول إليها أو قبله والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فأتى رجل‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فأتاه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من اليهود‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله ‏(‏فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك‏)‏ يريد أنه أعجبه إخبار اليهودي عن كتابهم بنظير ما أخبر به من جهة الوحي وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فكيف بموافقتهم فيما أنزل عليه‏.‏

قوله ‏(‏حتى بدت نواجذه‏)‏ بالنون والجيم والذال المعجمة جمع ناجذ وهو آخر الأضراس ولكل إنسان أربع نواجذ‏.‏

وتطلق النواجذ أيضا على الأنياب والأضراس‏.‏

قوله ‏(‏ثم قال‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فقال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ألا أخبرك‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ألا أخبركم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏بإدامهم‏)‏ أي ما يؤكل به الخبز‏.‏

قوله ‏(‏بالام‏)‏ بفتح الموحدة بغير همز و قوله ‏(‏ونون‏)‏ أي بلفظ أول السورة‏.‏

قوله ‏(‏قالوا‏)‏ أي الصحابة وفي رواية مسلم ‏"‏ فقالوا ‏"‏ قوله ‏(‏ما هذا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وما هذا ‏"‏ بزيادة واو‏.‏

قوله ‏(‏قال ثور ونون‏)‏ قال الخطابي هكذا رووه لنا وتأملت النسخ المسموعة من البخاري من طريق حماد ابن شاكر وإبراهيم بن معقل والفربري فإذا كلها على نحو واحد‏.‏

قلت‏:‏ وكذا عند مسلم وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره قال الخطابي‏:‏ فأما نون فهو الحوت على ما فسر في الحديث وأما بالام فدل التفسير من اليهودي على أنه اسم للثور وهو لفظ مبهم لم ينتظم ولا يصح أن يكون على التفرقة اسما لشيء فيشبه أن يكون اليهودي أراد أن يعمى الاسم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين وإنما هو في حق الهجاء لام ياء هجاء لأي بوزن لعى وهو الثور الوحشي وجمعه آلاء بثلاث همزات وزن أحبال فصحفوه فقالوا بالام بالموحدة وإنما هو بالياء آخر الحروف وكتبوه بالهجاء فأشكل الأمر‏.‏

هذا أقرب ما يقع لي فيه إلا أن يكون إنما عبر عنه بلسانه ويكون ذلك بلسانهم وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة مقلوب على لسان العرب بتقديم في الحروف وتأخير والله أعلم بصحته‏.‏

وقال عياض‏:‏ أورد الحميدي في اختصاره يعني الجمع بين الصحيحين هذا الحديث بلفظ باللأي بكسر الموحدة وألف وصل ولام ثقيلة بعدها همزة مفتوحة خفيفة بوزن الرحى واللأي الثور الوحشي قال‏:‏ ولم أر أحدا رواه كذلك فلعله من إصلاحه وإذا كان هكذا بقيت الميم زائدة إلا أن يدعي أنها حرفت عن الياء المقصورة قال‏:‏ وكل هذا غير مسلم لما فيه من التكلف والتعسف قال‏:‏ وأولى ما يقال في هذا أن تبقى الكلمة على ما وقع لي الرواية ويحمل على أنها عبرانية ولذلك سأل الصحابة اليهودي عن تفسيرها ولو كان اللأي لعرفوها لأنها من لسانهم‏.‏

وجزم النووي بهذا فقال‏:‏ هي لفظة عبرانية معناها ثور‏.‏

قوله ‏(‏يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا‏)‏ قال عياض زيادة الكبد وزائدتها هي القطعة المنفردة المتعلقة بها وهي أطيبه ولهذا خص بأكلها السبعون ألفا ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب فضلوا بأطيب النزل ويحتمل أن يكون عبر بالسبعين عن العدد الكثير ولم يرد الحصر فيها وقد تقدم في أبواب الهجرة قبيل المغازي في مسائل عبد الله بن سلام أن أول طعام يأكله أهل الجنة له زيادة كبد الحوت وأن عند مسلم في حديث ثوبان ‏"‏ تحفة أهل الجنة زيادة كبد النون ‏"‏ وفيه ‏"‏ غذاؤهم على أثرها أن ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ‏"‏ وفيه ‏"‏ وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا ‏"‏ وأخرج ابن المبارك في ‏"‏ الزهد ‏"‏ بسند حسن عن كعب الأحبار‏:‏ أن الله تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها‏:‏ إن لكل ضيف جزورا وإني أجزركم اليوم حوتا وثورا فيجزر لأهل الجنة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏محمد بن جعفر‏)‏ أي ابن أبي كثير وأبو حازم هو سلمة بن دينار‏.‏

قوله ‏(‏يحشر الناس‏)‏ بضم أوله‏.‏

فوله ‏(‏أرض عفراء‏)‏ قال الخطابي العفر بياض ليس بالناصع وقال عياض‏:‏ العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلا ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها‏.‏

وقال ابن فارس‏:‏ معنى عفراء خالصة البياض‏.‏

وقال الداودي‏:‏ شديدة البياض‏.‏

كذا قال والأول هو المعتمد‏.‏

قوله ‏(‏كقرصة النقي‏)‏ بفتح النون كسر القاف أي الدقيق النقي من الغش والنخال قاله الخطابي‏.‏

قوله ‏(‏قال سهل أو غيره ليس فيها معلم لأحد‏)‏ هو موصول بالسند المذكور وسهل هو راوي الخبر وأو للشك والغير المبهم لم أقف على تسميته‏.‏

ووقع هذا الكلام الأخير لمسلم من طريق خالد بن مخلد عن محمد ابن جعفر مدرجا بالحديث ولفظه ‏"‏ ليس فيها علم لأحد ‏"‏ ومثله لسعيد بن منصور عن ابن أبي حازم عن أبيه والعلم والمعلم بمعنى واحد قال الخطابي‏:‏ يريد أنها مستوية‏.‏

والمعلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة هو الشيء الذي يستدل به على الطريق‏.‏

وقال عياض‏:‏ المراد أنها ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة‏.‏

وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها‏.‏

وقال الداودي‏:‏ المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا إلا ما أدرك منها‏.‏

وقال أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ فيه دليل على عظيم القدرة والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

وفيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلت وأعدمت وأن أرض الموقف تجددت‏.‏

وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله تعالى ‏(‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏)‏ هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها أو تغيير صفاتها فقط وحديث الباب يؤيد الأول‏.‏

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى ‏(‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏)‏ الآية قال‏:‏ تبدل الأرض أرضا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف؛ وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعا وقال‏:‏ الموقوف أصح وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ‏:‏ أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة ورجاله موثقون أيضا ولأحمد من حديث أبي أيوب‏:‏ أرض كالفضة البيضاء قيل فأين الخلق يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ هم أضياف الله لن يعجزهم ما لديه‏.‏

وللطبري من طريق سنان بن سعد عن أنس مرفوعا‏:‏ يبدلها الله بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا‏.‏

وعن علي موقوفا نحوه‏.‏

ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد‏:‏ أرض كأنها فضة والسماوات كذلك‏.‏

وعن علي والسماوات من ذهب‏.‏

وعند عبد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال‏:‏ بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها‏.‏

وفي حديث الصور الطويل‏:‏ تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا‏.‏

ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان عليها انتهى‏.‏

وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول ويؤيده قوله تعالى ‏(‏وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت‏)‏ ‏.‏

وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها فمستنده ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق‏.‏

ومن حديث جابر رفعه تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه‏.‏

ووقع في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏)‏ قال‏:‏ يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم العكاظي وعزاه الثعلبي في تفسيره لرواية أبي هريرة وحكاه البيهقي عن أبي منصور الأزهري وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها ويؤيده ما وقع في الحديث الذي قبله أن أرض الدنيا تصير خبزة والحكمة في ذلك ما تقدم أنها تعد لأكل المؤمنين منها في زمان الموقف ثم تصير نزلا لأهل الجنة وأما ما أخرجه الطبري من طريق المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ الأرض كلها تأتي يوم القيامة فالذي قبله عن ابن مسعود أصح سندا ولعل المراد بالأرض في هذه الرواية أرض البحر فقد أخرج الطبري أيضا من طريق كعب الأحبار قال‏:‏ يصير مكان البحر نارا وفي تفسير للربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب‏:‏ تصير السماوات جفانا ويصير مكان البحر نارا وأخرج البيهقي في ‏"‏ البعث ‏"‏ من هذا الوجه في قوله تعالى ‏(‏وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة‏)‏ قال‏:‏ يصيران غبرة في وجوه الكفار‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الجمع بأن بعضها يصير نارا وبعضها غبارا وبعضها يصير خبزة وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها ‏"‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ‏(‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏)‏ أين يكون الناس حينئذ‏؟‏ قال‏:‏ على الصراط ‏"‏ وفي رواية الترمذي ‏"‏ على جسر جهنم ‏"‏ ولأحمد من طريق ابن عباس عن عائشة ‏"‏ على متن جهنم ‏"‏ وأخرج مسلم أيضا من حديث ثوبان مرفوعا ‏"‏ يكونون في الظلمة دون الجسر ‏"‏ فقد جمع بينها البيهقي بأن المراد بالجسر الصراط كما سيأتي بيانه في ترجمة مستقلة وأن في قوله على الصراط مجازا لكونهم يجاوزونه لأن في حديث ثوبان زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها وكان ذلك عند الزجرة التي تقع عند نقلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف ويشير إلى ذلك قوله تعالى ‏(‏كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم‏)‏ واختلف في السماوات أيضا فتقدم قول من قال إنها تصير جفانا وقيل إنها إذا طويت تكور شمسها وقمرها وسائر نجومها وتصير تارة كالمهل وتارة كالدهان وأخرج البيهقي في ‏"‏ البعث ‏"‏ من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال‏:‏ السماء تكون ألوانا كالمهل وكالدهان وواهية وتشقق فتكون حالا بعد حال وجمع بعضهم بأنها تنشق أولا فتصير كالوردة وكالدهان وواهية وكالمهل وتكور الشمس والقمر وسائر النجوم ثم تطوى السماوات وتضاف إلى الجنان ونقل القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏ عن أبي الحسن بن حيدرة صاحب ‏"‏ الإفصاح ‏"‏ أنه جمع بين هذه الأخبار بأن تبديل السماوات والأرض يقع مرتين إحداهما تبدل صفاتهما فقط وذلك عند النفخة الأولى فتنثر الكواكب وتخسف الشمس والقمر وتصير السماء كالمهمل وتكشط عن الرءوس وتسير الجبال وتموج الأرض وتنشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض وتبدل السماء والأرض إلى آخر كلامه في ذلك والعلم عند الله تعالى‏.‏

*3*باب كَيْفَ الْحَشْرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الحشر‏)‏ قال القرطبي الحشر الجمع وهو أربعة‏:‏ حشران في الدنيا وحشران في الآخرة فالذي في الدنيا أحدهما المذكور في سورة الحشر في قوله تعالى ‏(‏هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر‏)‏ والثاني الحشر المذكور في أشراط الساعة الذي أخرجه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رفعه ‏"‏ إن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ‏"‏ فذكره وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي يعلى مرفوعا ‏"‏ تخرج نار قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ عليكم بالشام ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس إلى المحشر‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وفي حديث أنس في مسائل عبد الله بن سلام لما أسلم ‏"‏ أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ‏"‏ وقد قدمت الإشارة إليه في ‏"‏ باب طلوع الشمس من مغربها ‏"‏ وأنه مذكور في بدء الخلق وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم رفعه ‏"‏ تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقبل معهم حيث قالوا ويكون لها ما سقط منهم وتخلف تسوقهم سوق الجمل الكسير ‏"‏ وقد أشكل الجمع بين هذه الأخبار وظهر لي في وجه الجمع أن كونها تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها‏.‏

والمراد بقوله ‏"‏ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ‏"‏ إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر أهل المشرق ويؤيد ذلك أن ابتداء الفتن دائما من المشرق كما سيأتي تقريره في كتاب الفتن وأما جعل الغاية إلى المغرب فلأن الشام بالنسبة إلى المشرق مغرب ويحتمل أن تكون النار في حديث أنس كناية عن الفتن المنتشرة التي أثارت الشر العظيم والتهبت كما تلتهب النار وكان ابتداؤها من قبل المشرق حتى خرب معظمه وانحشر الناس من جهة المشرق إلى الشام ومصر وهما من جهة المغرب كما شوهد ذلك مرارا من المغل من عهد جنكزخان ومن بعده والنار التي في الحديث الآخر على حقيقتها والله أعلم‏.‏

والحشر الثالث حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعا إلى الموقف‏.‏

قال الله عز وجل ‏(‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏)‏ والرابع حشرهم إلى الجنة أو النار‏.‏

انتهى ملخصا بزيادات‏.‏

قلت‏:‏ الأول ليس حشرا مستقلا فإن المراد حشر كل موجود يومئذ والأول إنما وقع لفرقة مخصوصة وقد وقع نظيره مرارا‏:‏ تخرج طائفة من بلدها بغير اختيارها إلى جهة الشام كما وقع لبني أمية أول ما تولى ابن الزبير الخلافة فأخرجهم من المدينة إلى جهة الشام ولم يعد ذلك أحد حشرا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وهيب‏)‏ بالتصغير هو ابن خالد وابن طاوس هو عبد الله وصرح به في رواية مسلم‏.‏

قوله ‏(‏على ثلاث طرائق‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ثلاثة والطرائق جمع طريق وهي تذكر وتؤنث‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏راغبين وراهبين‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ راهبين ‏"‏ بغير واو وعلى الروايتين فهي الطريقة الأولى‏.‏

قوله ‏(‏واثنان على بعير ثلاثة على بعير أربعة على بعير عشرة على بعير‏)‏ كذا فيه بالواو في الأول فقط وفي رواية مسلم والإسماعيلي بالواو في الجميع وعلى الروايتين فهي الطريقة الثانية‏.‏

قوله ‏(‏وتحشر بقيتهم النار‏)‏ هذه هي النار المذكورة في حديث حذيفة بن أسيد بفتح الهمزة وعند مسلم في حديث فيه ذكر الآيات الكائنة قبل قيام الساعة كطلوع الشمس من مغربها ففيه ‏"‏ وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ تطرد الناس إلى حشرهم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏تقيل معهم حيث قالوا إلخ‏)‏ فيه إشارة إلى ملازمة النار لهم إلى أن يصلوا إلى مكان الحشر‏.‏

وهذه الطريقة الثالثة‏.‏

قال الخطابي‏:‏ هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة تحشر الناس أحياء إلى الشام‏.‏

وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو على خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها وإنما هو على ما ورد في حديث ابن عباس في الباب ‏"‏ حفاة عراة مشاة ‏"‏ قال‏:‏ وقوله ‏"‏ واثنان على بعير وثلاثة على بعير إلخ ‏"‏ يريد أنهم يعتقبون البعير الواحد يركب بعض ويمشي بعض‏.‏

قلت‏:‏ وإنما لم يذكر الخمسة والستة إلى العشرة إيجازا واكتفاء بما ذكر من الأعداد مع أن الاعتقاب ليس مجزوما به ولا مانع أن يجعل الله في البعير ما يقوى به على حمل العشرة ومال الحليمي إلى أن هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور وجزم به الغزالي‏.‏

وقال الإسماعيلي‏:‏ ظاهر حديث أبي هريرة يخالف حديث ابن عباس المذكور بعد أنهم يحشرون حفاة عراة مشاة قال‏:‏ ويجمع بينهما بأن الحشر يعبر به عن النشر لاتصاله به وهو إخراج الخلق من القبور حفاة عراة فيساقون ويجمعون إلى الموقف للحساب فحينئذ يحشر المتقون ركبانا على الإبل وجمع غيره بأنهم يخرجون من القبور بالوصف الذي في حديث ابن عباس ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف على ما في حديث أبي هريرة ويؤيده ما أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي ذر ‏"‏ حدثني الصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج‏:‏ فوج طاعمين كاسين راكبين‏:‏ وفوج يمشون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم ‏"‏ الحديث وصوب عياض ما ذهب إليه الخطابي وقواه بحديث حذيفة بن أسيد وبقوله في آخر حديث الباب ‏"‏ تقيل معهم وتبيت وتصبح وتمسي ‏"‏ فإن هذه الأوصاف مختصة بالدنيا‏.‏

وقال بعض شراح ‏"‏ المصابيح ‏"‏‏:‏ حمله على الحشر من القبور أقوى من أوجه‏:‏ أحدها أن الحشر إذا أطلق في عرف الشرع إنما يراد به الحشر من القبور ما لم يخصه دليل ثانيها أن هذا التقسيم المذكور في الخبر لا يستقيم في الحشر إلى أرض الشام لأن المهاجر لا بد أن يكون راغبا أو راهبا أو جامعا بين الصفتين فإما أن يكون راغبا راهبا فقط وتكون هذه طريقة واحدة لا ثاني لها من جنسها فلا ثالثها حشر البقية على ما ذكر وإلجاء النار لهم إلى تلك الجهة وملازمتها حتى لا تفارقهم قول لم يرد به التوقيف وليس لنا أن نحكم بتسليط النار في الدنيا على أهل الشنوة من غير توقيف رابعها أن الحديث يفسر بعضه بعضا‏.‏

وقد وقع في الحسان من حديث أبي هريرة وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن علي بن زيد عن أوس بن أبي أوس عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ ثلاثا على الدواب وثلاثا ينسلون على أقدامهم وثلاثا على وجوههم ‏"‏ قال‏:‏ ونرى أن هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث نظير التقسيم الذي وقع في تفسير الواقعة في قوله تعالى ‏(‏وكنتم أزواجا ثلاثة‏)‏ الآيات فقوله في الحديث ‏"‏ راغبين راهبين ‏"‏ يريد به عوام المؤمنين وهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فيترددون بين الخوف والرجاء يخافون عاقبة سيئاتهم ويرجون رحمة الله بإيمانهم وهؤلاء أصحاب الميمنة وقوله ‏"‏ واثنان على بعير إلخ ‏"‏ السابقين وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركبانا‏.‏

وقوله ‏"‏وتحشر بقيتهم النار ‏"‏ به أصحاب المشأمة وركوب السابقين في الحديث يحتمل الحمل دفعة واحدة تنبيها على أن البعير المذكور يكون من بدائع فطرة الله تعالى حتى يقوى على ما لا يقوى عليه غيره من البعران ويحتمل أن يراد به التعاقب قال الخطابي وإنما سكت عن الواحد إشارة إلى أنه يكون لمن فوقهم في المرتبة كالأنبياء ليقع الامتياز بين النبي ومن دونه من السابقين في المراكب كما وقع في المراتب‏.‏

انتهى ملخصا وتعقبه الطيبي ورجح ما ذهب إليه الخطابي وأجاب عن الأول بأن الدليل ثابت فقد ورد في عدة أحاديث وقوع الحشر في الدنيا إلى جهة الشام وذكر حديث حذيفة بن أسيد الذي نبهت عليه قبل وحديث معاوية بن حيدة جد بهز بن حكيم رفعه ‏"‏ إنكم محشورون ونحا بيده نحو الشام رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم ‏"‏ أخرجه الترمذي والنسائي وسنده قوي وحديث ‏"‏ ستكون هجرة بعد هجرة وتنحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم ولا يبقى في الأرض إلا شرارها تلفظهم أرضوهم وتحشرهم النار مع القردة والخنازير تبين معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا ‏"‏ أخرجه أحمد وسنده لا بأس به وأخرج عبد الرزاق عن النعمان بن المنذر عن وهب بن منبه قال‏:‏ قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس لأضعن عليك عرشي ولأحشرن عليك خلقي‏.‏

وفي تفسير ابن عيينة عن ابن عباس‏:‏ من شك أن المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ أول سورة الحشر قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ اخرجوا قالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر‏.‏

وحديث ‏"‏ ستخرج نار من حضرموت تحشر الناس قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ عليكم بالشام ‏"‏ ثم حكى خلافا هل المراد بالنار نار على الحقيقة أو هو كناية عن الفتنة الشديدة كما يقال نار الحرب لشدة ما يقع في الحرب قال تعالى ‏(‏كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله‏)‏ وعلى كل حال فليس المراد بالنار لا هذه الأحاديث نار الآخرة ولو أريد المعنى الذي زعمه المعترض لقيل تحشر بقيتهم إلى النار وقد أضاف الحشر إلى النار لكونها هي التي تحشرهم وتختطف من تخلف منهم كما ورد في حديث أبي هريرة من رواية علي بن زيد عند أحمد وغيره؛ وعلى تقدير أن تكون النار كناية على الفتنة فنسبة الحشر إليها سببية كأنها تفشو في كل جهة وتكون في جهة الشام أخف منها في غيرها فكل من عرف ازديادها في الجهة التي هو فيها أحب التحول منها إلى المكان الذي ليست فيه شديدة فتتوفر الدواعي على الرحيل إلى الشام ولا يمتنع اجتماع الأمرين وإطلاق النار على الحقيقة التي تخرج من قعر عدن وعلى المجازية وهي الفتنة إذ لا تنافي بينهما ويؤيد الحمل على الحقيقة ظاهر الحديث الأخير والجواب عن الاعتراض الثاني أن التقسيم المذكور في آيات سورة الواقعة لا يستلزم أن يكون هو التقسيم المذكور في الحديث فإن الذي في الحديث ورد على القصد من الخلاص من الفتنة فمن اغتنم الفرصة سار على فسحة من الظهر ويسرة في الزاد راغبا فيما يستقبله راهبا فيما يستدبره وهؤلاء هم الصنف الأول في الحديث ومن تواني حتى قل الظهر وضاق عن أن يسعهم لركوبهم اشتركوا وركبوا عقبة فيحصل اشتراك الاثنين في البعير الواحد وكذا الثلاثة ويمكنهم كل من الأمرين وأما الأربعة في الواحد فالظاهر من حالهم التعاقب وقد يمكنهم إذا كانوا خفافا أو أطفالا وأما العشرة فبالتعاقب وسكت عما فوقها إشارة إلى أنها المنتهى في ذلك وعما بينها وبين الأربعة إيجازا واختصارا وهؤلاء هم الصنف الثاني في الحديث وأما الصنف الثالث فعبر عنه بقوله ‏"‏ تحشر بقيتهم النار ‏"‏ إشارة إلى أنهم عجزوا عن تحصيل ما يركبونه ولم يقع في الحديث بيان حالهم بل يحتمل أنهم يمشون أو يسحبون فرارا من النار التي تحشرهم ويؤيد ذلك ما وقع في آخر حديث أبي ذر الذي تقدمت الإشارة إليه في كلام المعترض وفيه أنهم سألوا عن السبب في مشي المذكورين فقال ‏"‏ يبقى الله الآفة على الظهر حتى لا يلقي ذات ظهر حتى إن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ‏"‏ أي يشتري الناقة المسن لأجل كونها تحمله على القتب بالبستان الكريم لهوان العقار الذي عزم على الرحيل عنه وعزة الظهر الذي يوصله إلى مقصوده وهذا لائق بأحوال الدنيا ومؤكد لما ذهب إليه الخطابي ويتنزل على وفق حديث الباب يعني من ‏"‏ المصابيح ‏"‏ وهو أن قوله ‏"‏ فوج طاعمين كاسين راكبين ‏"‏ موافق لقوله ‏"‏ راغبين راهبين ‏"‏ وقوله ‏"‏ وفوج يمشون ‏"‏ موافق للصنف الذين يتعاقبون على البعير فإن صفة المشي لازمة لهم وأما الصنف الذين تحشرهم النار فهم الذين تسحبهم الملائكة‏.‏

والجواب عن الاعتراض الثالث أنه تبين من شواهد الحديث أنه ليس المراد بالنار نار الآخرة وإنما هي نار تخرج في الدنيا أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها وذكر كيفية ما تفعل في الأحاديث المذكورة‏.‏

والجواب عن الاعتراض الرابع أن حديث أبي هريرة من رواية علي بن زيد مع ضعفه لا يخالف حديث الباب لأنه موافق لحديث أبي ذر في لفظه وقد تبين من حديث أبي ذر ما دل على أنه في الدنيا لا بعد البعث في الحشر إلى الموقف إذ لا حديقة هناك ولا آفة تلقى على الظهر حتى يعز ويقل وقع في حديث علي بن زيد المذكور عند أحمد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وقد سبق أن أرض الموقف أرض مستوية لا عوج فيها ولا أكمة ولا حدب ولا شوك وأشار الطيبي إلى أن الأولى أن يحمل الحديث الذي من رواية علي بن زيد علي من يحشر من الموقف إلى مكان الاستقرار من الجنة أو النار ويكون المراد بالركبان السابقين المتقين وهم المراد بقوله تعالى ‏(‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا‏)‏ أي ركبانا كما تقدم في تفسير سورة مريم وأخرج الطبري عن على في تفسير هذه الآية فقال‏:‏ أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساقون سوقا ولكن يؤتون بنوق لم تر الخلائق مثلها عليها رحال الذهب وأزمتها الزبرجد فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة والمراد سوق ركائبهم إسراعا بهم إلى دار الكرامة كما يفعل في العادة بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك‏.‏

قال‏:‏ ويستبعد أن يقال يجيء وفد الله عشر على بعير جميعا أو متعاقبين وعلى هذا فقد روى أبو هريرة حال المحشورين عند انقراض الدنيا إلى جهة أرض المحشر وهم ثلاثة أصناف وحال المحشورين في الأخرى إلى محل الاستقرار انتهى كلام الطيبي عن جواب المعترض ملخصا موضحا بزيادات فيه لكن تقدم مما قررته أن حديث أبي هريرة من رواية علي بن زيد ليس في المحشورين من الموقف إلى محل الاستقرار‏.‏

ثم ختم كلامه بأن قال‏:‏ هذا ما سنح لي على سبيل الاجتهاد ثم رأيت في صحيح البخاري في ‏"‏ باب المحشر‏:‏ يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق ‏"‏ فعلمت من ذلك أن الذي ذهب إليه الإمام التوربشتي هو الحق الذي لا محيد عنه‏.‏

قلت‏:‏ ولم أقف في شيء من طرق الحديث الذي أخرجه البخاري على لفظ يوم القيامة لا في صحيحه ولا في غيره وكذا هو عند مسلم والإسماعيلي وغيرهما ليس فيه يوم القيامة نعم ثبت لفظ يوم القيامة في حديث أبي ذر المنبه عليه قبل وهو مؤول بأن المراد بذلك أن يوم القيامة يعقب ذلك فيكون من مجاز المجاورة ويتعين ذلك لما وقع فيه أن الظهر يقل لما يلقى عليه من الآفة وأن الرجل يشتري الشارف الواحد بالحديقة المعجبة فإن ذلك ظاهر جدا في أنه من أحوال الدنيا لا بعد المبعث‏.‏

وقد أبدى البيهقي في حديث الباب احتمالين فقال‏:‏ قوله ‏"‏ راغبين ‏"‏ يحتمل أن يكون إشارة إلى الأبرار وقوله ‏"‏ راهبين ‏"‏ إشارة إلى المخلطين الذين هم بين الخوف والرجاء والذين تحشرهم النار هم الكفار‏.‏

وتعقب بأنه حذف ذكر قوله ‏"‏ واثنان على بعير إلخ‏"‏‏.‏

وأجيب بأن الرغبة والرهبة صفتان للصنفين الأبرار والمخلطين وكلاهما يحشر اثنان على بعير إلخ قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك في وقت حشرهم إلى الجنة بعد الفراغ‏.‏

ثم قال بعد إيراد حديث أبي ذر‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالفوج الأول الأبرار وبالفوج الثاني الذين خلطوا فيكونون مشاة والأبرار ركبانا وقد يكون بعض الكفار أعيا من بعض فأولئك يسحبون على وجوههم ومن دونهم يمشون ويسعون مع من شاء الله من الفساق وقت حشرهم إلى الموقف وأما الظهر فلعل المراد به ما يحيه الله بعد الموت من الدواب فيركبها الأبرار ومن شاء الله ويلقى الله الآفة على بقيتها حتى يبقى جماعة من المخلطين بلا ظهر‏.‏

قلت‏:‏ ولا يخفى ضعف هذا التأويل مع قوله في بقية الحديث ‏"‏ حتى إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف ‏"‏ ومن أين يكون للذين يبعثون بعد الموت عراة حفاة حدائق حتى يدفعوها في الشوارف‏؟‏ فالراجح ما تقدم‏.‏

وكذا يبعد غاية البعد أن يحتاج من يساق من الموقف إلى الجنة إلى التعاقب على الأبعرة فرجح أن ذلك إنما يكون قبل المبعث والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَتَادَةُ بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي ويونس هو المؤدب وشيبان هو ابن عبد الرحمن‏.‏

قوله ‏(‏أن رجلا‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله ‏(‏قال يا نبي الله يحشر الكافر على وجهه‏)‏ كأنه استفهام حذف أداته ووقع في عدة نسخ ‏"‏ كيف يحشر ‏"‏ وكذا هو عند مسلم وغيره والكافر اسم جنس يشمل الجميع ويؤيده قوله تعالى ‏(‏الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم‏)‏ الآية وقوله تعالى ‏(‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا‏)‏ الآية‏.‏

وقد تقدم في التفسير أن الحاكم أخرجه من وجه آخر عن أنس بلفظ ‏"‏ كيف يحشر أهل النار على وجوههم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أليس الذي أمشاه إلخ‏)‏ ظاهر في أن المراد بالمشي حقيقته فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته وزعم بعض المفسرين أنه مثل وأنه كقوله ‏(‏أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدي أمن يمشي سويا‏)‏ قال مجاهد‏:‏ هذا مثل المؤمن والكافر قلت‏:‏ ولا يلزم من تفسير مجاهد لهذه الآية بهذا أن يفسر به الآية الأخرى فالجواب الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقرير المشي على حقيقته‏.‏

قوله ‏(‏قال قتادة بلى وعزة ربنا‏)‏ هو موصول بالسند المذكور والحكمة في حشر الكافر على وجهه أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا بأن يسحب على وجهه في القيامة إظهارا لهوانه بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا قَالَ سُفْيَانُ هَذَا مِمَّا نَعُدُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ

الشرح‏:‏

الحديث ذكره من طريقين عن سعيد بن جبير‏.‏

قوله ‏(‏علي‏)‏ هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة‏.‏

قوله ‏(‏قال عمرو‏)‏ القائل هو سفيان وحاكي ذلك عنه هو علي وكان سفيان كثيرا ما يحذف الصيغة فيقتصر على اسم الراوي ووقع في رواية صدقة التي بعدها عن عمرو وكذا لمسلم عن قتيبة وغيره عن سفيان وعمرو هو ابن دينار‏.‏

قوله ‏(‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ زاد قتيبة في روايته ‏"‏ يخطب على المنبر ‏"‏ ولعل هذا هو السر في إيراده لراوية قتيبة بعد رواية علي بن المديني‏.‏

قوله ‏(‏إنكم ملاقو الله‏)‏ أي في الموقف بعد البعث‏.‏

قوله ‏(‏حفاة‏)‏ بضم المهملة وتخفيف الفاء جمع حاف أي بلا خف ولا نعل وقوله ‏"‏ مشاة ‏"‏ لم أر في رواية قتيبة هنا ‏"‏ مشاة ‏"‏ وثبت في رواية مسلم عنه وعن غيره وليس عنده عنهم قوله ‏"‏ على المنبر‏"‏‏.‏

قوله في آخر رواية علي بن المديني ‏(‏قال سفيان إلخ‏)‏ هو موصول كالذي قبله ولم يصب من قال إنه معلق عن سفيان‏.‏

قوله ‏(‏هذا مما نعد أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يريد أن ابن عباس من صغار الصحابة وهو من المكثرين لكنه كان كثيرا ما يرسل ما يسمعه من أكابر الصحابة ولا يذكر الواسطة وتارة يذكره باسمه وتارة مبهما كقوله في أوقات الكراهة ‏"‏ حدثني رجال مرضيون أرضاهم عندي عمر ‏"‏ فأما ما صرح بسماعه له فقليل ولهذا كانوا يعتنون بعده فجاء عن محمد بن جعفر غندر أن هذه الأحاديث التي صرح ابن عباس بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم عشرة وعن يحيى بن معين وأبي داود صاحب السنن تسعة وأغرب الغزالي في ‏"‏ المستصفى ‏"‏ وقلده جماعة ممن تأخروا عنه فقال‏:‏ لم يسمع ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعه أحاديث وقال بعض شيوخ شيوخنا‏:‏ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم دون العشرين من وجوه صحاح‏.‏

قلت‏:‏ وقد اعتنيت بجمعها فزاد على الأربعين ما بين صحيح وحسن خارجا عن الضعيف وزائدا أيضا على ما هو في حكم السماع كحكايته حضور شيء فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الغزالي التبس عليه ما قالوا إن أبا العالية سمعه من ابن عباس وقيل خمسة وقيل أربعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الْآيَةَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ إِلَى قَوْلِهِ الْحَكِيمُ قَالَ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب‏)‏ وقع لمسلم بدل قوله يخطب ‏"‏ بموعظة ‏"‏ أخرجه عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه ومحمد بن المثنى قال واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر بسنده المذكور هنا وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر‏.‏

قوله ‏(‏فقال إنكم‏)‏ زاد ابن المثنى ‏"‏ يا أيها الناس إنكم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏تحشرون‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ محشورون ‏"‏ وهي رواية ابن المثنى‏.‏

قوله ‏(‏حفاة‏)‏ لم يقع فيه أيضا ‏"‏ مشاة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عراة‏)‏ قال البيهقي‏:‏ وقع في حديث أبي سعيد يعني الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ‏"‏ ويجمع بينهما بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال ‏"‏ دفنا أم معاذ بن جبل فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال‏:‏ أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها ‏"‏ قال وحمله بعض أهل العلم على العمل وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله تعالى ‏(‏ولباس التقوى ذلك خير‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏وثيابك فطهر‏)‏ على أحد الأقوال وهو قول قتادة قال‏:‏ معناه وعملك فأخلصه ويؤكد ذلك حديث جابر رفعه ‏"‏ يبعث كل عبد على ما مات عليه ‏"‏ أخرجه مسلم وحديث فضالة بن عبيد ‏"‏ من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد ورجح القرطبي الحمل على ظاهر الخبر ويتأيد بقوله تعالى ‏(‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏كما بدأكم تعودون‏)‏ وإلى ذلك الإشارة في حديث الباب بذكر قوله تعالى ‏(‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏)‏ عقب قوله ‏"‏ حفاة عراة ‏"‏ قال‏:‏ فيحمل ما دل عليه حديث أبي سعيد على الشهداء لأنهم يدفنون بثيابهم فيبعثون فيها تمييزا لهم عن غيرهم وقد نقله ابن عبد البر عن أكثر العلماء ومن حيث النظر إن الملابس في الدنيا أموال ولا مال في الآخرة مما كان في الدنيا ولأل الذي يقي النفس مما تكره في الآخرة ثواب بحسن عملها أو رحمة مبتدأة من الله وأما ملابس الدنيا فلا تغني عنها شيئا قاله الحليمي‏.‏

وذهب الغزالي إلى ظاهر حديث أبي سعيد وأورده بزيادة لم أجد لها أصلا وهي‏:‏ فإن أمتي تحشر في أكفانها وسائر الأمم عراة‏.‏

قال القرطبي‏:‏ إن ثبت حمل على الشهداء من أمته حتى لا تتناقض الأخبار‏.‏

قوله ‏(‏غرلا‏)‏ بضم المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف وزنه ومعناه وهو من بقيت غرلته وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر قال أبو هلال العسكري‏:‏ لا تلتقي اللام مع الراء في كلمة إلا في أربع‏:‏ أرل اسم جبل وورل اسم حيوان معروف وحرل ضرب من الحجارة والغرلة‏.‏

واستدرك عليه كلمتان هرل ولد الزوجة وبرل الديك الذي يستدير بعنقه والستة حوشية إلا الغرالة‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ يحشر الآدمي عاريا ولكل من الأعضاء ما كان له يوم ولد فمن قطع منه شيء يرد حتى الأقلف‏.‏

وقال أبو الوفاء بن عقيل‏:‏ حشفة الأقلف موقاة بالقلفة فتكون أرق فلما أزالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله تعالى ليذيقها من حلاوة فضله‏.‏

قوله ‏(‏كما بدأنا أول خلق نعيده الآية‏)‏ ساق ابن المثنى الآية كلها إلى قوله ‏(‏فاعلين‏)‏ ومثله ‏(‏كما بدأكم تعودون‏)‏ ومنه ‏(‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏)‏ ووقع في حديث أم سلمة عند ابن أبي الدنيا ‏"‏ يحشر الناس حفاة عراة كما بدؤوا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وإن أول الخلائق يكسى يوم القمامة إبراهيم الخليل‏)‏ تقدم بعض الكلام عليه في أحاديث الأنبياء قال القرطبي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏‏:‏ يجوز أن يراد بالخلائق من عدا نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يدخل هو في عموم خطاب نفسه وتعقيه تلميذه القرطبي أيضا في ‏"‏ التذكرة ‏"‏ فقال‏:‏ هذا حسن لولا ما جاء من حديث على يعني الذي أخرجه ابن المبارك في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن علي قال ‏"‏ أول من يكسى يوم القيامة خليل الله عليه السلام قبطيتين ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حبرة عن يمين العرش‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ كذا أورده مختصرا موقوفا وأخرجه أبو يعلى مطولا مرفوعا وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحو حديث الباب وزاد ‏"‏ وأول من يكسى من الجنة إبراهيم يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ثم يؤتى بي فأكسى حله من الجنة لا يقوم لها البشر ثم يؤتى بكرسي فيطرح على ساق العرش وهو عن يمين العرش ‏"‏ وفي مرسل عبيد بن عمير عند جعفر الفريابي ‏"‏ يحشر الناس حفاة عراة فيقول الله تعالى‏:‏ ألا أرى خليلي عريانا‏؟‏ فيكسى إبراهيم ثوبا أبيض فهو أول من يكسى ‏"‏ قيل الحكمة في كون إبراهيم أول من يكسى أنه جرد حين ألقى في النار وقيل لأنه أول من استن التستر بالسراويل وقيل إنه لم يكن في الأرض أخوف لله منه فعجلت له الكسوة أمانا له ليطمئن قلبه‏.‏

وهذا اختيار الحليمي والأول اختيار القرطبي‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرج ابن منده من حديث حيدة بفتح المهملة وسكون التحتانية رفعه قال ‏"‏ أول من يكسى إبراهيم يقول الله‏:‏ اكسوا خليلي ليعلم الناس اليوم فضله عليهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم شيء من هذا في ترجمة إبراهيم من بدء الخلق وإنه لا يلزم من تخصيص إبراهيم عليه السلام بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام مطلقا وقد ظهر لي الآن أنه يحتمل أن يكون نبينا عليه الصلاة والسلام خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها والحلة التي يكساها حينئذ من حلل الجنة خلعة الكرامة بقرينة إجلاسه على الكرسي عند ساق العرش فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق‏.‏

وأجاب الحليمي بأنه يكسى أولا ثم يكسى نبينا صلى الله عليه وسلم على ظاهر الخبر لكن حلة نبينا صلى الله عليه وسلم أعلى وأكمل فتجبر نفاستها ما فات من الأولية والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال‏)‏ أي إلى جهة النار ووقع ذلك صريحا في حديث أبي هريرة في آخر ‏"‏ باب صفة النار ‏"‏ من طريق عطاء بن يسار عنه ولفظه ‏"‏ فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال‏:‏ هلم فقلت‏:‏ إلى أين‏؟‏ قال‏:‏ إلى النار ‏"‏ الحديث‏.‏

وبين في حديث أنس الموضع ولفظه ‏"‏ ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ‏"‏ الحديث وفي حديث سهل ‏"‏ ليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ ليذادن رحال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم‏:‏ ألا هلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأقول يا رب أصحابي‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ فلأقولن ‏"‏ وفي رواية أحاديث الأنبياء ‏"‏ أصيحابي ‏"‏ بالتصغير وكذا هو في حديث أنس وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هؤلاء‏.‏

قوله ‏(‏فيقول الله إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك‏)‏ في حديث أبي هريرة المذكور ‏"‏ إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ‏"‏ وزاد في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أيضا ‏"‏ فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا ‏"‏ أي بعدا بعدا والتأكيد للمبالغة‏.‏

وفي حديث أبي سعيد في ‏"‏ باب صفة النار ‏"‏ أيضا ‏"‏ فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي ‏"‏ وزاد في رواية عطاء بن يسار ‏"‏ فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ‏"‏ ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه ‏"‏ ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني ‏"‏ وسنده حسن‏.‏

وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه وزاد ‏"‏ فقلت يا رسول الله ادع الله أن لا يجعلني منهم قال‏:‏ لست منهم ‏"‏ وسنده حسن‏.‏

قوله ‏(‏فأقول كما قال العبد الصالح‏:‏ وكنت عليهم شهيدا - إلى قوله - الحكيم‏)‏ كذا لأبي ذر وفي رواية غيره زيادة ما دمت فيهم والباقي سواء‏.‏

قوله ‏(‏قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم‏)‏ وقع في رواية الكشميهني ‏"‏ لن يزالوا ‏"‏ ووقع في ترجمة مريم من أحاديث الأنبياء قال الفربري ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال‏:‏ هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر يعني حتى قتلوا وماتوا على الكفر‏.‏

وقد وصله الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين‏.‏

ويدل قوله ‏"‏ أصيحابي ‏"‏ بالتصغير على قلة عددهم‏.‏

وقال غيره‏:‏ قيل هو على ظاهره من الكفر والمراد بأمتي أمة الدعوة لا أمة الإجابة‏.‏

ورجح بقوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ فأقول بعدا لهم وسحقا ‏"‏ ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه‏.‏

وهذا يرده قوله في حديث أنس ‏"‏ حتى إذا عرفتهم ‏"‏ وكذا في حديث أبي هريرة‏.‏

وقال ابن التين يحتمل أن يكونوا منافقين أو من مرتكبي الكبائر‏.‏

وقيل هم قوم من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة‏.‏

وقال الداودي‏:‏ لا يمتنع دخول أصحاب الكبائر والبدع في ذلك‏.‏

وقال النووي‏.‏

قيل هم المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل لكونهم من جملة الأمة فيناديهم من أجل السيما التي عليهم فيقال إنهم بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه‏.‏

قال عياض وغيره‏:‏ وعلى هذا فيذهب عنهم الغرة والتحجيل ويطفأ نورهم‏.‏

وقيل لا يلزم أن تكون عليهم السيما بل يناديهم لما كان يعرف من إسلامهم وقيل هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام وعلى هذا فلا يقطع بدخول هؤلاء النار لجواز أن يذادوا عن الحوض أولا عقوبة لهم ثم يرحموا ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل فعرفهم بالسيما سواء كانوا في زمنه أو بعده ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قال قبيصة راوي الخبر إنهم من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من معرفته لهم أن يكون عليهم السيما لأنها كرامة يظهر بها عمل المسلم‏.‏

والمرتد قد حبط عمله فقد يكون عرفهم بأعيانهم لا بصفتهم باعتبار ما كانوا عليه قبل ارتدادهم ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضا من كان في زمنه من المنافقين وسيأتي في حديث الشفاعة ‏"‏ وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ‏"‏ فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين فيعرف أعيانهم ولو لم يكن لهم تلك السيما فمن عرف صورته ناداه مستصحبا لحاله التي فارقه عليها في الدنيا وأما دخول أصحاب البدع في ذلك فاستبعد لتعبيره في الخبر بقوله ‏"‏ أصحابي ‏"‏ وأصحاب البدع إنما حدثوا بعده‏.‏

وأجيب بحمل الصحبة على المعنى الأعم واستبعد أيضا أنه لا يقال للمسلم ولو كان مبتدعا سحقا وأجيب بأنه لا يمتنع أن يقال ذلك لمن علم أنه قضى عليه بالتعذيب على معصية ثم ينجو بالشفاعة فيكون قوله سحقا تسليما لأمر الله مع بقاء الرجاء وكذا القول في أصحاب الكبائر‏.‏

وقال البيضاوي ليس قوله ‏"‏ مرتدين ‏"‏ نصا في كونهم ارتدوا عن الإسلام بل يحتمل ذلك ويحتمل أن يراد أنهم عصاة المؤمنين المرتدون عن الاستقامة يبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة انتهى‏.‏

وقد أخرج أبو يعلى بسند حسن عن أبي سعيد ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر حديثا فقال ‏"‏ يا أيها الناس إني فرطكم على الحوض فإذا جئتم قال رجل‏:‏ يا رسول الله أنا فلان ابن فلان وقال آخر‏:‏ أنا فلان ابن فلان فأقول أما النسب فقد عرفته ولعلكم أحدثتم بعدي وارتددتم ‏"‏ ولأحمد والبزار نحوه من حديث جابر وسأذكر في آخر ‏"‏ باب صفة النار ‏"‏ ما يحتاج إلى شرحه من ألفاظ الأحاديث التي أشرت إليها إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا حاتم بن أبي صغيرة‏)‏ هو القشيري يكنى أبا يونس وأبوه بصاد مهملة مفتوحة وغين معجمة مكسورة وزن كبيرة وضدها واسمه مسلم‏.‏

قوله ‏(‏تحشرون حفاة عراة‏)‏ كذا فيه أيضا ليس فيه ‏"‏ مشاة ‏"‏ ووقع في حديث عبد الله بن أنيس عند أحمد والحاكم بلفظ ‏"‏ يحشر الله العباد - وأومأ بيده نحو الشام - عراة حفاة غرلا بهما - بضم الموحدة وسكون الهاء - قلنا‏:‏ وما بهما‏؟‏ قال‏:‏ ليس معهم شيء ‏"‏ ووقع عند ابن ماجه زيادة في أول حديث عائشة من روايته عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر واسمه سليمان بن حبان عن حاتم بسنده المذكور عن عائشة ‏"‏ قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ حفاة عراة ‏"‏ وقد أخرج مسلم سنده عن أبي بكر بن أبي شيبة ولم يسق المتن‏.‏

قوله ‏(‏فقلت يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض‏)‏ فيه أن النساء يدخلن في الضمير المذكر الآتي بالواو وكأنه بالتغليب كما في قولها بعضهم ووقع في رواية أبي بكر بن أبي شيبة المذكورة بعد قوله حفاة عراة ‏"‏ قلت‏:‏ والنساء‏؟‏ قال‏:‏ والنساء‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال الأمر أشد من أن يهمهم ذلك‏)‏ بضم أوله وكسر الهاء من الرباعي يقال أهمه الأمر وجوز ابن التين فتح أوله وضم ثانيه من همه الشيء إذا آذاه والأول أولى ووقع في رواية يحيى بن سعيد عن حاتم عند مسلم ‏"‏ قال يا عائش الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ‏"‏ وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فما نستحيي‏؟‏ قال‏:‏ يا عائشة الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض ‏"‏ وللنسائي والحاكم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فكيف بالعورات‏؟‏ قال‏:‏ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ‏"‏ وللترمذي والحاكم من طريق عثمان بن عبد الرحمن القرظي ‏"‏ قرأت عائشة ولقد جئتمونا فرادى خلقناكم أول مرة فقالت‏:‏ واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينطر بعضهم إلى سوأة بعض‏؟‏ فقال‏:‏ لكل امرئ الآية وزاد‏:‏ لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض ‏"‏ ولابن أبي الدنيا من حديث أنس قال ‏"‏ سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الناس‏؟‏ قال‏:‏ حفاة عراة‏.‏

قالت‏:‏ واسوأتاه قال قد نزلت على آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا‏:‏ لكل امرئ الآية ‏"‏ وفي حديث سودة عند البيهقي والطبراني نحوه أخرجاه من طريق أبي أويس عن محمد بن أبي عياش عن عطاه بن يسار عنها وأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط من رواية عبد الجبار بن سليمان عن محمد بهذا الإسناد فقال ‏"‏ عن أم سلمة ‏"‏ بدل سودة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا غندر‏)‏ هو محمد بن جعفر وقع كذلك في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار شيخ البخاري فيه كلاهما عنه‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي إسحاق‏)‏ هو السبيعي ‏(‏عن عمرو بن ميمون‏)‏ صرح يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق بسماعه من عمرو بن ميمون وسيأتي في الأيمان والنذور‏.‏

قوله ‏(‏عن عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود ووقع في رواية يوسف المذكورة ‏"‏ حدثني عبد الله بن مسعود‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ زاد مسلم عن محمد بن المثنى ‏"‏ نحوا من أربعين رجلا ‏"‏ وفي رواية يوسف المذكورة ‏"‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيف ظهره إلى قبة من آدم يماني ‏"‏ ولمسلم من رواية مالك ابن مغول عن أبي إسحاق ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره إلى قبة من أدم ‏"‏ وللإسماعيلي من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق ‏"‏ أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بمنى إلى قبة من أدم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أترضون‏)‏ في رواية يوسف ‏"‏ إذ قال لأصحابه ألا ترضون ‏"‏ وفي رواية إسرائيل ‏"‏ أليس ترضون ‏"‏ وفي رواية مالك بن مغول ‏"‏ أتحبون ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ ذكره بلفظ الاستفهام لإرادة تقرير البشارة بذلك وذكره بالتدريج ليكون أعظم لسرورهم‏.‏

قوله ‏(‏قلنا نعم‏)‏ في رواية يوسف ‏"‏ قالوا بلى ‏"‏ ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق ‏"‏ فكبرنا في الموضعين ‏"‏ ومثله في حديث أبي سعيد الآتي في الباب الذي يليه وزاد ‏"‏ فحمدنا ‏"‏ وفي حديث ابن عباس ‏"‏ ففرحوا ‏"‏ وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به فحمدوا الله على نعمته العظمى وكبروه استعظاما لنعمته بعد استعظامهم لنقمته‏.‏

قوله ‏(‏إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة‏)‏ في رواية أبي الأحوص وإسرائيل ‏"‏ فقال والذي نفس محمد بيده ‏"‏ وقال ‏"‏ نصف ‏"‏ بدل ‏"‏ شطر ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ إني لأطمع ‏"‏ بدل ‏"‏ لأرجو ‏"‏ ووقع لهذا الحديث سبب يأتي التنبيه عليه عند شرح حديث أبي سعيد وزاد الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في نحو حديث أبي سعيد ‏"‏ وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة ‏"‏ ولا تصح هذه الزيادة لأن الكلبي واه ولكن أخرج أحمد وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة قال ‏"‏ لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على الصحابة فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني ‏"‏ وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا أهل الجنة ‏"‏ وأخرج الخطيب في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ من مرسل مجاهد نحو حديث الكلبي وفيه مع إرساله أبو حذيفة إسحاق بن بشر أحد المتروكين وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث بريدة رفعه ‏"‏ أهل الجنة عشرون ومائة صف أمتي منها ثمانون صفا ‏"‏ وله شاهد من حديث ابن مسعود بنحوه وأتم منه أخرجه الطبراني وهذا يوافق رواية الكلبي فكأنه صلى الله عليه وسلم لما رجا رحمة ربه أن تكون أمته نصف أهل الجنة أعطاه ما ارتجاه وزاده وهو نحو قوله تعالى ‏(‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏وذلك أن الجنة‏)‏ في رواية أبي الأحوص ‏"‏ وسأخبركم عن ذلك ‏"‏ وفي رواية إسرائيل ‏"‏ وسأحدثكم بقلة المسلمين في الكفار يوم القيامة ‏"‏ وفي رواية مالك بن مغول ‏"‏ ما أنتم فيما سواكم من الأمم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر‏)‏ كذا للأكثر وكذا لمسلم وكذا في رواية إسرائيل لكن قدم السوداء على البيضاء‏.‏

ووقع في رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري الأبيض بدل الأحمر وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الحمار ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ أطلق الشعرة وليس المراد حقيقة الوحدة لأنه لا يكون ثور ليس في جلده غير شعرة واحدة من غير لونه والرقمة قطعة بيضاء تكون في باطن عضو الحمار والفرس وتكون في قوائم الشاة‏.‏

وقال الداودي‏:‏ الرقمة شيء مستدير لا شعر فيه سمعت به لأنه كالرقم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ فَتَرَاءَى ذُرِّيَّتُهُ فَيُقَالُ هَذَا أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ فَيَقُولُ أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا قَالَ إِنَّ أُمَّتِي فِي الْأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد وسليمان هو ابن بلال وثبت كذلك في رواية إسماعيل بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي أويس عند البيهقي في البعث وثور هو ابن زيد الديلي وأبو الغيث هو سالم والكل مدنيون ورواية إسماعيل عن أخيه من رواية الأقران وكذا سليمان عن ثور ولكن إسماعيل أصغر من أخيه وسليمان أصغر من ثور وسيأتي‏.‏

قوله ‏(‏أول من يدعى يوم القيامة آدم إلخ‏)‏ يأتي شرحه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى‏.‏