فصل: باب كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم‏)‏ ذكر فيه خمسة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شُفِّعْتُ فَقُلْتُ يَا رَبِّ أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ فَيَدْخُلُونَ ثُمَّ أَقُولُ أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ فَقَالَ أَنَسٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث أنس في الشفاعة أورده مختصرا جدا ثم مطولا وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الرقاق‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا يوسف بن راشد‏)‏ هو يوسف بن موسى بن راشد القطان الكوفي نزيل بغداد نسبة لجده وهو بالنسبة لأبيه أشهر، ولهم شيخ آخر يقال له يوسف بن موسى التستري نزيل الري أصغر من القطان، وشيخه أحمد بن عبد الله هو أحمد بن عبد الله بن يونس ينسب لجده كثيرا وأبو بكر بن عياش هو المقرئ، وقد أخرج البخاري عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن أبي بكر بن عياش حديثا غير هذا بغير واسطة بينه وبين أحمد، وتقدم في باب الغنى غنى النفس في كتاب الرقاق‏.‏

قوله ‏(‏إذا كان يوم القيامة شفعت‏)‏ كذا للأكثر بضم أوله مشددا وللكشميهني بفتحه مخففا‏.‏

قوله ‏(‏فقلت يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة‏)‏ هكذا في هذه الرواية وفي التي بعدها أن الله سبحانه هو الذي يقول ذلك وهو المعروف في سائر الأخبار، قال ابن التين هذا فيه كلام الأنبياء مع الرب ليس كلام الرب مع الأنبياء‏.‏

قوله ‏(‏ثم أقول‏)‏ ذكر ابن التين أنه وقع عنده بلفظ ‏"‏ ثم نقول ‏"‏ بالنون، قال ولا أعلم من رواه بالياء فإن كان روي بالياء طابق التبويب، أي ثم يقول الله ويكون جوابا عن اعتراض الداودي حيث قال قوله ثم أقول خلاف لسائر الروايات فإن فيها أن الله أمره أن يخرج‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر والموجود عند أكثر الرواة، ثم أقول بالهمزة كما لأبي ذر، والذي أظن أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، فقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي عاصم أحمد بن جواس بفتح الجيم والتشديد عن أبي بكر بن عياش ولفظه ‏"‏ اشفع يوم القيامة، فيقال لي لك من في قلبه شعيرة، ولك من في قلبه خردلة، ولك من في قلبه شيء ‏"‏ فهذا من كلام الرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن التوفيق بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم يسأل عن ذلك أولا فيجاب إلى ذلك ثانيا، فوقع في إحدى الروايتين ذكر السؤال وفي البقية ذكر الإجابة، وقوله في الأولى ‏"‏ من كان في قلبه أدنى شيء ‏"‏ قال الداودي هذا زائد على سائر الروايات، وتعقب بأنه مفسر في الرواية الثانية حيث جاء فيها ‏"‏ أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ‏"‏ قال الكرماني قوله ‏"‏ أدنى أدنى ‏"‏ التكرير للتأكيد ويحتمل أن يراد التوزيع على الحبة والخردل أي أقل حبة من أقل خردلة من الإيمان، ويستفاد منه صحة القول بتجزئ الإيمان وزيادته ونقصانه، وقوله ‏"‏قال أنس‏:‏ كأني أنظر إلى أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يعني قوله أدنى شيء وكأنه يضم أصابعه ويشير بها، وقوله ‏"‏فأخرجه من النار من النار من النار ‏"‏ التكرير للتأكيد أيضا للمبالغة أو للنظر إلى الأمور الثلاثة من الحبة والخردلة والإيمان أو جعل أيضا للنار مراتب‏.‏

قلت‏:‏ سقط تكرير قوله من النار عند مسلم ومن ذكرت معه في رواية حماد بن زيد هذه والله تعالى أعلم، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وقوله فيه فذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فسأله ‏"‏ بفاء وصيغة الفعل الماضي، قال ابن التين فيه تقديم الرجل الذي هو من خاصة العالم ليسأله‏.‏

وفي قوله ‏"‏ فإذا هو في قصره ‏"‏ قال ابن التين فيه اتخاذ القصر لمن كثرت ذريته، وقوله ‏"‏فوافقنا ‏"‏ كذا لهم بحذف المفعول، وللكشميهني ‏"‏ فوافقناه ‏"‏ وقوله ‏"‏ ماج الناس ‏"‏ أي اختلطوا، يقال ماج البحر أي اضطربت أمواجه، وقوله ‏"‏فإنه كليم الله ‏"‏ كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ فإنه كلم الله ‏"‏ بلفظ الفعل الماضي، وقوله ‏"‏فيقال يا محمد ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فيقول ‏"‏ في المواضع الثلاثة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ قَالَ اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى فَاسْتَأْذَنَّا فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَقُلْنَا لِثَابِتٍ لَا تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَقَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ فَقَالَ هِيهْ فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ هِيهْ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا فَقَالَ لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا قُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا فَضَحِكَ وَقَالَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ قَالَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وهو متوار في منزل أبي خليفة‏)‏ هو حجاج بن عتاب العبدي البصري والد عمر بن أبي خليفة، سماه البخاري في تاريخه وتبعه الحاكم أبو أحمد في الكنى‏.‏

قوله ‏(‏وهو جميع‏)‏ أي مجتمع العقل وهو إشارة إلى أنه كان حينئذ لم يدخل في الكبر الذي هو مظنة تفرق الذهن وحدوث اختلاط الحفظ، وقوله ‏"‏فحدثناه ‏"‏ بسكون المثلثة وحذف الضمير، وقوله ‏"‏قلنا يا أبا سعيد ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فقلنا ‏"‏ قال ابن التين قال هنا ‏"‏ لست لها ‏"‏ وفي غيره ‏"‏ لست هناكم ‏"‏ قال وأسقط هنا ذكر نوح وزاد ‏"‏ فأقول أنا لها ‏"‏ وزاد ‏"‏ فأقول أمتي أمتي ‏"‏ قال الداودي لا أراد محفوظا لأن الخلائق اجتمعوا واستشفعوا ولو كان المراد هذه الأمة خاصة لم تذهب إلى غير نبيها فدل على أن المراد الجميع وإذا كانت الشفاعة لهم في فصل القضاء فكيف يخصها بقوله أمتي أمتي، ثم قال وأول هذا الحديث ليس متصلا بآخره بل بقي بين طلبهم الشفاعة وبين قوله فاشفع أمور كثيرة من أمور القيامة‏.‏

قلت‏:‏ وقد بينت الجواب عن هذا الإشكال عند شرح الحديث بما يغني عن إعادته هنا وقد أجاب عنه القاضي عياض بأن معني الكلام فيؤذن له في الشفاعة الموعود بها في فصل القضاء، وقوله ‏"‏ويلهمني ‏"‏ ابتداء كلام آخر وبيان للشفاعة الأخرى الخاصة بأمته، وفي السياق اختصار وادعى المهلب أن قوله ‏"‏ فأقول يا رب أمتي ‏"‏ مما زاد سليمان بن حرب على سائر الرواة كذا قال، وهو اجتراء على القول بالظن الذي لا يستند إلى دليل فإن سليمان بن حرب لم ينفرد بهذه الزيادة بل رواها معه سعيد بن منصور عند مسلم وكذا أبو الربيع الزهراني عند مسلم والإسماعيلي، ولم يسق مسلم لفظه ويحيى بن حبيب بن عربي عند النسائي في التفسير ومحمد بن عبيد بن حساب ومحمد بن سليمان لوين كلاهما عند الإسماعيلي كلهم عن حماد بن زيد شيخ سليمان بن حرب فيه بهذه الزيادة، وكذا وقعت هذه الزيادة في هذا الموضع من حديث الشفاعة في رواية أبي هريرة الماضية في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ رَبِّ الْجَنَّةُ مَلْأَى فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مَلْأَى فَيَقُولُ إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن خالد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ محمد بن مخلد ‏"‏ والأول هو الصواب، ولم يذكر أحد ممن صنف في رجال البخاري ولا في رجال الكتب الستة أحدا اسمه محمد بن مخلد، والمعروف محمد ابن خالد، وقد اختلف فيه فقيل هو ‏"‏ الذهلي ‏"‏ وهو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس نسب لجد أبيه، وبذلك جزم الحاكم والكلاباذي وأبو مسعود، وقيل محمد بن خالد بن جبلة الرافعي، وبذلك جزم أبو أحمد ابن عدي وخلف الواسطي في الأطراف، وقد روى هنا عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بالواسطة، وروى عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بلا واسطة عدة أحاديث، منها في المغازي والتفسير والفرائض، و ‏"‏ منصور ‏"‏ في السند هو ابن المعتمر، و ‏"‏ إبراهيم ‏"‏ هو النخعي، و ‏"‏ عبيدة ‏"‏ بفتح أوله هو ابن عمرو السلماني، و ‏"‏ عبد الله ‏"‏ هو ابن مسعود، ورجال سند هذا إلى عبيد الله بن موسى كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة‏)‏ الحديث ذكره مختصرا جدا وقد مضى بتمامه مشروحا في الرقاق، وقوله ‏"‏كل ذلك يعيد عليه الجنة ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فكل ذلك ‏"‏ وقوله ‏"‏ في آخره عشر مرار ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ عشر مرات‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ الْأَعْمَشُ وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

الشرح‏:‏

حديث عدي بن حاتم‏:‏ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وقوله ‏"‏ قال الأعمش وحدثني عمرو بن مرة ‏"‏ هو موصول بالسند الذي قبله إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى قَوْلِهِ يُشْرِكُونَ

الشرح‏:‏

حديث ‏"‏ عبد الله ‏"‏ وهو ابن مسعود قال‏:‏ جاء حبر من اليهود فذكر الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب قول الله تعالى ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ وتقدم كلام الخطابي في إنكاره تارة وفي تأويله أخرى‏.‏

وقال أيضا‏:‏ الاستدلال بالتبسم والضحك في مثل هذا الأمر العظيم غير سائغ مع تكافئ وجهي الدلالة المتعارضين فيه، ولو صح الخبر لكان ظاهر اللفظ منه متأولا على نوع من المجاز وضرب من التمثيل مما جرت عادة الكلام بين الناس في عرف تخاطبهم فيكون المعنى أن قدرته على طيها وسهولة الأمر في جمعها بمنزلة من جمع شيئا في كفه فاستخف حمله فلم يشتمل عليه بجميع كفه لكنه أقله ببعض أصابعه، وقد يقول الإنسان في الأمر الشاق إذا أضيف إلى القوى أنه يأتي عليه بإصبع أو أنه يقله بخنصره، ثم قال‏:‏ والظاهر أن هذا من تخليط اليهود وتحريفهم، إن ضحكه عليه الصلاة والسلام إنما كان على معنى التعجب والنكير له والعلم عند الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ وَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ وَقَالَ آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يدنو أحدكم من ربه‏)‏ قال ابن التين يعني يقرب من رحمته، وهو سائغ في اللغة يقال فلان قريب من فلان ويراد الرقبة، ومثله ‏(‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏)‏ وقوله ‏"‏ فيضع كنفه ‏"‏ بفتح الكاف والنون بعدها فاء المراد بالكنف الستر، وقد جاء مفسرا بذلك في رواية عبد الله بن المبارك عن محمد بن سواء عن قتادة فقال في آخر الحديث‏:‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏ كنفه ستره أخرجه المصنف في كتاب خلق أفعال العباد، والمعنى أنه تحيط به عنايته التامة ومن رواه بالمثناة المكسورة فقد صحف على ما جزم به جمع من العلماء‏.‏

قوله ‏(‏وقال آدم حدثنا شيبان‏)‏ هو ابن عبد الرحمن إلى آخره ذكر هذه الرواية لتصريح قتادة فيها بقوله‏:‏ حدثنا صفوان وهكذا ذكره عن آدم في كتاب خلق أفعال العباد‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ أحدهما ليس في أحاديث الباب كلام الرب مع الأنبياء إلا في حديث أنس وسائر أحاديث الباب في كلام الرب مع غير الأنبياء، وإذا ثبت كلامه مع غير الأنبياء فوقوعه للأنبياء بطريق الأولى‏.‏

الثاني‏:‏ تقدم في الحديث الأول ما يتعلق بالترجمة، وأما الثاني فيختص بالركن الثاني من الترجمة وهو قوله وغيرهم، وأما سائرها فهو شامل للأنبياء ولغير الأنبياء على وفق الترجمة‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما جاء في قوله عز وجل‏:‏ وكلم الله موسى تكليما‏)‏ كذا لأبي زيد المروزي ومثله لأبي ذر لكن بحذف لفظ ‏"‏ قوله عز وجل ‏"‏ ولغيرهما ‏"‏ باب قوله تعالى‏:‏ وكلم الله موسى تكليما ‏"‏ قال الأئمة‏:‏ هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة، قال النحاس أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازا فإذا قال ‏"‏ تكليما ‏"‏ وجب أن يكون كلاما على الحقيقة التي تعقل، وأجاب بعضهم بأنه كلام على الحقيقة لكن محل الخلاف هل سمعه موسى من الله تعالى حقيقة أو من الشجرة‏؟‏ فالتأكيد رفع المجاز عن كونه غير كلام أما المتكلم به فمسكوت عنه، ورد بأنه لا بد من مراعاة المحدث عنه فهو لرفع المجاز عن النسبة لأنه قد نسب الكلام فيها إلى الله فهو المتكلم حقيقة، ويؤكده قوله في سورة الأعراف ‏(‏إني اصطفيتك عن الناس برسالاتي وبكلامي‏)‏ وأجمع السلف والخلف من أهل السنة وغيرهم على أن ‏"‏ كلم ‏"‏ هنا من الكلام، ونقل الكشاف عن بدع بعض التفاسير أنه من الكلم بمعنى الجرح وهو مردود بالإجماع المذكور، قال ابن التين اختلف المتكلمون في سماع كلام الله فقال الأشعري‏:‏ كلام الله القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ‏.‏

وقال الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء، وتقدم في باب ‏(‏يريدون أن يبدلوا كلام الله‏)‏ شيء من هذا وأورد البخاري في كتاب خلق أفعال العباد أن خالد بن عبد الله القسري قال‏:‏ إني مضحي بالجعد بن درهم فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، وتقدم في أول التوحيد أن سلم بن أحوز قتل جهم بن صفوان لأنه أنكر أن الله كلم موسى تكليما، ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَكَلَامِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏:‏ احتج آدم وموسى، وقد مضى شرحه في كتاب القدر، والمراد منه قوله ‏"‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه ‏"‏ وللكشميهني ‏"‏ وبكلامه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ الْمَلَائِكَةَ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ

الشرح‏:‏

حديث أنس في الشفاعة أورد منه طرفا من أوله إلى قوله في ذكر آدم ‏"‏ ويذكر لهم خطيئته التي أصاب ‏"‏ وقد مضى شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ قال الإسماعيلي أراد ذكر موسى قالوا له وكلمك الله فلم يذكره‏.‏

قلت‏:‏ جرى على عادته في الإشارة، وقد مضى في تفسير البقرة عن مسلم بن إبراهيم شيخه هنا وساقه فيه بطوله، وفيه ‏"‏ ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة ‏"‏ الحديث، ومضى أيضا في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ هذا في باب قول الله تعالى ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ عن معاذ بن فضالة عن هشام بهذا السند وساق الحديث بطوله أيضا، وفيه ‏"‏ ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما ‏"‏ وكذا وقع في حديث أبي بكر الصديق في الشفاعة الذي أخرجه أحمد وغيره وصححه أبو عوانة وغيره ‏"‏ فيأتون إبراهيم فيقول انطلقوا إلى موسى فإن الله كلمه تكليما ‏"‏ وذكر البخاري في كتاب خلق أفعال العباد منه هذا القدر تعليقا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ فَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا فَقَالَ جِبْرِيلُ قَالُوا وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مَعِيَ مُحَمَّدٌ قَالَ وَقَدْ بُعِثَ قَالَ نَعَمْ قَالُوا فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ وَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ قَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الْأُولَى مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قَالُوا وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالُوا مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظْ اسْمَهُ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ فَقَالَ مُوسَى رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ

ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا فَقَالَ الْجَبَّارُ يَا مُحَمَّدُ قَالَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَالَ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ كَيْفَ فَعَلْتَ فَقَالَ خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا قَالَ مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ قَالَ وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في المعراج أورده من رواية شريك بن عبد الله أي ابن أبي نمر بفتح النون وكسر الميم وهو مدني تابعي يكني أبا عبد الله وهو أكبر من شريك بن عبد الله النخعي القاضي، وقد أورد بعض هذا الحديث في الترجمة النبوية، وأورد حديث الإسراء من رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر في أوائل ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ وأورده من رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة في بدء الخلق وفي أوائل البعثة قبل الهجرة وشرحته هناك، وأخرت ما يتعلق برواية شريك هذه هنا لما اختصت به من المخالفات‏.‏

قوله ‏(‏ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ إذ جاء ‏"‏ بدل أنه جاءه، والأول أولى، والنفر الثلاثة لم أقف على تسميتهم صريحا لكنهم من الملائكة، وأخلق بهم أن يكونوا من ذكر في حديث جابر الماضي في أوائل الاعتصام بلفظ ‏"‏ جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم‏:‏ إنه نائم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن العين نائمة والقلب يقظان ‏"‏ وبينت هناك أن منهم جبريل وميكائيل ثم وجدت التصريح بتسميتهما في رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبراني ولفظه ‏"‏ فأتاه جبريل وميكائيل فقالا أيهم - وكانت قريش تنام حول الكعبة - فقالا أمرنا بسيدهم ثم ذهبا ثم جاءا وهم ثلاثة فألقوه فقلبوه لظهره ‏"‏ وقوله ‏"‏ وقبل ‏"‏ قبل أن يوحى إليه، أنكرها الخطابي وابن حزم وعبد الحق والقاضي عياض والنووي وعبارة النووي‏:‏ وقع في رواية شريك - يعني هذه - أوهام أنكرها العلماء أحدها‏:‏ قوله ‏"‏ قبل أن يوحى إليه ‏"‏ وهو غلط لم يوافق عليه، وأجمع العلماء أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي انتهى، وصرح المذكورون بأن شريكا تفرد بذلك، وفي دعوى التفرد نظر فقد وافقه كثير بن خنيس بمعجمة ونون مصغر عن أنس كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في ‏"‏ كتاب المغازي ‏"‏ من طريقه‏.‏

قوله ‏(‏وهو نائم في المسجد الحرام‏)‏ قد آكد هذا بقوله في آخر الحديث ‏"‏ فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ‏"‏ ونحوه ما وقع في حديث مالك بن صعصعة ‏"‏ بين النائم واليقظان ‏"‏ وقد قدمت وجه الجمع بين مختلف الروايات في شرح الحديث‏.‏

قوله ‏(‏فقال أولهم أيهم هو‏)‏ فيه إشعار بأنه كان نائما بين جماعة أقلهم اثنان وقد جاء أنه كان نائما معه حينئذ حمزة بن عبد المطلب عمه وجعفر بن أبي طالب ابن عمه‏.‏

قوله ‏(‏فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة‏)‏ الضمير المستتر في كانت لمحذوف وكذا خبر كان والتقدير‏:‏ فكانت القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا‏.‏

قوله ‏(‏فلم يرهم‏)‏ أي بعد ذلك ‏(‏حتى أتوه ليلة أخرى‏)‏ ولم يعين المدة التي بين المجيئين فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحى إليه وحينئذ وقع الإسراء والمعراج وقد سبق بيان الاختلاف في ذلك عند شرحه، وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق في ذلك بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالي كثيرة أو عدة سنين وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة ويسقط تشنيع الخطابي وابن حزم وغيرهما بأن شريكا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة وبالله التوفيق‏.‏

وأما ما ذكره بعض الشراح أنه كان بين الليلتين اللتين أتاه فيهما الملائكة سبع وقيل ثمان وقيل تسع وقيل عشر وقيل ثلاثة عشر فيحمل على إرادة السنين لا كما فهمه الشارح المذكور أنها ليال، وبذلك جزم ابن القيم في هذا الحديث نفسه وأقوى ما يستدل به أن المعراج بعد البعثة قوله في هذا الحديث نفسه أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له أبعث‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة فيتعين ما ذكرته من التأويل وأقله قوله فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام، فإن حمل على ظاهره جاز أن يكون نام بعد أن هبط من السماء فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام، وجاز أن يؤول قوله استيقظ أي أفاق مما كان فيه فإنه كان إذا أوحى إليه يستغرق فإذا انتهى رجع إلى حالته الأولى، فكنى عنه بالاستيقاظ‏.‏

قوله ‏(‏فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء‏)‏ تقدم الكلام عليه في الترجمة النبوية‏.‏

قوله ‏(‏فلم يكلموه حتى احتملوه‏)‏ تقدم وجه الجمع بين هذا وبين قوله في حديث أبي ذر ‏"‏ فرج سقف بيتي ‏"‏ وقوله في حديث مالك بن صعصعة بأنه كان في الحطيم عند شرحه بناء على اتحاد قصة الإسراء، أما إن قلنا إن الإسراء كان متعددا فلا إشكال أصلا‏.‏

قوله ‏(‏فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته‏)‏ بفتح اللام وتشديد الموحدة وهي موضع القلادة من الصدر، ومن هناك تنحر الإبل، وقد تقدم عند شرحه الرد على من أنكر شق الصدر عند الإسراء وزعم أن ذلك إنما وقع وهو صغير، وبينت أنه ثبت كذلك في غير رواية شريك في الصحيحين من حديث أبي ذر، وأن شق الصدر وقع أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة، وذكر أبو بشر الدولابي بسنده أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بطنه أخرج ثم أعيد فذكر ذلك لخديجة الحديث‏.‏

وتقدم بيان الحكمة في تعدد ذلك ووقع شق الصدر الكريم أيضا في حديث أبي هريرة حين كان ابن عشر سنين وهو عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وتقدم الإلمام بشيء من ذلك في الترجمة النبوية، ووقع في الشفاء أن جبريل قال لما غسل قلبه‏:‏ قلب سديد فيه عينان تبصران وأذنان تسمعان‏.‏

قوله ‏(‏ثم أتى بطست محشوا‏)‏ كذا وقع بالنصب وأعرب بأنه حال من الضمير الجار والمجرور، والتقدير بطست كائن من ذهب فنقل الضمير من اسم الفاعل إلى الجار والمجرور، وتقدم في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ بلفظ ‏"‏ محشو ‏"‏ بالجر على الصفة لا إشكال فيه، وأما قوله ‏"‏ إيمانا ‏"‏ فمنصوب على التمييز، وقوله ‏"‏وحكمة ‏"‏ معطوف عليه‏.‏

قوله ‏(‏بطست من ذهب فيه تور من ذهب‏)‏ التور بمثناة تقدم بيانه في ‏"‏ كتاب الوضوء ‏"‏ وهذا يقتضي أنه غير الطست، وأنه كان داخل الطست، فقد تقدم في أوائل الصلاة في شرح حديث أبي ذر في الإسراء أنهما غسلوه بماء زمزم، فإن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون أحدهما فيه ماء زمزم والآخر هو المحشو بالإيمان، واحتمل أن يكون التور ظرف الماء وغيره، والطست لما يصب فيه عند الغسل صيانة له عن التبدد في الأرض وجريا على العادة في الطست وما يوضع فيه الماء‏.‏

قوله ‏(‏فحشى به صدره‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فحشا ‏"‏ بفتح الحاء والشين‏.‏

‏"‏ وصدره ‏"‏ بالنصب ولغيره بضم الحاء وكسر الشين وصدره بالرفع‏.‏

قوله ‏(‏ولغاديده‏)‏ بغين معجمة فسره في هذه الرواية بأنها عروق حلقه‏.‏

وقال أهل اللغة هي اللحمات التي بين الحنك وصفحة العنق، وأحدها لغدود ولغديد، ويقال له أيضا لغد وجمعه ألغاد‏.‏

قوله ‏(‏ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا‏)‏ إن كانت القصة متعددة فلا إشكال وإن كانت متحدة ففي هذا السياق حذف تقديره ثم أركبه البراق إلى بيت المقدس، ثم أتى بالمعراج كما في حديث مالك بن صعصعة ‏"‏ فغسل به قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا ‏"‏ وفي سياقه أيضا حذف تقديره ‏"‏ حتى أتى بي بيت المقدس ثم أتى بالمعراج ‏"‏ كما في رواية ثابت عن أنس رفعه‏:‏ ‏"‏ أتيت بالبراق فركبته حتى أتى بي بيت المقدس فربطته، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم عرج بي إلى السماء‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فاستبشر به أهل السماء‏)‏ كأنهم كانوا أعلموا أنه سيعرج به فكانوا مترقبين لذلك‏.‏

قوله ‏(‏لا يعلم أهل السماء بما يريد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ما يريد ‏"‏ ‏(‏الله به في الأرض حتى يعلمهم‏)‏ أي على لسان من شاء كجبريل‏.‏

قوله ‏(‏فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان‏)‏ أي يجريان، وظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى ‏"‏ فإذا في أصلها أربعة أنهار ‏"‏ ويجمع بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما في السماء الدنيا ومنها ينزلان إلى الأرض، ووقع هنا ‏"‏ النيل والفرات عنصرها ‏"‏ والعنصر بضم العين والصاد المهملتين بينهما نون ساكنة هو الأصل‏.‏

قوله ‏(‏ثم مضى به في السماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده‏)‏ أي في النهر ‏(‏فإذا هو‏)‏ أي طينه ‏(‏مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هذا الكوثر الذي خبأ‏)‏ بفتح المعجمة والموحدة مهموز أي أدخر ‏(‏لك ربك‏)‏ وهذا مما يستشكل من رواية شريك فإن الكوثر في الجنة والجنة في السماء السابعة، وقد أخرج أحمد من حديث حميد الطويل عن أنس رفعه ‏"‏ دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي في مجرى مائة فإذا مسك أذفر فقال جبريل هذا الكوثر الذي أعطاك الله تعالى ‏"‏ وأصل هذا الحديث عند البخاري بنحوه، وقد مضى في التفسير من طريق قتادة عن أنس لكن ليس فيه ذكر الجنة، وأخرجه أبو داود والطبري من طريق سليمان التيمي عن قتادة ولفظه ‏"‏ لما عرج بنبي الله صلى الله عليه وسلم عرض له في الجنة نهر ‏"‏ الحديث، ويمكن أن يكون في هذا الموضع شيء محذوف تقديره‏:‏ ثم مضى به في السماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر‏.‏

قوله ‏(‏كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة‏)‏ كذا في رواية شريك، وفي حديث الزهري عن أنس عن أبي ذر قال أنس فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة انتهى‏.‏

وهذا موافق لرواية شريك في إبراهيم وهما مخالفان لرواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد قدمت في شرحه أن الأكثر وافقوا قتادة وسياقه يدل على رجحان روايته فإنه ضبط اسم كل نبي والسماء التي هو فيها ووافقه ثابت عن أنس وجماعة ذكرتهم هناك فهو المعتمد لكن إن قلنا إن القصة تعددت فلا ترجيح ولا إشكال‏.‏

قوله ‏(‏وموسى في السابعة بفضل كلامه لله‏)‏ في رواية أبي ذر عن الكشميهني ‏"‏ بتفضيل كلام الله ‏"‏ وهي رواية الأكثر، وهي مراد الترجمة والمطابق لقوله تعالى ‏(‏إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي‏)‏ وهذا التعليق يدل على أن شريكا ضبط كون موسى في السماء السابعة، وقد قدمنا أن حديث أبي ذر يوافقه، لكن المشهور في الروايات أن الذي في السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك في حديث مالك بن صعصعة بأنه كان مسندا ظهره إلى البيت المعمور فمع التعدد لا إشكال ومع الاتحاد فقد جمع بأن موسى كان في حالة العروج في السادسة وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة وعند الهبوط كان موسى في السابعة لأنه لم يذكر في القصة أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض الله على أمته من الصلاة كما كلمه موسى، والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط فناسب أن يكون موسى بها لأنه هو الذي خاطبه في ذلك كما ثبت في جميع الروايات، ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع المصطفى فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة، وقد أشار النووي إلى شيء من ذلك والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏فقال موسى رب لم أظن أن ترفع على أحدا‏)‏ كذا للأكثر بفتح المثناة في ترفع واحدا بالنصب‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ أن يرفع ‏"‏ بضم التحتانية أوله واحد بالرفع، قال ابن بطال فهم موسى من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر لقوله ‏(‏إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي‏)‏ أن المراد بالناس هنا البشر كلهم وأنه استحق بذلك أن لا يرفع أحد عليه، فلما فضل الله محمدا عليه عليهما الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره ارتفع على موسى وغيره بذلك ثم ذكر الاختلاف في أن الله سبحانه وتعالى في ليلة الإسراء كلم محمدا صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أو بواسطة، والخلاف في وقوع الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم بعين رأسه أو بعين قلبه في اليقظة أو في المنام، وقد مضى بيان الاختلاف في ذلك في تفسير سورة النجم بما يغني عن إعادته‏.‏

قوله ‏(‏ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى‏)‏ كذا وقع في رواية شريك وهو مما خالف فيه غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة، وقد قدمت وجه الجمع بينهما عند شرحه، ولعل في السياق تقديما وتأخيرا، وكان ذكر سدرة المنتهى قبل ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، وقد وقع في حديث أبي ذر ‏"‏ ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ‏"‏ وقد تقدم تفسير المستوى والصريف عند شرحه في أول ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ ووقع في رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبري بعد ذكر إبراهيم في السابعة ‏"‏ فإذا هو بنهر ‏"‏ فذكر أمر الكوثر قال ‏"‏ ثم خرج إلى سدرة المنتهى ‏"‏ وهذا موافق للجمهور، ويحتمل أن يكون المراد بما تضمنته هذه الرواية من العلو البالغ لسدرة المنتهى صفة أعلاها وما تقدم صفة أصلها‏.‏

قوله ‏(‏ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى‏)‏ في رواية ميمون المذكورة ‏"‏ فدنا ربك عز وجل فكان قاب قوسين أو أدنى ‏"‏ قال الخطابي ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري - حديث أشنع ظاهرا ولا أشنع مذاقا من هذا الفصل فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل، قال‏:‏ فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعا عن غيره ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه وكان قصاراه ما رد الحديث من أصله، وأما الوقوع في التشبيه وما خطتان مرغوب عنهما، وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الإشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله ‏"‏ وهو نائم ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ استيقظ ‏"‏ وبعض الرؤيا مثل يضرب ليتأول على الوجه الذي يجب أن يصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك بل يأتي كالمشاهدة‏.‏

قلت‏:‏ وهو كما قال، ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح إن رؤيا الأنبياء وحي فلا يحتاج إلى تعبير لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد تقدم في ‏"‏ كتاب التعبير ‏"‏ أن بعض مرأى الأنبياء يقبل التعبير، وتقدم من أمثلة ذلك قول الصحابة له صلى الله عليه وسلم في رؤية القميص فما أولته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الدين، وفي رؤية اللبن‏؟‏ قال‏:‏ العلم، إلى غير ذلك لكن جزم الخطابي بأنه كان في المنام متعقب بما تقدم تقريره قبل، ثم قال الخطابي مشيرا إلى رفع الحديث من أصله بأن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي إما من أنس وإما من شريك فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة انتهى، وما نفاه من أن أنسا لم يسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابي فإما أن يكون تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلا وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود، ثم قال الخطابي إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبه التدلي للجبار عز وجل مخالف لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير من تقدم منهم ومن تأخر، قال والذي قيل فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى أي تقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير‏:‏ أي تدلى فلانا، لأن التدلي بسبب الدنو، الثاني تدلي له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع حتى رآه متدليا كما رآه مرتفعا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شيء ولا تمسك بشيء، الثالث‏:‏ دنا جبريل فتدلى محمد صلى الله عليه وسلم ساجدا لربه تعالى شكرا على ما أعطاه، قال وقد روى هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوى الظن أنها صادرة من جهة شريك انتهى‏.‏

وقد أخرج الأموي في مغازيه ومن طريقه البيهقي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏ولقد رآه نزلة أخرى‏)‏ قال دنا منه ربه، وهذا سند حسن وهو شاهد قوى لرواية شريك، ثم قال الحطابي‏:‏ وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك أيضا لم يذكرها غيره وهي قوله‏:‏ ‏"‏ فعلا به - يعني جبريل - إلى الجبار تعالى فقال وهو مكانه‏:‏ يا رب خفف عنا ‏"‏ قال والمكان لا يضاف إلى الله تعالى إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه انتهى، وهذا الأخير متعين وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى، وأما ما جزم به من مخالفة السلف والخلف لرواية شريك عن أنس في التدلي ففيه نظر، فقد ذكرت من وافقه، وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال ‏"‏ دنا الله سبحانه وتعالى ‏"‏ قال والمعنى دنا أمره وحكمه، وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، قال‏:‏ وقيل تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه، ثم دنا محمد من ربه انتهى، وقد تقدم في تفسير سورة النجم ما ورد من الأحاديث في أن المراد بقوله ‏"‏ رآه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح، ومضى بسط القول في ذلك هناك، ونقل البيهقي نحو ذلك عن أبي هريرة قال‏:‏ فاتفقت روايات هؤلاء على ذلك، ويعكر عليه قوله بعد ذلك ‏"‏ فأوحى إلى عبده ما أوحى ‏"‏ ثم نقل عن الحسن أن الضمير في عبده لجبريل، والتقدير‏:‏ فأوحى الله إلى جبريل، وعن الفراء التقدير‏:‏ فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، وقد أزال العلماء إشكاله فقال القاضي عياض في الشفاء إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان وإنما هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل تأنيس لنبيه وإكرام له، ويتأول فيه ما قالوه في حديث‏:‏ ينزل ربنا إلى السماء، وكذا في حديث‏:‏ من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا‏.‏

وقال غيره‏:‏ الدنو مجاز عن القرب المعنوي لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى، والتدلي طلب زيادة القرب، وقاب قوسين بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته‏.‏

وقال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين زاد فيه - يعني شريكا - زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ وسبق إلى ذلك أبو محمد بن حزم فيما حكاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في جزء جمعه سماه ‏"‏ الانتصار لأيامى الأمصار ‏"‏ فنقل فيه عن الحميدي عن ابن حزم قال‏:‏ لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين ثم غلبه في تخريجه الوهم مع إتقانهما وصحة معرفتهما فذكر هذا الحديث‏.‏

وقال فيه ألفاظ معجمة والآفة من شريك من ذلك قوله قبل أن يوحى إليه وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة قال وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة وبعد أن أوحى إليه بنحو اثنتي عشرة سنة، ثم قوله ‏"‏ إن الجبار دنا فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ‏"‏ وعائشة رضي الله عنها تقول‏:‏ إن الذي دنى فتدلى جبريل انتهى، وقد تقدم الجواب عن ذلك وقال أبو الفضل بن طاهر‏:‏ تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه فإن شريكا قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه ورووا عنه وأدخلوا حديثه في تصانيفهم واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي وعثمان الدارمي وعباس الدوري عن يحيى بن معين لا بأس به‏.‏

وقال ابن عدى مشهور من أهل المدينة حدث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به إلا أن يروى عنه ضعيف، قال ابن طاهر وحديثه هذا رواه عنه ثقة وهو سليمان بن بلال، قال وعلى تقدير تسليم تفرده قبل أن يوحى إليه لا يقتضي طرح حديثه فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور ولو ترك حديث من وهم في تاريخ لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين، ولعله أراد أن يقول بعد أن أوحي إليه فقال قبل أن يوحى إليه انتهى، وقد سبق إلى التنبيه على ما في رواية شريك من المخالفة مسلم في صحيحه فإنه قال بعد أن ساق سنده وبعض المتن، ثم قال‏:‏ فقدم وأخر وزاد ونقص وسبق ابن حزم أيضا إلى الكلام في شريك أبو سليمان الخطابي كما قدمته‏.‏

وقال فيه النسائي وأبو محمد بن الجارود‏.‏

ليس بالقوي، وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه، نعم قال محمد بن سعد وأبو داود‏:‏ ثقة فهو مختلف فيه فإذا تفرد عد ما ينفرد به شاذا وكذا منكرا على رأي من يقول المنكر والشاذ شيء واحد، والأولى التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها إما بدفع تفرده وإما بتأويله على وفاق الجماعة، ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء بل تزيد على ذلك، الأول‏:‏ أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السموات وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم وقد وافقه الزهري في بعض ما ذكر كما سبق في أول ‏"‏ كتاب الصلاة‏"‏، والثاني‏:‏ كون المعراج قبل البعثة وقد سبق الجواب عن ذلك، وأجاب بعضهم عن قوله‏:‏ قبل أن يوحي، بأن القبلية هنا في أمر مخصوص وليست مطلقة واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحي إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلا أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به، ويؤيده قوله في حديث الزهري‏:‏ فرج سقف بيتي، الثالث‏:‏ كونه مناما وقد سبق الجواب عنه أيضا بما فيه غنية، الرابع‏:‏ مخالفته في محل سدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم، الخامس‏:‏ مخالفته في النهرين وهما النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما من تحت سدرة المنتهى، السادس‏:‏ شق الصدر عند الإسراء وقد وافقته رواية غيره كما بينت ذلك في شرح رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد أشرت إليه أيضا هنا، السابع‏:‏ ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة كما تقدم التنبيه عليه، الثامن‏:‏ نسبة الدنو والتدلي إلى الله عز وجل والمشهور في الحديث أنه جبريل كما تقدم التنبيه عليه، التاسع‏:‏ تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة، العاشر‏:‏ قوله ‏"‏ فعلا به الجبار فقال وهو مكانه ‏"‏ وقد تقدم ما فيه، الحادي عشر‏:‏ رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس فامتنع كما سأبينه، الثاني عشر‏:‏ زيادة ذكر التور في الطست، وقد تقدم ما فيه فهذه أكثر من عشرة مواضع في هذا الحديث لم أرها مجموعة في كلام أحد ممن تقدم، وقد بينت في كل واحد إشكال من استشكله والجواب عنه إن أمكن وبالله التوفيق، وقد جزم ابن القيم في الهدى بأن في رواية شريك عشرة أوهام لكن عد مخالفته لمحال الأنبياء أربعة منها وأنا جعلتها واحدة فعلى طريقته تزيد العدة ثلاثة وبالله التوفيق‏.‏

قوله ‏(‏ماذا عهد إليك ربك‏)‏ أي أمرك أو أوصاك ‏(‏قال عهد إلى خمسين صلاة‏)‏ فيه حذف تقديره عهد إلى أن أصلي وآمر أمتي أن يصلوا خمسين صلاة، وقد تقدم بيان اختلاف الألفاظ في هذا الموضع في أول ‏"‏ كتاب الصلاة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أي نعم‏)‏ في رواية ‏"‏ أن نعم ‏"‏ وأن بالفتح والتخفيف مفسرة فهي في المعنى هنا مثل أي وهي بالتخفيف‏.‏

قوله ‏(‏إن شئت‏)‏ يقوى ما ذكرته في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن الأمر بالخمسين لم يكن على سبيل الحتم‏.‏

قوله ‏(‏فعلا به إلى الجبار‏)‏ تقدم ما فيه عند شرح قوله فتدلى، وقوله ‏"‏فقال وهو مكانه ‏"‏ تقدم أيضا بحث الخطابي فيه وجوابه‏.‏

قوله ‏(‏والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذه‏)‏ أي الخمس‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ من هذا ‏"‏ أي القدر ‏(‏فضعفوا فتركوه‏)‏ أما قوله ‏"‏ راودت ‏"‏ فهو من الرود من راد يرود إذا طلب المرعى وهو الرائد، ثم اشتهر فيما يريد الرجال من النساء، واستعمل في كل مطلوب وأما قوله ‏"‏ أدنى ‏"‏ فالمراد به أقل، وقد وقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس في تفسير ابن مردويه تعيين ذلك ولفظه‏:‏ فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما‏.‏

قوله ‏(‏فأمتك‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وأمتك‏"‏، ‏(‏أضعف أجسادا‏)‏ أي من بني إسرائيل‏.‏

قوله ‏(‏أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا‏)‏ الأجسام والأجساد سواء، والجسم والجسد جميع الشخص والأجسام أعم من الأبدان لأن البدن من الجسد ما سوى الرأس والأطراف، وقيل البدن أعالي الجسد دون أسافله‏.‏

قوله ‏(‏كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يتلفت ‏"‏ بتقديم المثناة وتشديد الفاء‏.‏

قوله ‏(‏فرفعه‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ يرفعه ‏"‏ والأول أولى‏.‏

قوله ‏(‏عند الخامسة‏)‏ هذا التنصيص على الخامسة على أنها الأخيرة يخالف رواية ثابت عن أنس أنه وضع عنه كل مرة خمسا وأن المراجعة كانت تسع مرات، وقد تقدم بيان الحكمة في ذلك ورجوع النبي صلى الله عليه وسلم بعد تقرير الخمس لطلب التخفيف مما وقع من تفردات شريك في هذه القصة، والمحفوظ ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال لموسى في الأخيرة استحييت من ربي، وهذا أصرح بأنه راجع في الأخيرة ‏"‏ وأن الجبار سبحانه وتعالى قال له‏:‏ يا محمد، قال‏:‏ لبيك وسعديك، قال‏:‏ إنه لا يبدل القول لدي ‏"‏ وقد أنكر ذلك الداودي فيما نقله ابن التين فقال‏:‏ الرجوع الأخير ليس بثابت والذي في الروايات أنه قال ‏"‏ استحييت من ربي فنودي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ‏"‏ وقوله هنا ‏"‏ فقال موسى ارجع إلى ربك ‏"‏ قال الداودي كذا وقع في هذه الرواية أن موسى قال له‏:‏ ارجع إلى ربك بعد أن قال‏:‏ لا يبدل القول لدي ولا يثبت لتواطئ الروايات على خلافه، وما كان موسى ليأمره بالرجوع بعد أن يقول الله تعالى له ذلك انتهى، وأغفل الكرماني رواية ثابت فقال إذا خففت في كل مرة عشرة كانت الأخيرة سادسة فيمكن أن يقال ليس فيه حصر لجواز أن يخفف بمرة واحدة خمس عشرة أو أقل أو أكثر‏.‏

قوله ‏(‏لا يبدل القول لدي‏)‏ تمسك من أنكر النسخ ورد بأن النسخ بيان انتهاء الحكم فلا يلزم منه تبديل القول‏.‏

قوله في الأخيرة ‏(‏قد والله راودت إلخ‏)‏ راودت يتعلق بقد والقسم مقحم بينهما لإرادة التأكيد فقد تقدم بلفظ ‏"‏ والله لقد راودت بني إسرائيل‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال فاهبط باسم الله‏)‏ ظاهر السياق أن موسى هو الذي قال له ذلك لأنه ذكره عقب قوله صلى الله عليه وسلم قد والله استحييت من ربي مما اختلف إليه، قال‏:‏ فاهبط وليس كذلك، بل الذي قال له فاهبط باسم الله هو جبريل، وبذلك جزم الداودي‏.‏

قوله ‏(‏فاستيقظ وهو في المسجد الحرام‏)‏ قال القرطبي يحتمل أن يكون استيقاظا من نومة نامها بعد الإسراء لأن إسراءه لم يكن طول ليلته وإنما كان في بعضها، ويحتمل أن يكون المعنى أفقت مما كنت فيه مما خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى، لقوله تعالى ‏(‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏)‏ فلم يرجع إلى حال بشريته صلى الله عليه وسلم إلا وهو بالمسجد الحرام، وأما قوله في أوله ‏"‏ بينا أنا نائم ‏"‏ فمراده في أول القصة وذلك أنه كان قد ابتدأ نومه فأتاه الملك فأيقظه‏.‏

وفي قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ بينا أنا بين النائم واليقظان أتاني الملك ‏"‏ إشارة إلى أنه لم يكن استحكم في نومه انتهى، وهذا كله ينبني على توحد القصة، وإلا فمتى حملت على التعدد بأن كان المعراج مرة في المنام وأخرى في اليقظة فلا يحتاج لذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قيل اختص موسى عليه السلام بهذا دون غيره ممن لقيه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنه أول من تلقاه عند الهبوط، ولأن أمته أكثر من أمة غيره، ولأن كتابه أكبر الكتب المنزلة قبل القرآن تشريعا وأحكاما، أو لأن أمة موسى كانوا كلفوا من الصلاة ما ثقل عليهم فخاف موسى على أمة محمد مثل ذلك، وإليه الإشارة بقوله ‏"‏ فإني بلوت بني إسرائيل ‏"‏ قال القرطبي وأما قول من قال إنه أول من لاقاه بعد الهبوط فليس بصحيح، لأن حديث مالك بن صعصعة أقوى من هذا، وفيه أنه لقيه في السماء السادسة انتهى، وإذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في الصعود في السادسة وصعد موسى إلى السابعة فلقيه فيها بعد الهبوط ارتفع الإشكال وبطل الرد المذكور والله أعلم‏.‏

*3*باب كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كلام الرب مع أهل الجنة‏)‏ أي بعد دخولهم الجنة ذكر فيه حديثين ظاهرين فيما ترجم له‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد ‏"‏ أن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ‏"‏ الحديث، وفيه فيقول‏:‏ أحل عليكم رضواني، وقد تقدم شرحه في أواخر ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ في باب صفة الجنة والنار، قال ابن بطال‏:‏ استشكل بعضهم هذا لأنه يوهم أن له أن يسخط على أهل الجنة وهو خلاف ظواهر القرآن، كقوله ‏(‏خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏)‏ وأجاب بأن إخراج العباد من العدم إلى الوجود من تفضله وإحسانه، وكذلك تنجيز ما وعدهم به من الجنة والنعيم من تفضله وإحسانه، وأما دوام ذلك فزيادة من فضله على المجازاة لو كانت لازمة، ومعاذ الله أن يجب عليه شيء فلما كانت المجازاة لا تزيد في العادة على المدة ومدة الدنيا متناهية جاز أن تتناهى مدة المجازاة فتفضل عليهم بالدوام فارتفع الإشكال جملة انتهى ملخصا‏.‏

وقال غيره ظاهر الحديث أن الرضا أفضل من اللقاء وهو مشكل وأجيب بأنه ليس في الخبر أن الرضا أفضل من كل شيء وإنما فيه أن الرضا أفضل من العطاء، وعلى تقدير التسليم فاللقاء مستلزم للرضا فهو من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، كذا نقل الكرماني، ويحتمل أن يقال المراد حصول أنواع الرضوان ومن جملتها اللقاء فلا إشكال، قال الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة‏:‏ في هذا الحديث جواز إضافة المنزل لساكنه، وإن لم يكن في الأصل له فإن الجنة ملك الله عز وجل، وقد أضافها لساكنها بقوله يا أهل الجنة، قال‏:‏ والحكمة في ذكر دوام رضاه بعد الاستقرار أنه لو أخبر به قبل الاستقرار لكان خبرا من باب علم اليقين، فأخبر به بعد الاستقرار ليكون من باب عين اليقين، وإليه الإشارة بقوله تعالى ‏(‏فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين‏)‏ قال‏:‏ ويستفاد من هذا أنه لا ينبغي أن يخاطب أحد بشيء حتى يكون عنده ما يستدل به عليه ولو على بعضه، وكذا ينبغي للمرء أن لا يأخذ من الأمور إلا قدر ما يحمله، وفيه الأدب في السؤال لقولهم‏:‏ وأي شيء أفضل من ذلك، لأنهم لم يعلموا شيئا أفضل مما هم فيه فاستفهموا عما لا علم لهم به، وفيه أن الخير كله والفضل والاغتباط إنما هو في رضا الله سبحانه وتعالى، وكل شيء ما عداه وإن اختلفت أنواعه فهو من أثره، وفيه دليل على رضا كل من أهل الجنة بحاله مع اختلاف منازلهم وتنويع درجاتهم لأن الكل أجابوا بلفظ واحد وهو ‏"‏ أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ‏"‏ وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه ‏"‏ في رواية السرخسي ‏"‏ يستأذن ربه في الزرع‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأحب أن أزرع فأسرع‏)‏ فيه حذف تقديره فأذن له فزرع فأسرع‏.‏

قوله ‏(‏فإنه لا يشبعك شيء‏)‏ كذا للأكثر بالمعجمة والموحدة من الشبع، وللمستملي ‏"‏ لا يسعك شيء ‏"‏ بالمهملة بغير موحدة من الوسع‏.‏

قوله ‏(‏فقال الأعرابي يا رسول الله لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع‏)‏ قال الداودي قوله ‏"‏ قرشيا ‏"‏ وهم لأنه لم يكن لأكثرهم زرع‏.‏

قلت‏:‏ وتعليله يرد على نفيه المطلق فإذا ثبت أن لبعضهم زرعا صدق قوله أن الزارع المذكور منهم، واستشكل قوله لا يشبعك شيء بقوله تعالى في صفة الجنة ‏(‏أن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى‏)‏ وأجيب بأن نفي الشبع لا يوجب الجوع لأن بينهما واسطة وهي الكفاية، أكل أهل الجنة للتنعم والاستلذاذ لا عن الجوع، واختلف في الشبع فيها والصواب أن لا شبع فيها إذ لو كان لمنع دوام أكل المستلذ، والمراد بقوله ‏"‏ لا يشبعك شيء ‏"‏ جنس الآدمي، وما طبع عليه فهو في طلب الازدياد إلا من شاء الله تعالى، وقد تقدم شرح الحديث في أواخر ‏"‏ كتاب المزارعة ‏"‏ بعون الله تعالى‏.‏