فصل: باب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب خدمة الرجل في أهله‏)‏ أي بنفسه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي الْبَيْتِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كان يكون‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ يكون ‏"‏ من رواية المستملي والسرخسي، وقد تقدم ضبط المهنة وأنه بفتح الميم ويجوز كسرها في كتاب الصلاة‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ ضبط في الأمهات بكسر الميم، وضبطه الهروي بالفتح، وحكى الأزهري عن شمر عن مشايخه أن كسرها خطأ‏.‏

قوله ‏(‏فإذا سمع الأذان خرج‏)‏ تقدم شرحه مع شرح بقية الحديث مستوفى في أبواب فضل الجماعة من كتاب الصلاة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع هنا للنسفي وحده ترجمة نصها ‏"‏ باب هل لي من أجر في بني أبي سلمة ‏"‏ وبعده الحديث الآتي في ‏"‏ باب وعلى الوارث مثل ذلك ‏"‏ والراجح ما عند الجماعة

*3*باب إِذَا لَمْ يُنْفِقْ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف‏)‏ أخذ المصنف هذه الترجمة من حديث الباب بطريق الأولى، لأنه دل على جواز الأخذ لتكملة النفقة فكذا يدل على جواز أخذ جميع النفقة عند الامتناع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن عروة‏.‏

قوله ‏(‏أن هندا بنت عتبة‏)‏ كذا في هذه الرواية هندا بالصرف، ووقع في رواية الزهري عن عروة الماضية في المظالم بغير صرف ‏"‏ هند بنت عتبة بن ربيعة ‏"‏ أي ابن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏

وفي رواية الشافعي عن أنس بن عياض عن هشام ‏"‏ إن هندا أم معاوية وكانت هند لما قتل أبوها عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد يوم بدر شق عليها، فلما كان يوم أحد وقتل حمزة فرحت بذلك وعمدت إلى بطنه فشقتها وأخذت كبده فلاكتها ثم لفظتها، فلما كان يوم الفتح ودخل أبو سفيان مكة مسلما - بعد أن أسرته خيل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فأجاره العباس - غضبت هند لأجل إسلامه، وأخذت بلحيته ثم إنها بعد استقرار النبي صلى الله عليه وسلم بمكة جاءت فأسلمت وبايعت ‏"‏ وقد تقدم في أواخر المناقب أنها قالت له ‏"‏ يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، وما على ظهر الأرض اليوم أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك‏.‏

فقال‏:‏ أيضا والذي نفسي بيده‏.‏

ثم قالت‏:‏ يا رسول الله، إن أبا سفيان إلخ ‏"‏ وذكر ابن عبد البر أنها ماتت في المحرم سنة أربع عشرة يوم مات أبو قحافة والد أبي بكر الصديق وأخرج ابن سعد في ‏"‏ الطبقات ‏"‏ ما يدل على أنها عاشت بعد ذلك، فروى عن الواقدي عن ابن أبي سبرة عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ‏"‏ أن عمر استعمل معاوية على عمل أخيه، فلم يزل واليا لعمر حتى قتل واستخلف عثمان فأقره على عمله وأفرده بولاية الشام جميعا، وشخص أبو سفيان إلى معاوية ومعه ابناه عتبة وعنبسة، فكتبت هند إلى معاوية قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل ذلك‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ أشهد بالله أن هذا عن رأي هند ‏"‏ قلت‏:‏ كان عتبة منها وعنبسة من غيرها أمه عاتكة بنت أبي أزيهر الأزدي‏.‏

وفي ‏"‏ الأمثال للميداني ‏"‏ أنها عاشت بعد وفاة أبي سفيان، فإنه ذكر قصة فيها أن رجلا سأل معاوية أن يزوجه أمه فقال‏:‏ إنها قعدت عن الولد‏.‏

وكانت وفاة أبي سفيان في خلافة عثمان سنة اثنين وثلاثين‏.‏

قوله ‏(‏إن أبا سفيان‏)‏ هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس زوجها، وكان قد رأس في قريش بعد وقعة بدر، وسار بهم في أحد، وساق الأحزاب يوم الخندق، ثم أسلم ليلة الفتح كما تقدم مبسوطا في المغازي‏.‏

قوله ‏(‏رجل شحيح‏)‏ تقدم قبل بثلاثة أبواب ‏"‏ رجل مسيك ‏"‏ واختلف في ضبطه فالأكثر بكسر الميم وتشديد السين على المبالغة، وقيل بوزن شحيح، قال النووي‏:‏ هذا هو الأصح من حيث اللغة وإن كان الأول أشهر في الرواية، ولم يظهر لي كون الثاني أصح فإن الآخر مستعمل كثيرا مثل شريب وسكير وإن كان المخفف أيهما فيه نوع مبالغة لكن المشدد أبلغ، وقد تقدمت عبارة النهاية في كتاب الأشخاص حيث قال‏:‏ المشهور في كتب اللغة الفتح والتخفيف‏.‏

وفي كتب المحدثين الكسر والتشديد‏.‏

والشح البخل مع حرص، والشح أعم من البخل لأن البخل يختص بمنع المال والشح بكل شيء، وقيل الشح لازم كالطبع والبخل غير لازم، قال القرطبي‏:‏ لم ترد هند وصف أبي سفيان بالشح في جميع أحواله، وإنما وصفت حالها معه وأنه كان يقتر عليها وعلى أولادها، وهذا لا يستلزم البخل مطلقا فإن كثيرا من الرؤساء يفعل ذلك مع أهله ويؤثر الأجانب استئلافا لهم‏.‏

قلت‏:‏ وورد في بعض الطرق لقول هند هذا سبب يأتي ذكره قريبا‏.‏

قوله ‏(‏إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم‏)‏ زاد الشافعي في روايته ‏"‏ سرا، فهل علي في ذلك من شيء‏؟‏ ووقع في رواية الزهري ‏"‏ فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا‏؟‏ قوله ‏(‏فقال‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏ في رواية شعيب عن الزهري التي تقدمت في المظالم ‏"‏ لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ قوله ‏"‏ خذي ‏"‏ أمر إباحة بدليل قوله ‏"‏ لا حرج ‏"‏ والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية قال‏:‏ وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظا لكنها مقيدة معنى، كأنه قال‏:‏ إن صح ما ذكرت‏.‏

وقال غيره‏:‏ يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم علم صدقها فيما ذكرت فاستغنى عن التقييد‏.‏

واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة‏.‏

وفيه من الفوائد جواز ذكر الإنسان بالتعظيم كاللقب والكنية، كذا قيل وفيه نظر، لأن أبا سفيان كان مشهورا بكنيته دون اسمه فلا يدل قولها ‏"‏ إن أبا سفيان ‏"‏ على إرادة التعظيم‏.‏

وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر‏.‏

وفيه أن من نسب إلى نفسه أمرا عليه فيه غضاضة فليقرنه بما يقيم عذره في ذلك‏.‏

وفيه جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء عند من يقول إن صوتها عورة ويقول جاز هنا للضرورة‏.‏

وفيه أن القول قول الزوجة في قبض النفقة، لأنه لو كان القول قول الزوج إنه منفق لكلفت هذه البينة على إثبات عدم الكفاية وأجاب المازري عنه بأنه من باب تعليق الفتيا لا القضاء‏.‏

وفيه وجوب نفقة الزوجة وأنها مقدرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء، وهو قول للشافعي حكاه الجويني، والمشهور عن الشافعي أنه قدرها بالأمداد فعلى الموسر كل يوم مدان والمتوسط مد ونصف والمعسر مد، وتقريرها بالأمداد رواية عن مالك أيضا، قال النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏‏:‏ وهذا الحديث حجة على أصحابنا‏.‏

قلت‏:‏ وليس صريحا في الرد عليهم، لكن التقدير بالأمداد محتاج إلى دليل فإن ثبت حملت الكفاية في حديث الباب على القدر المقدر بالأمداد، فكأنه كان يعطيها وهو موسر ما يعطي المتوسط فأذن لها في أخذ التكملة، وقد تقدم الاختلاف في ذلك في ‏"‏ باب وجوب النفقة على الأهل ‏"‏ وفيه اعتبار النفقة بحال الزوجة، وهو قول الحنفية، واختار الخصاف منهم أنها معتبرة بحال الزوجين معا، قال صاحب ‏"‏ الهداية ‏"‏ وعليه الفتوى، والحجة فيه ضم قوله تعالى ‏(‏لينفق ذو سعة من سعته‏)‏ الآية إلى هذا الحديث، وذهبت الشافعية إلى اعتبار حال الزوج تمسكا بالآية، وهو قول بعض الحنفية، وفيه وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، والأصح عند الشافعية اعتبار الصغر أو الزمانة‏.‏

وفيه وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج، قال الخطابي‏:‏ لأن أبا سفيان كان رئيس قومه ويبعد أن يمنع زوجته وأولاده النفقة، فكأنه كان يعطيها قدر كفايتها وولدها دون من يخدمهم فأضافت ذلك إلى نفسها لأن خادمها داخل في جملتها‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يتمسك لذلك بقوله في بعض طرقه ‏"‏ أن أطعم من الذي له عيالنا ‏"‏ واستدل به على وجوب نفقة الابن على الأب ولو كان الابن كبيرا، وتعقب بأنها واقعة عين ولا عموم في الأفعال، فيحتمل أن يكون المراد بقولها ‏"‏ بنى ‏"‏ بعضهم أي من كان صغيرا أو كبيرا زمنا لا جميعهم‏.‏

واستدل به على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهو قول الشافعي وجماعة، وتسمى مسألة الظفر، والراجح عندهم لا يأخذ غير جنس حقه إلا إذا تعذر جنس حقه، وعن أبي حنيفة المنع، وعنه يأخذ جنس حقه ولا يأخذ من غير جنس حقه إلا أحد النقدين بدل الآخر، وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء، وعن أحمد المنع مطلقا وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأشخاص والملازمة، قال الخطابي يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس، لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق اللازمة وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله، قال‏:‏ ويدل على صحة ذلك قولها في رواية أخرى ‏"‏ وإنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ولا دلالة فيه لما ادعاه من أن بيت الشحيح لا يحتوي على كل ما يحتاج إليه لأنها نفت الكفاية مطلقا فتناول جنس ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، ودعواه أن منزل الشحيح كذلك مسلمة لكن من أين له أن منزل أبي سفيان كان كذلك‏؟‏ والذي يظهر من سياق القصة أن منزله كان فيه كل ما يحتاج إليه إلا أنه كان لا يمكنها إلا من القدر الذي أشارت إليه فاستأذنت أن تأخذ زيادة على ذلك بغير علمه، وقد وجه ابن المنير قوله أن في قصة هند دلالة على أن لصاحب الحق أن يأخذ من غير جنس حقه بحيث يحتاج إلى التقويم، لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهند أن تفرض لنفسها وعيالها قدر الواجب، وهذا هو التقويم بعينه بل هو أدق منه وأعسر‏.‏

واستدل به على أن للمرأة‏:‏ مدخلا في القيام على أولادها وكفالتهم والإنفاق عليهم، وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشرع‏.‏

وقال القرطبي فيه اعتبار العرف في الشرعيات خلافا لمن أنكر ذلك لفظا وعمل به معنى كالشافعية، كذا قال، والشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إلى العرف، واستدل به الخطابي على جواز القضاء على الغائب، وسيأتي في كتاب الأحكام أن البخاري ترجم ‏"‏ لقضاء على الغائب ‏"‏ وأورد هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن هشام بلفظ ‏"‏ إن أبا سفيان رجل شحيح فأحتاج أن آخذ من ماله، قال‏:‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ‏"‏ وذكر النووي أن جمعا من العلماء من أصحاب الشافعي ومن غيرهم استدلوا بهذا الحديث لذلك، حتى قال الرافعي في ‏"‏ القضاء على الغائب ‏"‏‏:‏ احتج أصحابنا على الحنفية في منعهم القضاء على الغائب بقصة هند، وكان ذلك قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم على زوجها وهو غائب، قال النووي‏:‏ ولا يصح الاستدلال، لأن هذه القصة كانت بمكة وكان أبو سفيان حاضرا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو مستترا لا يقدر عليه أو متعززا، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودا فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء، وقد وقع في كلام الرافعي في عدة مواضع أنه كان إفتاء ا هـ واستدل بعضهم على أنه كان غائبا بقول هند ‏"‏ لا يعطيني ‏"‏ إذ لو كان حاضرا لقالت لا ينفق علي، لأن الزوج هو الذي يباشر الإنفاق‏.‏

وهذا ضعيف لجواز أن يكون عادته أن يعطيها جملة ويأذن لها في الإنفاق مفرقا‏.‏

نعم قول النووي إن أبا سفيان كان حاضرا بمكة حق، وقد سبقه إلى الجزم بذلك السهيلي، بل أورد أخص من ذلك وهو أن أبا سفيان كان جالسا معها في المجلس، لكن لم يسق إسناده، وقد ظفرت به في ‏"‏ طبقات ابن سعد ‏"‏ أخرجه بسند رجاله رجال الصحيح، إلا أنه مرسل عن الشعبي ‏"‏ إن هندا لما بايعت وجاء قوله ولا يسرقن قالت‏:‏ قد كنت أصبت من مال أبي سفيان فقال أبو سفيان‏:‏ فما أصبت من مالي فهو حلال لك‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن تعدد القصة وأن هذا وقع لما بايعت ثم جاءت مرة أخرى فسألت عن الحكم، وتكون فهمت من الأول إحلال أبي سفيان لها ما مضى فسألت عما يستقبل، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن منده في ‏"‏ المعرفة ‏"‏ من طريق عبد الله بن محمد بن زاذان عن هشام بن عروة عن أبيه قال ‏"‏ قالت هند لأبي سفيان‏:‏ إني أريد أن أبايع، قال‏:‏ فإن فعلت فاذهبي معك برجل من قومك، فذهبت إلى عثمان فذهب معها، فدخلت منتقبة فقال‏:‏ بايعي أن لا تشركي ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ فلما فرغت قالت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل بخيل - الحديث - قال‏:‏ ما تقول يا أبا سفيان‏؟‏ قال‏:‏ أما يابسا فلا، وأما رطبا فأحله ‏"‏ وذكر أبو نعيم في ‏"‏ المعرفة ‏"‏ أن عبد الله تفرد به بهذا السياق وهو ضعيف، وأول حديثه يقتضي أن أبا سفيان لم يكن معها وأخره يدل على أنه كان حاضرا؛ لكن يحتمل أن يكون كل منهما توجه وحده أو أرسل إليه لما اشتكت منه، ويؤيد هذا الاحتمال الثاني ما أخرجه الحاكم في تفسير الممتحنة من ‏"‏ المستدرك ‏"‏ عن فاطمة بنت عتبة ‏"‏ أن أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها وبأختها هند يبايعان، فلما اشترط ولا يسرقن قالت هند‏:‏ لا أبايعك على السرقة، إني أسرق من زوجي، فكف حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه فقال‏:‏ أما الرطب فنعم وأما اليابس فلا ‏"‏ والذي يظهر لي أن البخاري لم يرد أن قصة هند كان قضاء على أبي سفيان وهو غائب، بل استدل بها على صحة القضاء على الغائب ولو لم يكن ذلك قضاء على غائب بشرطه، بل لما كان أبو سفيان غير حاضر معها في المجلس وأذن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه قدر كفايتها كان في ذلك نوع قضاء على الغائب فيحتاج من منعه أن يجيب عن هذا، وقد انبنى على هذا الخلاف يتفرع منه وهو أن الأب إذا غاب أو امتنع من الإنفاق على ولده الصغير أذن القاضي للأم إذا كانت فيها أهلية ذلك في الأخذ من مال الأب إن أمكن أو في الاستقراض عليه والإنفاق على الصغير، وهل لها الاستقلال بذلك بغير إذن القاضي‏؟‏ وجهان ينبنيان على الخلاف في قصة هند، فإن كانت إفتاء جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاء فلا يجوز إلا بإذن القاضي‏.‏

ومما رجح به أنه كان قضاء لا فتيا التعبير بصيغة الأمر حيث قال لها ‏"‏ خذي ‏"‏ ولو كان فتيا لقال مثلا‏:‏ لا حرج عليك إذا أخذت، ولأن الأغلب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو الحكم‏.‏

ومما رجح به أنه كان فتوى وقوع الاستفهام في القصة في قولها ‏"‏ هل علي جناح ‏"‏‏؟‏ ولأنه فوض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كان قضاء لم يفوضه إلى المدعي، ولأنه لم يستحلفها على ما ادعته ولا كلفها البينة، والجواب أن في ترك تحليفها أو تكليفها البينة حجة لمن أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه فكأنه صلى الله عليه وسلم علم صدقها في كل ما ادعت به، وعن الاستفهام أنه لا استحالة فيه من طالب الحكم، وعن تفويض قدر الاستحقاق أن المراد الموكول إلى العرف كما تقدم، وسيأتي بيان المذاهب في القضاء على الغائب في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أشكل على بعضهم استدلال البخاري بهذا الحديث على مسألة الظفر في كتاب الأشخاص حيث ترجم له ‏"‏ قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه ‏"‏ واستدلاله به على جواز القضاء على الغائب، لأن الاستدلال به على مسألة الظفر لا تكون إلا على القول بأن مسألة هند كانت على طريق الفتوى، والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب لا يكون إلا على القول بأنها كانت حكما‏.‏

والجواب أن يقال‏:‏ كل حكم يصدر من الشارع فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصح الاستدلال بهذه القصة للمسألتين والله أعلم‏.‏

وقد وقع هذا الباب مقدما على بابين عند أبي نعيم في ‏"‏ المستخرج‏"‏

*3*باب حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، والنفقة‏)‏ المراد بذات اليد المال، وعطف النفقة عليه من عطف الخاص على العام‏.‏

ووقع في شرح ابن بطال ‏"‏ والنفقة عليه ‏"‏ وزيادة لفظة ‏"‏ عليه ‏"‏ غير محتاج إليها في هذا الموضع وليست من حديث الباب في شيء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ وَقَالَ الْآخَرُ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا ابن طاوس‏)‏ اسمه عبد الله‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه وأبو الزناد‏)‏ هو عطف على ابن طاوس لا على طاوس‏.‏

وحاصله أن لسفيان بن عيينة فيه إسنادين إلى أبي هريرة‏.‏

ووقع في مسند الحميدي عن سفيان ‏"‏ وحدثنا أبو الزناد ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم من طريقه‏.‏

قوله ‏(‏خير نساء ركبن الإبل نساء قريش‏.‏

وقال الآخر‏:‏ صالح نساء قريش‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ صلح ‏"‏ بضم الصاد وتشديد اللام بعدها مهملة وهي صيغة جمع، وحاصله أن أحد شيخي سفيان اقتصر على نساء قريش وزاد الآخر صالح، ووقع عند مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان ‏"‏ قال أحدهما‏:‏ صالح نساء قريش‏.‏

وقال الآخر‏:‏ نساء قريش ‏"‏ ولم أره عن سفيان إلا مبهما، لكن ظهر من رواية شعيب عن أبي الزناد الماضية في أول النكاح ومن رواية معمر عن ابن طاوس عند مسلم أن الذي زاد لفظة ‏"‏ صالح ‏"‏ هو ابن طاوس ووقع في أوله عند مسلم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بيان سبب الحديث ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت‏:‏ يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال ‏"‏ فذكر الحديث، وله ‏"‏ أحناه علي ‏"‏ بمهملة ثم نون من الحنو وهو العطف والشفقة ‏"‏ وأرعاه ‏"‏ من الرعاية وهي الإبقاء، قال ابن التين‏:‏ الحانية عند أهل اللغة التي تقيم على ولدها فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية‏.‏

قوله ‏(‏في ذات يده‏)‏ قال قاسم بن ثابت في ‏"‏ الدلائل ‏"‏‏:‏ ذات يده وذات بيننا ونحو ذلك صفة لمحذوف مؤنث كأنه يعني الحال التي هي بينهم، والمراد بذات يده ماله ومكسبه‏.‏

وأما قولهم لقيته ذات يوم فالمراد لقاة أو مرة، فلما حذف الموصوف وبقيت الصفة صارت كالحال‏.‏

قوله ‏(‏ويذكر عن معاوية وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أما حديث معاوية وهو ابن أبي سفيان فأخرجه أحمد والطبراني من طريق زيد بن غياث عن معاوية ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر مثل رواية ابن طاوس في جملة أحاديث ورجاله موثقون، وفي بعضهم مقال لا يقدح‏.‏

وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سوده وكان لها خمسة صبيان أو ستة من بعل لها مات، فقالت له‏:‏ ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي إلا أني أكرمك أن تضغو هذه الصبية عند رأسك، فقال لها‏:‏ يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل صالح نساء قريش ‏"‏ الحديث وسنده حسن، وله طريق أخرى أخرجها قاسم بن ثابت في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ من طريق، الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس باختصار القصة، وهذه المرأة يحتمل أن تكون أم هانئ المذكورة في حديث أبي هريرة فلعلها كانت تلقب سودة فإن المشهور أن اسمها فاختة وقيل غير ذلك، ويحتمل أن تكون امرأة أخرى، وليست سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قديما بمكة بعد موت خديجة ودخل بها قبل أن يدخل بعائشة ومات وهي في عصمته، وقد تقدم ذلك واضحا، وتقدم شرح المتن مستوفى في أوائل كتاب النكاح

*3*باب كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كسوة المرأة بالمعروف‏)‏ هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم من حديث جابر المطول في صفة الحج، ومن جملته في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ‏"‏ اتقوا الله في النساء، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ‏"‏ ولما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه واستنبط الحكم من حديث آخر على شرطه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آتَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي

الشرح‏:‏

حديث علي في الحلة السيراء وقوله ‏"‏ فشققتها بين نسائي ‏"‏ قال ابن المنير وجه المطابقة أن الذي حصل لزوجته فاطمة عليها السلام من الحلة قطعة فرضيت بها اقتصادا بحسب الحال لا إسرافا، وأما حكم المسألة فقال ابن بطال‏:‏ أجمع العلماء على أن للمرأة مع النفقة على الزوج كسوتها وجوبا، وذكر بعضهم أنه يلزمه أن يكسوها من الثياب كذا، والصحيح في ذلك أن لا يحمل أهل البلدان على نمط واحد، وأن على أهل كل بلد ما يجري في عادتهم بقدر ما يطيقه الزوج على قدر الكفاية لها، وعلى قدر يسره وعسره ا هـ‏.‏

وأشار بذلك إلى الرد على الشافعية، وقد تقدم البحث في ذلك في النفقة قريبا والكسوة في معناها، وحديث علي سيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله ‏"‏آتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بالمد أي أعطى، ثم ضمن أعطى معنى أهدى أو أرسل لذلك عداه بإلي وهي بالتشديد، وقد وقع في رواية النسفي ‏"‏ بعث ‏"‏ وفي رواية ابن عبدوس ‏"‏ أهدى ‏"‏ ولا تضمين فيها، ومن قرأ ‏"‏ إلى ‏"‏ بالتخفيف بلفظ حرف الجر و ‏"‏ أتى ‏"‏ بمعنى جاء لزمه أن يقول ‏"‏ حلة سيراء ‏"‏ بالرفع ويكون في الكلام حذف تقديره فأعطانيها فلبستها إلى آخره، قال ابن التين‏:‏ ضبط عند الشيخ أبي الحسن ‏"‏ أتى ‏"‏ بالقصر أي جاء، فيحتمل أن يكون المعنى جاءني النبي صلى الله عليه وسلم بحلة فحذف ضمير المتكلم وحذف الباء فانتصبت؛ والحلة إزار ورداء، والسيراء بكسر المهملة وفتح التحتانية وبالمد من أنواع الحرير، وقوله ‏"‏بين نسائي ‏"‏ يوهم زوجاته وليس كذلك، فإنه لم يكن له حينئذ زوجة إلا فاطمة، فالمراد بنسائه زوجته مع أقاربه، وقد جاء في رواية ‏"‏ بين الفواطم‏"‏

*3*باب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب عون المرأة زوجها في ولده‏)‏ سقط في ولده من رواية النسفي وذكر فيه حديث جابر في تزويجه الثيب لتقوم على أخواته وتصلحهن، وكأنه استنبط قيام المرأة على ولد زوجها من قيام امرأة جابر على أخواته ووجه ذلك منه بطريق الأولى، قال ابن بطال‏:‏ وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها وإنما هو من جميل العشرة ومن شيمة صالحات النساء، وقد تقدم الكلام على خدمة المرأة زوجها هل تجب عليها أم لا قريبا

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْ قَالَ خَيْرًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب عون المرأة زوجها في ولده‏)‏ سقط في ولده من رواية النسفي وذكر فيه حديث جابر في تزويجه الثيب لتقوم على أخواته وتصلحهن، وكأنه استنبط قيام المرأة على ولد زوجها من قيام امرأة جابر على أخواته ووجه ذلك منه بطريق الأولى، قال ابن بطال‏:‏ وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها وإنما هو من جميل العشرة ومن شيمة صالحات النساء، وقد تقدم الكلام على خدمة المرأة زوجها هل تجب عليها أم لا قريبا

*3*باب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب نفقة المعسر على أهله‏)‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة الذي وقع على امرأته في رمضان، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، قال ابن بطال‏:‏ وجه أخذ الترجمة منه أنه صلى الله عليه وسلم أباح له إطعام أهله التمر، ولم يقل له إن ذلك يجزيك عن الكفارة لأنه قد تعين عليه فرض النفقة على أهله بوجود التمر وهو ألزم له من الكفارة، كذا قال، وهو يشبه الدعوى فيحتاج إلى دليل، والذي يظهر أن الأخذ من جهة اهتمام الرجل بنفقة أهله حيث قال لما قيل له تصدق به فقال ‏"‏ أعلى أفقر منا ‏"‏‏؟‏ فلولا اهتمامه بنفقة أهله لبادر وتصدق

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ هَلَكْتُ قَالَ وَلِمَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ لَيْسَ عِنْدِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا أَجِدُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ هَا أَنَا ذَا قَالَ تَصَدَّقْ بِهَذَا قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ فَأَنْتُمْ إِذًا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في قصة الذي وقع على امرأته في رمضان، قد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام

*3*باب وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ إِلَى قَوْلِهِ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وعلى الوارث مثل ذلك، وهل على المرأة منه شيء‏؟‏ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره بعد قوله أبكم ‏"‏ إلى قوله صراط مستقيم ‏"‏ قال ابن بطال ما ملخصه‏:‏ اختلف السلف في المراد بقوله ‏(‏وعلى الوارث مثل ذلك‏)‏ فقال ابن عباس‏:‏ عليه أن لا يضار، وبه قال الشعبي ومجاهد، والجمهور قالوا‏:‏ ولا غرم على أحد من الورثة، ولا يلزمه نفقة ولد الموروث‏.‏

وقال آخرون‏:‏ على من يرث الأب مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له‏.‏

ثم اختلفوا في المراد بالوارث فقال الحسن والنخعي‏:‏ هو كل من يرث الأب من الرجال والنساء، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ هو من كان ذا رحم محرم للمولود دون غيره‏.‏

وقال قبيصة بن ذؤيب‏:‏ هو المولود نفسه‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ إذا خلف أما وعما فعلى كل منهما إرضاع الولد بقدر ما يرث، وبه مال الثوري‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وإلى هذا القول أشار البخاري بقوله وعلى، وهل على المرأة منه شيء‏؟‏ ثم أشار إلى رده بقوله تعالى ‏(‏وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم‏)‏ فنزل المرأة من الوارث منزلة الأبكم من المتكلم ا هـ وقد أخرج الطبري هذه الأقوال عن قائلها، وسبب الاختلاف حمل المثلية في قوله ‏(‏مثل ذلك‏)‏ على جميع ما تقدم أو على بعضه، والذي تقدم الإرضاع والإنفاق والكسوة وعدم الإضرار، قال ابن العربي‏:‏ قالت طائفة لا يرجع إلى الجميع بل إلى الأخير، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع إلى الجميع فعليه الدليل لأن الإشارة بالإفراد، وأقرب مذكور هو عدم الإضرار فرجع الحمل عليه‏.‏

ثم أورد حديث أم سلمة في سؤالها‏:‏ هل لها أجر في الإنفاق على أولادها من أبي سلمة ولم يكن لهم مال‏؟‏ فأخبرها أن لها أجرا، فدل على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، إذ لو وجبت عليها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذا قصة هند بنت عتبة فإنه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدل على أنها تجب عليه دونها، فأراد البخاري أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأولاد في حياة الآباء فالحكم بذلك مستمر بعد الآباء، ويقويه قوله تعالى ‏(‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن‏)‏ أي رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يجب لهن في أول الآية ويجب عليهن نفقة الأبناء في آخرها‏؟‏ وأما قول قبيصة فيرده أن الوارث لفظ يشمل الولد وغيره فلا يخص به وارث دون آخر إلا بحجة ولو كان الولد هو المراد لقيل وعلى المولود، وأما قول الحنفية فيلزم منه أن النفقة تجب على الخال لابن أخته ولا تجب على العم لابن أخيه وهو تفصيل لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا القياس قاله إسماعيل القاضي، وأما قول الحسن ومن تابعه فتعقب بقوله تعالى ‏(‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏)‏ فلما وجب على الأب الإنفاق على من يرضع ولده ليغذي ويربي فكذلك يجب عليه إذا فطم فيغذيه بالطعام كما كان يغذيه بالرضاع ما دام صغيرا، ولو وجب مثل ذلك على الوارث لوجب إذا مات عن الحامل أنه يلزم العصبة بالإنفاق عليها لأجل ما في بطنها، وكذا يلزم الحنفية إلزام كل ذي رحم محرم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إنما قصر البخاري الرد على من زعم أن الأم يجب عليها نفقة ولدها وإرضاعه بعد أبيه لدخولها في الوارث، فبين أن الأم كانت كلا على الأب واجبة النفقة عليه؛ ومن هو كل بالأصالة لا يقدر على شيء غالبا كيف يتوجه عليه أن ينفق على غيره‏؟‏ وحديث أم سلمة صريح في أن إنفاقها على أولادها كان على سبيل الفضل والتطوع، فدل على أن لا وجوب عليها‏.‏

وأما قصة هند فظاهرة في سقوط النفقة عنها في حياة الأب فيستصحب هذا الأصل بعد وفاة الأب، وتعقب بأنه لا يلزم من السقوط عنها في حياة الأب السقوط عنها بعد فقده، وإلا فقد القيام بمصالح الولد بفقده، فيحتمل أن يكون مراد البخاري من الحديث الأول وهو حديث أم سلمة في إنفاقها على أولادها الجزء الأول من الترجمة وهو أن وارث الأب كالأم يلزمه نفقة المولود بعد موت الأب، ومن الحديث الثاني الجزء الثاني وهو أنه ليس على المرأة شيء عند وجود الأب، وليس فيه تعرض لما بعد الأب، والله أعلم

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ قَالَ نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وعلى الوارث مثل ذلك، وهل على المرأة منه شيء‏؟‏ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره بعد قوله أبكم ‏"‏ إلى قوله صراط مستقيم ‏"‏ قال ابن بطال ما ملخصه‏:‏ اختلف السلف في المراد بقوله ‏(‏وعلى الوارث مثل ذلك‏)‏ فقال ابن عباس‏:‏ عليه أن لا يضار، وبه قال الشعبي ومجاهد، والجمهور قالوا‏:‏ ولا غرم على أحد من الورثة، ولا يلزمه نفقة ولد الموروث‏.‏

وقال آخرون‏:‏ على من يرث الأب مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له‏.‏

ثم اختلفوا في المراد بالوارث فقال الحسن والنخعي‏:‏ هو كل من يرث الأب من الرجال والنساء، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ هو من كان ذا رحم محرم للمولود دون غيره‏.‏

وقال قبيصة بن ذؤيب‏:‏ هو المولود نفسه‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ إذا خلف أما وعما فعلى كل منهما إرضاع الولد بقدر ما يرث، وبه مال الثوري‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وإلى هذا القول أشار البخاري بقوله وعلى، وهل على المرأة منه شيء‏؟‏ ثم أشار إلى رده بقوله تعالى ‏(‏وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم‏)‏ فنزل المرأة من الوارث منزلة الأبكم من المتكلم ا هـ وقد أخرج الطبري هذه الأقوال عن قائلها، وسبب الاختلاف حمل المثلية في قوله ‏(‏مثل ذلك‏)‏ على جميع ما تقدم أو على بعضه، والذي تقدم الإرضاع والإنفاق والكسوة وعدم الإضرار، قال ابن العربي‏:‏ قالت طائفة لا يرجع إلى الجميع بل إلى الأخير، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع إلى الجميع فعليه الدليل لأن الإشارة بالإفراد، وأقرب مذكور هو عدم الإضرار فرجع الحمل عليه‏.‏

ثم أورد حديث أم سلمة في سؤالها‏:‏ هل لها أجر في الإنفاق على أولادها من أبي سلمة ولم يكن لهم مال‏؟‏ فأخبرها أن لها أجرا، فدل على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، إذ لو وجبت عليها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذا قصة هند بنت عتبة فإنه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدل على أنها تجب عليه دونها، فأراد البخاري أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأولاد في حياة الآباء فالحكم بذلك مستمر بعد الآباء، ويقويه قوله تعالى ‏(‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن‏)‏ أي رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يجب لهن في أول الآية ويجب عليهن نفقة الأبناء في آخرها‏؟‏ وأما قول قبيصة فيرده أن الوارث لفظ يشمل الولد وغيره فلا يخص به وارث دون آخر إلا بحجة ولو كان الولد هو المراد لقيل وعلى المولود، وأما قول الحنفية فيلزم منه أن النفقة تجب على الخال لابن أخته ولا تجب على العم لابن أخيه وهو تفصيل لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا القياس قاله إسماعيل القاضي، وأما قول الحسن ومن تابعه فتعقب بقوله تعالى ‏(‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏)‏ فلما وجب على الأب الإنفاق على من يرضع ولده ليغذي ويربي فكذلك يجب عليه إذا فطم فيغذيه بالطعام كما كان يغذيه بالرضاع ما دام صغيرا، ولو وجب مثل ذلك على الوارث لوجب إذا مات عن الحامل أنه يلزم العصبة بالإنفاق عليها لأجل ما في بطنها، وكذا يلزم الحنفية إلزام كل ذي رحم محرم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إنما قصر البخاري الرد على من زعم أن الأم يجب عليها نفقة ولدها وإرضاعه بعد أبيه لدخولها في الوارث، فبين أن الأم كانت كلا على الأب واجبة النفقة عليه؛ ومن هو كل بالأصالة لا يقدر على شيء غالبا كيف يتوجه عليه أن ينفق على غيره‏؟‏ وحديث أم سلمة صريح في أن إنفاقها على أولادها كان على سبيل الفضل والتطوع، فدل على أن لا وجوب عليها‏.‏

وأما قصة هند فظاهرة في سقوط النفقة عنها في حياة الأب فيستصحب هذا الأصل بعد وفاة الأب، وتعقب بأنه لا يلزم من السقوط عنها في حياة الأب السقوط عنها بعد فقده، وإلا فقد القيام بمصالح الولد بفقده، فيحتمل أن يكون مراد البخاري من الحديث الأول وهو حديث أم سلمة في إنفاقها على أولادها الجزء الأول من الترجمة وهو أن وارث الأب كالأم يلزمه نفقة المولود بعد موت الأب، ومن الحديث الثاني الجزء الثاني وهو أنه ليس على المرأة شيء عند وجود الأب، وليس فيه تعرض لما بعد الأب، والله أعلم

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هِنْدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ قَالَ خُذِي بِالْمَعْرُوفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وعلى الوارث مثل ذلك، وهل على المرأة منه شيء‏؟‏ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره بعد قوله أبكم ‏"‏ إلى قوله صراط مستقيم ‏"‏ قال ابن بطال ما ملخصه‏:‏ اختلف السلف في المراد بقوله ‏(‏وعلى الوارث مثل ذلك‏)‏ فقال ابن عباس‏:‏ عليه أن لا يضار، وبه قال الشعبي ومجاهد، والجمهور قالوا‏:‏ ولا غرم على أحد من الورثة، ولا يلزمه نفقة ولد الموروث‏.‏

وقال آخرون‏:‏ على من يرث الأب مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له‏.‏

ثم اختلفوا في المراد بالوارث فقال الحسن والنخعي‏:‏ هو كل من يرث الأب من الرجال والنساء، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ هو من كان ذا رحم محرم للمولود دون غيره‏.‏

وقال قبيصة بن ذؤيب‏:‏ هو المولود نفسه‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ إذا خلف أما وعما فعلى كل منهما إرضاع الولد بقدر ما يرث، وبه مال الثوري‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وإلى هذا القول أشار البخاري بقوله وعلى، وهل على المرأة منه شيء‏؟‏ ثم أشار إلى رده بقوله تعالى ‏(‏وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم‏)‏ فنزل المرأة من الوارث منزلة الأبكم من المتكلم ا هـ وقد أخرج الطبري هذه الأقوال عن قائلها، وسبب الاختلاف حمل المثلية في قوله ‏(‏مثل ذلك‏)‏ على جميع ما تقدم أو على بعضه، والذي تقدم الإرضاع والإنفاق والكسوة وعدم الإضرار، قال ابن العربي‏:‏ قالت طائفة لا يرجع إلى الجميع بل إلى الأخير، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع إلى الجميع فعليه الدليل لأن الإشارة بالإفراد، وأقرب مذكور هو عدم الإضرار فرجع الحمل عليه‏.‏

ثم أورد حديث أم سلمة في سؤالها‏:‏ هل لها أجر في الإنفاق على أولادها من أبي سلمة ولم يكن لهم مال‏؟‏ فأخبرها أن لها أجرا، فدل على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، إذ لو وجبت عليها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذا قصة هند بنت عتبة فإنه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدل على أنها تجب عليه دونها، فأراد البخاري أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأولاد في حياة الآباء فالحكم بذلك مستمر بعد الآباء، ويقويه قوله تعالى ‏(‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن‏)‏ أي رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يجب لهن في أول الآية ويجب عليهن نفقة الأبناء في آخرها‏؟‏ وأما قول قبيصة فيرده أن الوارث لفظ يشمل الولد وغيره فلا يخص به وارث دون آخر إلا بحجة ولو كان الولد هو المراد لقيل وعلى المولود، وأما قول الحنفية فيلزم منه أن النفقة تجب على الخال لابن أخته ولا تجب على العم لابن أخيه وهو تفصيل لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا القياس قاله إسماعيل القاضي، وأما قول الحسن ومن تابعه فتعقب بقوله تعالى ‏(‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏)‏ فلما وجب على الأب الإنفاق على من يرضع ولده ليغذي ويربي فكذلك يجب عليه إذا فطم فيغذيه بالطعام كما كان يغذيه بالرضاع ما دام صغيرا، ولو وجب مثل ذلك على الوارث لوجب إذا مات عن الحامل أنه يلزم العصبة بالإنفاق عليها لأجل ما في بطنها، وكذا يلزم الحنفية إلزام كل ذي رحم محرم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إنما قصر البخاري الرد على من زعم أن الأم يجب عليها نفقة ولدها وإرضاعه بعد أبيه لدخولها في الوارث، فبين أن الأم كانت كلا على الأب واجبة النفقة عليه؛ ومن هو كل بالأصالة لا يقدر على شيء غالبا كيف يتوجه عليه أن ينفق على غيره‏؟‏ وحديث أم سلمة صريح في أن إنفاقها على أولادها كان على سبيل الفضل والتطوع، فدل على أن لا وجوب عليها‏.‏

وأما قصة هند فظاهرة في سقوط النفقة عنها في حياة الأب فيستصحب هذا الأصل بعد وفاة الأب، وتعقب بأنه لا يلزم من السقوط عنها في حياة الأب السقوط عنها بعد فقده، وإلا فقد القيام بمصالح الولد بفقده، فيحتمل أن يكون مراد البخاري من الحديث الأول وهو حديث أم سلمة في إنفاقها على أولادها الجزء الأول من الترجمة وهو أن وارث الأب كالأم يلزمه نفقة المولود بعد موت الأب، ومن الحديث الثاني الجزء الثاني وهو أنه ليس على المرأة شيء عند وجود الأب، وليس فيه تعرض لما بعد الأب، والله أعلم

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من ترك كلا‏)‏ بفتح الكاف والتشديد والتنوين ‏(‏أو ضياعا‏)‏ بفتح الضاد المعجمة ‏(‏فإلي‏)‏ بالتشديد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ

الشرح‏:‏

ذكر حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته ‏"‏ وأما لفظ الترجمة فأورده في الاستقراض من طريق أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ من ترك مالا فلورثته؛ ومن ترك كلا فإلينا ‏"‏ ومن طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة ‏"‏ ومن ترك دنيا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ‏"‏ والضياع تقدم ضبطه وتفسيره في الكفالة وفي الاستقراض، وتقدم شرح الحديث في الكفالة وفي تفسير الأحزاب، ويأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى‏.‏

وأراد المصنف بإدخاله في أبواب النفقات الإشارة إلى أن من مات وله أولاد ولم يترك لهم شيئا فإن نفقتهم تجب في بيت مال المسلمين والله أعلم

*3*باب الْمَرَاضِعِ مِنْ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب المراضع من المواليات وغيرهن‏)‏ كذا للجميع، قال ابن التين‏:‏ ضبط في رواية بضم الميم، وبفتحها في أخرى، والأول أولى لأنه اسم فاعل من والت توالي‏.‏

قلت‏:‏ وليس كما قال، بل المضبوط في معظم الروايات بالفتح، وهو من الموالي لا من الموالاة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ كان الأولى أن يقول الموليات جمع مولاة، وأما المواليات فهو جمع الجمع جمع مولى جمع التكسير ثم جمع موالي جمع السلامة بالألف والتاء فصار مواليات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ قُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ

الشرح‏:‏

ذكر حديث أم حبيبة في قولها ‏"‏ انكح أختي ‏"‏ وفي قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له درة بنت أبي سلمة فقال ‏"‏ بنت أم سلمة ‏"‏‏؟‏ وإنما استثبتها في ذلك ليترتب عليه الحكم، لأن بنت أبي سلمة من غير أم سلمة تحل له لو لم يكن أبو سلمة رضيعه، لأنها ليست ربيبة، بخلاف بنت أبي سلمة من أم سلمة‏.‏

وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب النكاح وقوله في آخره ‏"‏ قال شعيب عن الزهري قال عروة ثويبة أعتقها أبو لهب ‏"‏ تقدم هذا التعليق موصولا في جملة الحديث الذي أشرت إليه في أوائل النكاح، وسياق مرسل عروة أتم مما هنا، وتقدم شرحه، وأراد بذكره هنا إيضاح أن ثويبة كانت مولاة ليطابق الترجمة، ووجه إيرادها في أبواب النفقات الإشارة إلى أن إرضاع الأم ليس متحتما بل لها أن ترضع ولها أن تمتنع، فإذا امتنعت كان للأب أو الولي إرضاع الولد بالأجنبية حرة كانت أو أمة متبرعة كانت أو بأجرة والأجرة تدخل في النفقة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ كانت العرب تكره رضاع الإماء وترغب في رضاع العربية لنجابة الولد، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد رضع من غير العرب وأنجب وأن رضاع الإماء لا يهجن ا هـ وهو معنى حسن، إلا أنه لا يفيد الجواب عن السؤال الذي أوردته‏.‏

وكذا قول ابن المنير‏:‏ أشار المصنف إلى أن حرمة الرضاع تنتشر، سواء كانت المرضعة حرة أم أمة‏.‏

والله أعلم ‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب النفقات من الأحاديث المرفوعة على خمسة وعشرين حديثا، المعلق منها ثلاثة وجميعها مكرر إلا ثلاثة أحاديث وهي حديث أبي هريرة ‏"‏ الساعي على الأرملة ‏"‏ وحديث ابن عباس ومعاوية في نساء قريش وهما معلقان، وافقه مسلم على تخريج حديث أبي هريرة دونهما‏.‏

وفيه من الآثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين، ثلاثة آثار‏:‏ أثر الحسن في أوله، وأثر الزهري في الوالدات يرضعن، وأثر أبي هريرة المتصل بحديث ‏"‏ أفضل الصدقة ما ترك عن غنى ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ تقول المرأة إما أن تعطيني وإما أن تطلقني إلخ ‏"‏ وبين في آخره أنه من كلام أبي هريرة فهو موقوف متصل الإسناد، وهو من أفراده عن مسلم، بخلاف غالب الآثار التي يوردها فإنها معلقة‏.‏

والله أعلم