فصل: باب الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب القصد‏)‏ بفتح القاف وسكون المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة، أي استحباب ذلك؛ وسيأتي أنهم فسروا السداد بالقصد وبه تظهر المناسبة‏.‏

قوله ‏(‏والمداومة على العمل‏)‏ أي الصالح‏.‏

ذكر فيه ثمانية أحاديث أكثرها مكرر وفي بعضها زيادة على بعض، ومحصل ما اشتملت عليه الحث على مداومة العمل الصالح وإن قل، وأن الجنة لا يدخلها أحد بعمله بل برحمة الله، وقصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاته، والأول هو المقصود بالترجمة والثاني ذكر استطرادا وله تعلق بالترجمة أيضا والثالث يتعلق بها أيضا بطريق خفي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَشْعَثَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الدَّائِمُ قَالَ قُلْتُ فَأَيَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ قَالَتْ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبدان‏)‏ هو عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد، وأشعث هو ابن سليم بن الأسود وأبوه يكنى أبا الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة وهو بها أشهر، وقد تقدم هذا الحديث بهذا الإسناد في ‏"‏ باب من نام عند السحر ‏"‏ من كتاب التهجد، وتقدم شرحه هناك‏.‏

والمراد بالصارخ الديك‏.‏

وقوله هنا ‏"‏ قلت في أي حين كان يقوم ‏"‏ وقع في رواية الكشميهني ‏"‏ فأي حين ‏"‏ وقد تقدم هناك بلفظ ‏"‏ قلت متى كان يقوم ‏"‏ وأعقبه برواية أبي الأحوص عن أشعث بلفظ ‏"‏ إذا سمع الصارخ قام فصلى ‏"‏ اختصره، وأخرجه مسلم من هذا الوجه بتمامه وقال فيه‏:‏ ‏"‏ قلت أي حين كان يصلي ‏"‏ فذكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة أيضا من طريق عروة عنها أنها قالت‏:‏ ‏"‏ كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه ‏"‏ وهذا يفسر الذي قبله، وقد ثبت هذا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي يلي الذي بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة من رواية سعيد المقبري عنه‏.‏

قوله ‏(‏لن ينجي أحدا منكم عمله‏)‏ في رواية أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب ‏"‏ ما منكم من أحد ينجيه عمله ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وتقدم في كفارة المرض من طريق أبي عبيد عن أبي هريرة بلفظ‏:‏ ‏"‏ لم يدخل أحدا عمله الجنة ‏"‏ وأخرجه مسلم أيضا وهو كلفظ عائشة في الحديث الرابع هنا، ولمسلم من طريق ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ‏"‏ ليس أحد منكم ينجيه عمله ‏"‏ ومن طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه ‏"‏ لن ينجو أحد منكم بعمله ‏"‏ وله من حديث جابر ‏"‏ لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ‏"‏ ومعنى قوله ينجي أي يخلص والنجاة من الشيء التخلص منه، قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى ‏(‏وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‏)‏ ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها‏.‏

ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى ‏(‏سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول‏.‏

ثم قال‏:‏ ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية، والتقدير ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم‏.‏

وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية، فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة كل ذلك لم يستحقه العامل بعمله‏.‏

وإنما هو بفضل الله وبرحمته‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة‏:‏ الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة‏.‏

الثاني أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله‏.‏

الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال‏.‏

الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال‏.‏

وقال الكرماني الباء في قوله ‏(‏بما كنتم تعملون‏)‏ ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في ‏"‏ المغني ‏"‏ فسبق إليه فقال‏:‏ ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف، ومنه ‏(‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في ‏"‏ لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ‏"‏ لأن المعطي بعوض قد يعطى مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب، قال‏:‏ وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث‏.‏

قلت‏:‏ سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب ‏"‏ مفتاح دار السعادة ‏"‏‏:‏ الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهي لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها، لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبة وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه ‏"‏ لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم ‏"‏ الحديث، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى ‏(‏أورثتموها بما كنتم تعملون‏)‏ لم يمش في قوله تعالى ‏(‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا‏.‏

وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله ‏(‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ أي تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية‏.‏

ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى‏.‏

ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث‏.‏

وقال المازري‏:‏ ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخيره صدق لا خلف فيه‏.‏

وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خبط كثير وتفصيل طويل‏.‏

قوله ‏(‏قالوا ولا أنت يا رسول الله‏)‏ ‏؟‏ وقع في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ فقال رجل ‏"‏ ولم أقف على تعيين القائل قال الكرماني‏:‏ إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى‏.‏

قلت‏:‏ وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال‏:‏ لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم وعمله في العبادة أقوم قيل له ‏"‏ ولا أنت ‏"‏ أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال ‏"‏ لا إلا برحمة الله ‏"‏ وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ ‏"‏ لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إلا أن يتغمدني الله‏)‏ في رواية سهيل ‏"‏ إلا أن يتداركني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏برحمة‏)‏ في رواية أبي عبيد ‏"‏ بفضل ورحمة ‏"‏ وفي رواية الكشميهني من طريقه ‏"‏ بفضل رحمته ‏"‏ وفي رواية الأعمش ‏"‏ برحمة وفضل ‏"‏ وفي رواية بشر بن سعيد ‏"‏ منه برحمة ‏"‏ وفي رواية ابن عون ‏"‏ بمغفرة ورحمة‏"‏‏.‏

وقال ابن عون بيده هكذا ‏"‏ وأشار على رأسه ‏"‏ وكأنه أراد تفسير معنى ‏"‏ يتغمدني ‏"‏ قال أبو عبيد‏:‏ المراد بالتغمد الستر، وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به‏.‏

قال الرافعي‏:‏ في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته‏.‏

قوله ‏(‏سددوا‏)‏ في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ ولكن سددوا ‏"‏ ومعناه اقصدوا السداد أي الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم فينزل عليكم الرحمة‏.‏

قوله ‏(‏وقاربوا‏)‏ أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا، وقد أخرج البزار من طريق محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ولكن صوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبد الله بن عمرو موقوف ‏"‏ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ‏"‏ والمنبت بنون ثم موحدة ثم مثناة ثقيلة أي الذي عطب مركوبه من شدة السير، مأخوذ من البت وهو القطع أي صار منقطعا لم يصل إلى مقصوده وفقد مركوبه‏.‏

الذي كان يوصله لو رفق به‏.‏

وقوله ‏"‏أوغلوا ‏"‏ بكسر المعجمة من الوغول وهو الدخول في الشيء‏.‏

قوله ‏(‏واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة‏)‏ في رواية الطيالسي عن ابن أبي ذئب ‏"‏ وخطا من الدلجة ‏"‏ والمراد بالغدو السير من أول النهار، وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار، والدلجة بضم المهملة وسكون اللام ويجوز فتحها وبعد اللام جيم سير الليل يقال سار دلجة من الليل أي ساعة فلذلك قال شيئا من الدلجة لعسر سير جميع الليل، فكأن فيه إشارة إلى صيام جميع النهار وقيام بعض الليل وإلى أعم من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة وهو الموافق للترجمة، وعبر بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة، وشيئا منصوب بفعل محذوف أي افعلوا، وقد تقدم بأبسط من هذا في كتاب الإيمان في ‏"‏ باب الدين يسر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏والقصد القصد‏)‏ بالنصب على الإغراء أي الزموا الطريق الوسط المعتدل، ومنه قوله في حديث جابر ابن سمرة عند مسلم ‏"‏ كانت خطبته قصدا ‏"‏ أي لا طويلة ولا قصيرة، واللفظ الثاني للتأكيد، ووقفت على سبب لهذا الحديث‏:‏ فأخرج ابن ماجه من حديث جابر قال ‏"‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي على صخرة فأتى ناحية فمكث ثم انصرف فوجده على حاله فقام فجمع يديه ثم قال‏:‏ أيها الناس عليكم القصد، عليكم القصد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبد العزيز بن عبد الله‏)‏ هو الأويسي، وسليمان هو ابن بلال‏.‏

قوله ‏(‏عن موسى بن عقبة‏)‏ قال الإسماعيلي بعد أن أخرجه من طريق محمد بن الحسين المخزومي عن سليمان ابن بلال عن عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة‏:‏ لم أر في كتاب البخاري ‏"‏ عن عبد العزيز بن المطلب ‏"‏ 0 بين سليمان وموسى‏.‏

قلت‏:‏ وهو المحفوظ، والذي زاده غير معتمد لأنه متفق على ضعفه وهو المعروف بابن زبالة بفتح الزاي وتخفيف الموحدة المدني، وهذا من الأمثلة لما تعقبته على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات تحكم بصحتها لأنها خارجة مخرج الصحيح، ووجه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرحوا بالتزام ذلك، سلمنا أنهم التزموا ذلك لكن لم يفوا به، وهذا من أمثلة ذلك فإن ابن زبالة ليس من شرط الصحيح‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي سلمة بن عبد الرحمن‏)‏ سيأتي ما يتعلق باتصاله بعد حديثين، وقد تقدم شرح المتن في الذي قبله‏.‏

قوله ‏(‏وإن أحب الأعمال إلخ‏)‏ خرج هذا جواب سؤال سيأتي بيانه في الذي بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَقَالَ اكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن سعد بن إبراهيم‏)‏ أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة شيخه هو عمه‏.‏

قوله ‏(‏عن عائشة‏)‏ وقع عند النسائي من طريق ابن إسحاق وهو السبيعي عن أبي سلمة عن أم سلمة فذكر معنى حديث عائشة، ورواية سعد بن إبراهيم أقوى لكون أبي سلمة بلديه وقريبه، بخلاف ابن إسحاق في الأمرين؛ ويحتمل أن يكون عند أبي سلمة عن أمي المؤمنين لاختلاف السياقين، فإن لفظه عن أم سلمة بعد زيادة في أوله ‏"‏ وكان أحب الأعمال إليه الذي يدوم عليه العبد وإن كان يسيرا ‏"‏ وقد تقدم من طريق القاسم بن محمد عن عائشة نحو سياق أبي سلمة عن عائشة‏.‏

قوله ‏(‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله‏)‏ لم أقف على تعيين السائل عن ذلك، لكن قوله ‏(‏قال أدومها وإن قل‏)‏ فيه سؤال وهو أن المسئول عنه أحب الأعمال، وظاهره السؤال عن ذات العمل فلم يتطابقا، ويمكن أن يقال إن هذا السؤال وقع بعد قوله في الحديث الماضي في الصلاة وفي الحج وفي بر الوالدين حيث أجاب بالصلاة ثم بالبر إلخ ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولا أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجرا لكن ليس فيه مداومة‏.‏

قوله ‏(‏وقال‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم، هو موصول بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏اكلفوا‏)‏ بفتح اللام وبضمها أيضا، قال ابن التين هو في اللغة بالفتح ورويناه بالضم، والمراد به الإبلاغ بالشيء إلى غايته، يقال كلفت بالشيء إذا أولعت به، ونقل بعض الشراح أنه روى بفتح الهمزة وكسر اللام من الرباعي، ورد بأنه لم يسمع أكلف بالشيء، قال المحب الطبري‏:‏ الكلف بالشيء التولع به فاستعير للعمل للالتزام والملابسة، وألفه ألف وصل، والحكمة في ذلك أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع‏.‏

وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات‏.‏

قوله ‏(‏ما تطيقون‏)‏ أي قدر طاقتكم‏.‏

والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس وهو خال إبراهيم، والسند كله إلى عائشة كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏هل كان يخص شيئا من الأيام‏)‏ أي بعبادة مخصوصة لا يفعل مثلها في غيره ‏(‏قالت لا‏)‏ ، وقد استشكل ذلك بما ثبت عنها أن أكثر صيامه كان في شعبان كما تقدم تقريره في كتاب الصيام، وبأنه كان يصوم أيام البيض كما ثبت في السنن وتقدم بيانه أيضا‏.‏

وأجيب بأن مرادها تخصيص عبادة معينة في وقت خاص، وإكثاره الصيام في شعبان إنما كان لأنه كان يعتريه الوعك كثيرا وكان يكثر السفر في الغزو فيفطر بعض الأيام التي كان يريد أن يصومها فيتفق أن لا يتمكن من قضاء ذلك إلا في شعبان فيصير صيامه في شعبان بحسب الصورة أكثر من صيامه في غيره‏.‏

وأما أيام البيض فلم يكن يواظب على صيامها في أيام بعينها‏.‏

بل كان ربما صام من أول الشهر وربما صام من وسطه وربما صام من آخره، ولهذا قال أنس ‏"‏ ما كنت تشاء أن تراه صائما من النهار إلا رأيته، ولا قائما من الليل إلا رأيته‏"‏‏.‏

وقد تقدم هذا كله بأبسط من هذا في كتاب الصيام أيضا‏.‏

قوله ‏(‏كان عمله ديمة‏)‏ بكسر الدال المهملة وسكون التحتانية أي دائما، والديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق، ثم استعمل في غيره، وأصلها الواو فانقلبت بالكسرة قبلها ياء‏.‏

قوله ‏(‏وأيكم يستطيع إلخ‏)‏ أي في العبادة كمية كانت أو كيفية من خشوع وخضوع وإخبات وإخلاص والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ قَالَ أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلًا سَدِيدًا وَسَدَادًا صِدْقًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏محمد بن الزبرقان‏)‏ بكسر الزاي والراء بينهما باء موحدة وبالقاف هو أبو همام الأهوازي، وثقه علي بن المديني والدار قطني وغيرهما وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال‏:‏ ربما أخطأ؛ وما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد وقد توبع فيه‏.‏

قوله ‏(‏قال أظنه عن أبي النضر‏)‏ هو سالم بن أبي أمية المدني التيمي، وفاعل أظنه هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه، وكأنه جوز أن يكون موسى بن عقبة لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة بن عبد الرحمن وأن بينهما فيه واسطة وهو أبو النضر، لكن قد ظهر من وجه آخر أن لا واسطة لتصريح وهيب وهو ابن خالد عن موسى بن عقبة بقوله ‏"‏ سمعت أبا سلمة ‏"‏ وهذا هو النكتة في إيراد الرواية المعلقة بعدها عن عفان عن وهيب، وطريق عفان هذه وصلها أحمد في مسنده قال ‏"‏ حدثنا عفان بسنده ‏"‏ وأخرجها البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من طريق إبراهيم الحربي عن عفان‏.‏

وأخرج مسلم الحديث المذكور من طريق بهز بن أسد عن وهيب‏.‏

قوله ‏(‏سددوا وأبشروا‏)‏ هكذا اقتصر على طرف المتن، لأن غرضه منه بيان اتصال السند فاكتفى، وقد ساقه أحمد بتمامه عن عفان مثل رواية أبي همام سواء لكن قدم وأخر في بعض ألفاظه، وكذا لمسلم في رواية بهز وزاد في آخره ‏"‏ واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ‏"‏ ومضى لنحو هذا الحديث في كتاب اللباس سبب وهو من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة ‏"‏ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل فيصلي عليه ويبسطه في النهار فيجلس عليه، فجعل الناس يصلون عليه بصلاته حتى كثروا، فأقبل عليهم فقال‏:‏ يا أيها الناس عليكم من الأعمال بما تطيقون ‏"‏ ووقفت له على سبب آخر وهو عند ابن حبان من حديث أبي هريرة قال ‏"‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون فقال‏:‏ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن ربك يقول لك لا تقنط عبادي، فرجع إليهم فقال‏:‏ سددوا وقاربوا، قال ابن حزم في كلامه على مواضع من البخاري‏:‏ معنى الأمر بالسداد والمقاربة أنه صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أنه بعث ميسرا مسهلا، فأمر أمته بأن يقتصدوا في الأمور لأن ذلك يقتضي الاستدامة عادة‏.‏

قوله ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ سديدا سدادا صدقا‏)‏ كذا ثبت للأكثر، والذي ثبت عن مجاهد عند الفريابي والطبري وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏قولا سديدا‏)‏ قال‏:‏ سدادا والسداد بفتح أوله العدل المعتدل الكافي وبالكسر ما يسد الخلل‏.‏

والذي وقع في الرواية بالفتح‏.‏

وزعم مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن الطبري وصل تفسير مجاهد عن موسى بن هارون بن عمرو بن طلحة عن أسباط عن السدي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهذا وهم فاحش، فما للسدي من ابن أبي نجيح رواية، ولا أخرجه الطبري من هذا الوجه، وإنما أخرج من وجه آخر عن السدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ‏"‏ قولا سديدا ‏"‏ قال‏:‏ القول السديد أن يقول لمن حضره الموت‏:‏ قدم لنفسك واترك لولدك‏.‏

وأخرج أثر مجاهد من رواية ورقاء عن ابن أبي نجيح‏.‏

وأخرج أيضا من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال في قوله تعالى ‏(‏قولا سديدا‏)‏ قال‏:‏ عدلا يعني في منطقة‏.‏

وفي عمله‏.‏

قال والسداد الصدق‏.‏

وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري في قوله ‏(‏قولا سديدا‏)‏ قال‏:‏ صدقا‏.‏

وأخرج الطبري من طريق الكلبي مثله، والذي أظنه أنه سقط من الأصل لفظة والتقدير قال مجاهد‏:‏ سدادا‏.‏

وقال غيره صدقا‏.‏

أو الساقط منه لفظة أي كأن المصنف أراد تفسير ما فسر به مجاهد السديد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ قَدْ أُرِيتُ الْآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمْ الصَّلَاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏فليح‏)‏ هو ابن سليمان، والإسناد كله مدنيون‏.‏

قوله ‏(‏صلى لنا يوما الصلاة‏)‏ وقع في رواية الزهري عن أنس أنها الظهر‏.‏

قوله ‏(‏ثم رقي‏)‏ بفتح أوله وكسر القاف من الارتقاء أي صعد وزنا ومعنى‏.‏

قوله ‏(‏من قبل‏)‏ أي من جهة وزنا ومعنى‏.‏

قوله ‏(‏أريت‏)‏ بضم الهمزة وكسر الراء وفي بعضها ‏"‏ رأيت ‏"‏ بفتحتين‏.‏

قوله ‏(‏ممثلتين‏)‏ أي مصورتين وزنا ومعنى، يقال مثله إذا صوره كأنه ينظر إليه‏.‏

قوله ‏(‏في قبل‏)‏ بضم القاف والموحدة، والمراد بالجدار جدار المسجد‏.‏

قوله ‏(‏فلم أر كاليوم في الخير والشر‏)‏ وقع هنا مكررا تأكيدا، وقد تقدم شرح هذا اللفظ في ‏"‏ باب وقت الظهر ‏"‏ من أبواب المواقيت، ويأتي شرح الحديث مستوفي في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي الحديث إشارة إلى الحث على مداومة العمل، لأن من مثل الجنة والنار بين عينيه كان ذلك باعثا له على المواظبة على الطاعة والانكفاف عن المعصية‏.‏

وبهذا التقريب تظهر مناسبة الحديث للترجمة

*3*باب الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ

وَقَالَ سُفْيَانُ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الرجاء مع الخوف‏)‏ أي استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ولا في الخوف عن الرجاء لئلا يفضي في الأول إلى المكر وفي الثاني إلى القنوط وكل منهما مذموم، والمقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا في غرور، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي‏:‏ من علامة السعادة أن تطيع، وتخاف أن لا تقبل‏.‏

ومن علامة الشقاء أن تعصى، وترجو أن تنجو‏.‏

وقد أخرج ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه ‏"‏ عن عائشة قلت‏:‏ يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الذي يسرق ويزني‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكنه الذي يصوم ويتصدق ويصلي ويخاف أن لا يقبله منه ‏"‏ وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل الأول أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث ‏"‏ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله‏"‏، وسيأتي الكلام عليه في كتاب التوحيد‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يهمل جانب الخوف أصلا بحيث يجزم بأنه آمن، ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له‏:‏ كيف تجدك‏؟‏ فقال‏:‏ أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف ‏"‏ ولعل البخاري أشار إليه في الترجمة، ولما لم يوافق شرطه أورد ما يؤخذ منه، وإن لم يكن مساويا له في التصريح بالمقصود‏.‏

قوله ‏(‏وقال سفيان‏)‏ هو ابن عيينة ‏(‏ما في القرآن آية أشد علي‏)‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم‏)‏ وقد تقدم الكلام على هذا الأثر وبيانه والبحث فيه في تفسير المائدة ومناسبته للترجمة من جهة أن الآية تدل على أن من لم يعمل بما تضمنه الكتاب الذي أنزل عليه لم تحصل له النجاة، لكن يحتمل أن يكون ذلك من الإصر الذي كان كتب على من قبل هذه الأمة، فيحصل الرجاء بهذه الطريق مع الخوف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا قتيبة‏)‏ هو ابن سعيد، وثبت كذلك لغير أبي ذر، وعمرو هو ابن أبي عمرو مولى المطلب وهو تابعي صغير، وشيخه تابعي وسط، وما مدنيان‏.‏

قوله ‏(‏إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة‏)‏ قال ابن الجوزي‏:‏ رحمة الله صفة من صفات ذاته، وليس هي بمعنى الرقة التي في صفات الآدميين، بل ضرب ذلك مثلا لما يعقل من ذكر الأجزاء ورحمة المخلوقين والمراد أنه أرحم الراحمين‏.‏

قلت‏:‏ المراد بالرحمة هنا ما يقع من صفات الفعل كما سأقرره فلا حاجة للتأويل، وقد تقدم في أوائل الأدب جواب آخر مع مباحث حسنة وهو في ‏"‏ باب جعل الله الرحمة مائة جزء‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وأرسل في خلقه كلهم‏)‏ كذا لهم وكذا للإسماعيلي عن الحسن بن سفيان ولأبي نعيم من طريق السراج كلاهما عن قتيبة، وذكر الكرماني أن في بعض الروايات ‏"‏ في خلقه كله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فلو يعلم الكافر‏)‏ كذا ثبت في هذه الطريق بالفاء إشارة إلى ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ومن ثم قدم ذكر الكافر لأن كثرتها وسعتها تقتضي أن يطمع فيها كل أحد، ثم ذكر المؤمن استطرادا‏.‏

وروى هذا الحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقطعه حديثين أخرجهما مسلم من طريقه، فذكر حديث الرحمة بلفظ ‏"‏ خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة ‏"‏ وذكر الحديث الآخر بلفظ ‏"‏ لو يعلم المؤمن إلخ ‏"‏ والحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي الإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك ولا يقع، لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعا فيما مضى‏.‏

قوله ‏(‏بكل الذي‏)‏ استشكل هذا التركيب لكون كل إذا أضيفت إلى الموصول كانت إذ ذاك لعموم الأجزاء لا لعموم الأفراد، والغرض من سياق الحديث تعميم الأفراد، وأجيب بأنه وقع في بعض طرقه أن الرحمة قسمت مائة جزء فالتعميم حينئذ لعموم الأجزاء في الأصل، أو نزلت الأجزاء منزلة الأفراد مبالغة‏.‏

قوله ‏(‏لم ييأس من الجنة‏)‏ قيل المراد أن الكافر لو علم سعة الرحمة لغطى على ما يعلمه من عظم العذاب فيحصل به الرجاء، أو المراد أن متعلق علمه بسعة الرحمة مع عدم التفاته إلى مقابلها يطمعه في الرحمة، ومطابقة الحديث للترجمة أنه اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، فمن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه، وذلك باعث على مجانبة السيئة ولو كانت صغيرة وملازمة الطاعة ولو كانت قليلة، قيل في الجملة الأولى نوع إشكال، فإن الجنة لم تخلق للكافر ولا طمع له فيها فغير مستبعد أن يطمع في الجنة من لا يعتقد كفر نفسه فيشكل ترتب الجواب على ما قبله، وأجيب بأن هذه الكلمة سيقت لترغيب المؤمن في سعة رحمة الله التي لو علمها الكافر الذي كتب عليه أنه يختم عليه أنه لا حظ له في الرحمة لتطاول إليها ولم ييأس منها، إما بإيمانه المشروط وإما لقطع نظره عن الشرط مع تيقنه بأنه على الباطل واستمراره عليه عنادا، وإذا كان ذلك حال الكافر فكيف لا يطمع فيها المؤمن الذي هداه الله للإيمان‏؟‏ وقد ورد ‏"‏ أن إبليس يتطاول للشفاعة لما يرى يوم القيامة من سعة الرحمة ‏"‏ أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من حديث جابر، ومن حديث حذيفة وسند كل منهما ضعيف، وقد تكلم الكرماني هنا على ‏"‏ لو ‏"‏ بما حاصله‏:‏ أنها هنا لانتفاء الثاني وهو الرجاء لانتفاء الأول وهو العلم، فأشبهت لو جئتني أكرمتك، وليست لانتقاء الأول لانتفاء الثاني كما بحثه ابن الحاجب في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏)‏ والعلم عند الله‏.‏

قال‏:‏ والمقصود من الحديث أن المكلف ينبغي له أن يكون بين الخوف والرجاء حتى لا يكون مفرطا في الرجاء بحيث يصير من المرجئة القائلين لا يضر مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات عن غير توبة في النار، بل يكون وسطا بينهما كما قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يرجون رحمته ويخافون عذابه‏)‏ ومن تتبع دين الإسلام وجد قواعده أصولا وفروعا كلها في جانب الوسط، والله أعلم‏.‏

*3*باب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ

وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَالَ عُمَرُ وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الصبر عن محارم الله‏)‏ يدخل في هذا المواظبة على فعل الواجبات والكف عن المحرمات، وذلك ينشأ عن علم العبد بقبحها وأن الله حرمها صيانة لعبده عن الرذائل، فيحمل ذلك العاقل على تركها ولو لم يرد على فعلها وعيد، ومنها الحياء منه والخوف منه أن يوقع وعيده فيتركها لسوء عاقبتها وأن العبد منه بمرأى ومسمع فيبعثه ذلك على الكف عما نهى عنه، ومنها مراعاة النعم فإن المعصية غالبا تكون سببا لزوال النعمة، ومنها محبة الله فإن المحب يصير نفسه على مراد من يحب، وأحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج، وقد أثنى الله على الصابرين في عدة آيات، وتقدم في أوائل كتاب الإيمان حديث ‏"‏ الصبر نصف الإيمان ‏"‏ معلقا‏.‏

قال الراغب‏:‏ الصبر الإمساك في ضيق، صبرت الشيء حبسته، فالصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع‏.‏

وتختلف معانيه بتعلقاته‏:‏ فإن كان عن مصيبة سمي صبرا فقط، وإن كان في لقاء عدو سمي شجاعة، وإن كان عن كلام سمي كتمانا، وإن كان عن تعاطي ما نهى عنه سمي عفة‏.‏

قلت‏:‏ وهو المقصود هنا‏.‏

قوله ‏(‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏)‏ كذا للأكثر، ولأبي ذر ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ وفي نسخة ‏"‏ عز وجل‏"‏‏.‏

ومناسبة هذه الآية للترجمة أنها صدرت بقوله تعالى ‏(‏قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم‏)‏ ومن اتقى ربه كف عن المحرمات وفعل الواجبات، والمراد بقوله ‏(‏بغير حساب‏)‏ المبالغة في التكثير‏.‏

قوله ‏(‏وقال عمر‏:‏ وجدنا خير عيشنا بالصبر‏)‏ كذا للأكثر، وللكشميهني بحذف الموحدة وهو بالنصب على نزع الخافض، والأصل في الصبر والباء بمعنى في، وقد وصله أحمد في ‏"‏ كتاب الزهد ‏"‏ بسند صحيح عن مجاهد قال قال عمر ‏"‏ وجدنا خير عيشنا الصبر ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ من طريق أحمد كذلك، وأخرجه عبد الله بن المبارك في ‏"‏ كتاب الزهد ‏"‏ من وجه آخر عن مجاهد به، وأخرجه الحاكم من رواية مجاهد عن سعيد بن المسيب عن عمر‏.‏

والصبر إن عدى بعن كان في المعاصي، وإن عدى بعلى كان في الطاعات، وهو في الآية والحديث وفي أثر عمر شامل للأمرين، والترجمة لبعض ما دل عليه الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لَا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أن أناسا من الأنصار‏)‏ لم أقف على أسمائهم، وتقدم في الزكاة من طريق مالك عن ابن شهاب الإشارة إلى أن منهم أبا سعيد، ووقع عند أحمد من طريق أبي بشر عن أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ إن رجلا كان ذا‏:‏ حاجة فقال له أهله‏:‏ ائت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله، فأتاه ‏"‏ فذكر نحو المتن المذكور هنا‏.‏

ومن طريق عمارة بن غزبة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال ‏"‏ سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله، فأتيته فقال ‏"‏ الحديث، فعرف المراد بقوله ‏"‏ أهله ‏"‏ ومن طريق هلال بن حصين قال ‏"‏ نزلت على أبي سعيد فحدث أنه أصبح وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه‏:‏ ائت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه ‏"‏ الحديث ووقع عند البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه وقع له نحو ما وقع لأبي سعيد، وأن ذلك حين افتتحت قريظة‏.‏

قوله ‏(‏أن ناسا‏)‏ في بعض النسخ ‏"‏ أن أناسا ‏"‏ والمعنى واحد‏.‏

قوله ‏(‏فلم يسأله أحد منهم‏)‏ كذا للكشميهني، ولغيره بحذف الضمير، وتقدم في الزكاة بلفظ ‏"‏ سألوا فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم ‏"‏ وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد ‏"‏ فجعل لا يسأله أحد منهم إلا أعطاه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى نفد‏)‏ بفتح النون وكسر الفاء استئنافية‏.‏

والباء تتعلق بقوله ‏"‏ شيء ‏"‏ ويحتمل أن تتعلق بقوله ‏"‏ أنفق ‏"‏ ووقع في رواية معمر ‏"‏ فقال لهم حين أنفق شيء بيده ‏"‏ وسقطت هذه الزيادة من رواية مالك‏.‏

قوله ‏(‏ما يكون عندي من خير‏)‏ أي مال وما موصولة متضمنة معنى الشرط‏.‏

وفي رواية صوبها الدمياطي ‏"‏ ما يكن ‏"‏ وما حينئذ شرطية وليست الأولى خطأ‏.‏

قوله ‏(‏لا أدخره عنكم‏)‏ بالإدغام وبغيره‏.‏

وفي رواية مالك ‏"‏ فلم ‏"‏ وعنه ‏"‏ فلن أدخره عنكم ‏"‏ أي أجعله ذخيرة لغيركم معرضا عنكم، وداله مهملة، وقيل معجمة‏.‏

قوله ‏(‏وإنه من يستعف‏)‏ كذا للأكثر بتشديد الفاء، وللكشميهني ‏"‏ يستعفف ‏"‏ بفاءين، وقوله ‏"‏يعفه الله ‏"‏ بتشديد الفاء المفتوحة‏.‏

قوله ‏(‏ومن يستغن يغنه الله‏)‏ قدم في رواية مالك الاستغناء على التصبر، ووقع في رواية عبد الرحمن بن أبي سعيد بدل التصبر ‏"‏ ومن استكفى كفاه الله ‏"‏ وزاد ‏"‏ ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ‏"‏ وزاد في رواية هلال ‏"‏ ومن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه، ومن يستعف أو يستغن أحب إلينا ممن يسألنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولن تعطوا عطاء‏)‏ في رواية مالك ‏"‏ وما أعطى أحد عطاء ‏"‏ وأعطى بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏

قوله ‏(‏خيرا وأوسع من الصبر‏)‏ كذا بالنصب في هذه الرواية وهو متجه، ووقع في رواية مالك ‏"‏ هو خير ‏"‏ بالرفع ولمسلم ‏"‏ عطاء خير ‏"‏ قال النووي‏:‏ كذا في نسخ مسلم خير بالرفع وهو صحيح، والتقدير هو خير كما في رواية البخاري، يعني من طريق مالك‏.‏

وفي الحديث الحض على الاستغناء عن الناس والتعفف عن سؤالهم بالصبر والتوكل على الله وانتظار ما يرزقه الله، وأن الصبر أفضل ما يعطاه المرء لكون الجزاء عليه غير مقدر ولا محدود‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ معنى قوله ‏"‏ من يستعف ‏"‏ أي يمتنع عن السؤال، وقوله ‏"‏يعفه الله ‏"‏ أي إنه يجازيه على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته، وقوله ‏"‏ومن يستغن ‏"‏ أي بالله عمن سواه، وقوله ‏"‏يغنه ‏"‏ أي فإنه يعطيه ما يستغنى به عن السؤال ويخلق في قلبه الغنى فإن الغنى غنى النفس كما تقدم تقريره وقوله ‏"‏ ومن يتصبر ‏"‏ أي يعالج نفسه على ترك السؤال ويصبر إلى أن يحصل له الرزق وقوله ‏"‏ يصبره الله ‏"‏ أي فإنه يقويه ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له ويذعن لتحمل الشدة، فعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ لما كان التعفف يقتضي ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى عنهم فيكون صاحبه معاملا لله في الباطن فيقع له الربح على قدر الصدق في ذلك، وإنما جعل الصبر خير العطاء لأنه حبس النفس عن فعل ما تحبه وإلزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ معنى قوله ‏"‏ من يستعفف يعفه الله ‏"‏ أي إن عف عن السؤال ولو لم يظهر الاستغناء عن الناس، لكنه إن أعطى شيئا لم يتركه يملأ الله قلبه غنى بحيث لا يحتاج إلى سؤال، ومن زاد على ذلك فأظهر الاستغناء فتصبر ولو أعطى لم يقبل فذاك أرفع درجة، فالصبر جامع لمكارم الأخلاق‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ معنى قوله ‏"‏ يعفه الله ‏"‏ إما أن يرزقه من المال ما يستغنى به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حتى ترم‏)‏ بكسر الراء، وقوله ‏"‏أو تنتفخ ‏"‏ شك من الراوي وهو بمعناه، وقوله ‏"‏فيقال له ‏"‏ القائل له ذلك عائشة‏.‏

قوله ‏(‏أفلا أكون عبدا شكورا‏)‏ تقدم شرحه مع شرح بقية الحديث مستوفى في أوائل أبواب التهجد، ووجه مناسبته للترجمة أن الشكر واجب وترك الواجب حرام، وفي شغل النفس بفعل الواجب صبر على فعل الحرام‏.‏

والحاصل أن الشكر يتضمن الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، قال بعض الأئمة‏:‏ الصبر يستلزم الشكر لا يتم إلا به، وبالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر، فمن كان في نعمة ففرضه الشكر والصبر، أما الشكر فواضح وأما الصبر فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، أما الصبر فواضح وأما الشكر فالقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء‏.‏

ثم الصبر على ثلاثة أقسام‏:‏ صبر عن المعصية فلا يرتكبها، وصبر على الطاعة حتى يؤديها، وصبر على البلية فلا يشكو ربه فيها‏.‏

والمرء لا بد له من واحدة من هذه الثلاث، فالصبر لازم له أبدا لا خروج له عنه، والصبر سبب في حصول كل كمال، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الأول ‏"‏ إن الصبر خير ما أعطيه العبد ‏"‏ وقال بعضهم‏:‏ الصبر تارة يكون لله، وتارة يكون بالله‏.‏

فالأول الصابر لأمر الله طلبا لمرضاته فيصبر على الطاعة ويصبر عن المعصية، والثاني المفوض لله بأن يبرأ من الحول والقوة ويضيف ذلك إلى ربه‏.‏

وزاد بعضهم الصبر على الله، وهو الرضا بالمقدور، فالصبر لله يتعلق بإلهيته ومحبته، والصبر به يتعلق بمشيئته وإرادته، والثالث يرجع إلى القسمين الأولين عند التحقيق، فإنه لا يخرج عن الصبر على أحكامه الدينية وهي أوامره ونواهيه، والصبر على ابتلائه وهو أحكامه الكونية والله أعلم