فصل: باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ مقصوده بهذه الترجمة تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى، فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم كما تصح بالذات، وأما شبهة القدرية التي أوردوها على تعدد الأسماء، فالجواب عنها أن الاسم يطلق ويراد به المسمى كما قررناه، ويطلق ويراد به التسمية وهو المراد بحديث الأسماء‏.‏

وذكر في الباب تسعة أحاديث كلها في التبرك باسم الله والسؤال به والاستعاذة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ تَابَعَهُ يَحْيَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ زُهَيْرٌ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في القول عند النوم وقد تقدم شرحه مستوفى في الدعوات وفيه ‏"‏ باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ أضاف الوضع إلى الاسم، والرفع إلى الذات فدل على أن المراد بالاسم الذات وبالذات يستعان في الرفع والوضع لا باللفظ‏.‏

قوله ‏(‏عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة‏)‏ قال الدار قطني في غرائب مالك بعد أن أخرجه من طرق إلى ‏"‏ عبد العزيز بن عبد الله ‏"‏ وهو الأويسي شيخ البخاري فيه ‏"‏ لا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الأويسي ‏"‏ ورواه إبراهيم بن طهمان عن مالك عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏

قوله ‏(‏فلينفضه بصنفة ثوبه‏)‏ الصنفة‏:‏ بفتح المهملة وكسر النون بعدها فاء طرته، وقيل طرفه، وقيل جانبه، وقيل حاشيته التي فيها هدبه‏.‏

وقال في النهاية طرفه‏:‏ الذي يلي طرته‏.‏

قلت‏:‏ وتقدم في الدعوات بلفظ ‏"‏ داخلة إزاره ‏"‏ وتقدم هناك معناها، فالأولى هنا أن يقال المراد طرفه الذي من الداخل جمعا بين الروايتين‏.‏

قوله ‏(‏ثلاث مرات‏)‏ هكذا زادها مالك في الروايتين الموصولة والمرسلة وتابعه عبد الله بن عمر بسكون الموحدة، وقد فرق بينهما الدار قطني في روايته المذكورة عن الأويسي عنهما، وحذف البخاري عبد الله بن عمر العمري لضعفه واقتصر على مالك، وقد تقدم البحث في جواز حذف الضعيف، والاقتصار على الثقة إذا اشتركا في الرواية في ‏"‏ كتاب الاعتصام‏"‏، وصنيع البخاري يقتضي الجواز لكن لم يطرد له في ذلك عمل فإنه حذفه تارة كما هنا، وأثبته أخرى لكن كنى عنه ابن فلان كما مضى التنبيه عليه هناك، ويمكن الجمع بأنه حيث حذفه كان اللفظ الذي ساقه للذي اقتصر عليه بخلاف الآخر‏.‏

قوله ‏(‏فاغفر لها‏)‏ تقدم في الدعوات بلفظ ‏"‏ فارحمها ‏"‏ وجمع بينهما إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري، أخرجه المخلص في أواخر الأول من فوائده‏.‏

قوله عقبه ‏(‏تابعه يحيى‏)‏ يريد ابن سعيد القطان و ‏"‏ عبيد الله ‏"‏ هو ابن عمر العمري، و ‏"‏ سعيد ‏"‏ هو المقبري، و ‏"‏ زهير ‏"‏ هو ابن معاوية، و ‏"‏ أبو ضمرة ‏"‏ هو أنس بن عياض، والمراد بإيراد هذه التعاليق بيان الاختلاف على سعيد المقبري هل روى الحديث عن أبي هريرة بلا واسطة أو بواسطة أبيه، وقد تقدم بيان من وصلها كلها في ‏"‏ كتاب الدعوات‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ

الشرح‏:‏

حديث حذيفة وأبي ذر في القول عند النوم أيضا وفيه ‏"‏ اللهم باسمك أحيا وأموت ‏"‏ وقد تقدم شرحهما في الدعوات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ بِاسْمِكَ نَمُوتُ وَنَحْيَا فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ

الشرح‏:‏

حديث حذيفة وأبي ذر في القول عند النوم أيضا وفيه ‏"‏ اللهم باسمك أحيا وأموت ‏"‏ وقد تقدم شرحهما في الدعوات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في القول عند الجماع وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب النكاح ‏"‏ وقوله ‏"‏ فإنه إن يقدر بينهما ولد ‏"‏ المراد إن كان قدر لأن التقدير أزلي لكن عبر بصيغة المضارعة بالنسبة للتعلق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ أُرْسِلُ كِلَابِي الْمُعَلَّمَةَ قَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ وَإِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ

الشرح‏:‏

حديث عدي في الصيد، قد تقدم شرحه في الذبائح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَا هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا قَالَ اذْكُرُوا أَنْتُمْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في الأمر بالتسمية عند الأكل، وقد تقدم في الذبائح أيضا، وقوله فيه ‏"‏ تابعه محمد بن عبد الرحمن ‏"‏ هو الطفاوي، و ‏"‏ عبد العزيز بن محمد ‏"‏ هو الدراوردي، و ‏"‏ أسامة بن حفص ‏"‏ هو المدني، وتقدم في الذبائح بيان من وصلها، وطريق الدراوردي وصلها محمد بن أبي عمر العدني في مسنده عنه، وتقدم القول في هذا السند بأشبع من هذا هناك‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ أحدهما وقع قوله ‏"‏ تابعه ‏"‏ إلخ‏.‏

هنا عقب حديث أبي هريرة المبدأ بذكره في هذا الباب عند كريمة والأصلي وغيرهما والصواب ما وقع عند أبي ذر وغيره أن محل ذلك عقب حديث عائشة وهو سادس أحاديث الباب‏.‏

ثانيهما‏:‏ وقع في هذه الرواية ‏"‏ أن هنا أقواما حديثا عهدهم بالشرك يأتونا ‏"‏ كذا فيه بنون واحدة وهي لغة من يحذف النون مع الرفع، وجوز الكرماني أن يكون بتشديد النون مراعاة للغة المشهورة، لكن التشديد في مثل هذا قليل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ

الشرح‏:‏

حديث أنس في الأضحية بكبشين، وفيه ‏"‏ فسمى وكبر ‏"‏ وقد تقدم شرحه في الأضاحي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث جندب في منع الذبح في العيد قبل الصلاة، وفيه قوله ‏"‏ فليذبح بسم الله ‏"‏ وقد تقدم شرحه في الضحايا أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر ‏"‏ لا تحلفوا بآبائكم ‏"‏ تقدم شرحه في الأيمان والنذور، قال نعيم بن حماد في الرد على الجهمية‏:‏ دلت هذه الأحاديث‏.‏

يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته، والسؤال بها مثل أحاديث الباب، وحديث عائشة، وأبي سعيد ‏"‏ بسم الله أرقيك ‏"‏ وكلاهما عند مسلم، وفي الباب عن عبادة وميمونة وأبي هريرة وغيرهم عند النسائي وغيره بأسانيد جياد، على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقا لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى ‏(‏فاستعذ بالله‏)‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وإذا استعذت فاستعذ بالله ‏"‏ وقال الإمام أحمد في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ قالت الجهمية لمن قال إن الله لم يزل بأسمائه وصفاته، قلتم بقول النصارى حيث جعلوا معه غيره، فأجابوا بأنا نقول إنه واحد بأسمائه وصفاته، فلا نصف إلا واحدا بصفاته كما قال تعالى ‏(‏ذرني ومن خلقت وحيدا‏)‏ وصفه بالوحدة مع أنه كان له لسان وعينان وأذنان وسمع وبصر ولم يخرج بهذه الصفات عن كونه واحدا ولله المثل الأعلى‏.‏

*3*باب مَا يُذْكَرُ فِي الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِي اللَّهِ

وَقَالَ خُبَيْبٌ وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله عز وجل‏)‏ أي ما يذكر في ذات الله ونعوته من تجويز إطلاق ذلك كأسمائه، أو منعه لعدم ورود النص به فأما الذات فقال الراغب‏:‏ هي تأنيث ذو، وهي كلمة يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع وتضاف إلى الظاهر دون المضمر وتثنى وتجمع ولا يستعمل شيء منها إلا مضافا، وقد استعاروا لفظ الذات لعين الشيء واستعملوها مفردة ومضافة وأدخلوا عليها الألف واللام وأجروها مجرى النفس والخاصة، وليس ذلك من كلام العرب انتهى‏.‏

وقال عياض ذات الشيء نفسه وحقيقته، وقد استعمل أهل الكلام الذات بالألف واللام، وغلطهم أكثر النحاة وجوزه بعضهم لأنها ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء، وجاء في الشعر لكنه شاذ، واستعمال البخاري لها دال على ما تقدم من أن المراد بها نفس الشيء على طريقة المتكلمين في حق الله تعالى ففرق بين النعوت والذات‏.‏

وقال ابن برهان‏:‏ إطلاق المتكلمين الذات في حق الله تعالى من جهلهم، لأن ذات تأنيث ذو، وهو جلت عظمته لا يصح له إلحاق تاء التأنيث، ولهذا امتنع أن يقال علامة وإن كان أعلم العالمين‏.‏

قال‏:‏ وقولهم الصفات الذاتية جهل منهم أيضا لأن النسب إلى ذات‏:‏ ذوي‏.‏

وقال التاج الكندي في الرد على الخطيب بن نباتة في قوله كنه ذاته ذات، بمعنى صاحبة تأنيث ذو وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين، وتعقب بأن الممتنع استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى واستعملت بمعنى الاسمية فلا محذور لقوله تعالى ‏(‏إنه عليم بذات الصدور‏)‏ أي بنفس الصدور، وقد حكى المطرزي كل ذات شيء وليس كل شيء ذاتا، وأنشد أبو الحسين فارس‏:‏ فنعم ابن عم القوم في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله وفر ويحتمل أن تكون ‏"‏ ذات ‏"‏ هنا مقحمة كما في قولهم ذات ليلة، وقد ذكرت ما فيه في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ في باب العظة بالليل‏.‏

وقال النووي في تهذيبه‏:‏ وأما قولهم - أي الفقهاء - في باب الأيمان فإن حلف بصفة من صفات الذات، وقول المهذب اللون كالسواد والبياض أعراض تحل الذات فمرادها بالذات الحقيقة وهو اصطلاح المتكلمين وقد أنكره بعض الأدباء وقال لا يعرف في لغة العرب ذات بمعنى حقيقة، قال وهذا الإنكار منكر فقد قال الواحدي في قوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم‏)‏ قال ثعلب أي الحالة التي بينكم فالتأنيث عنده لحالة‏.‏

وقال‏:‏ الزجاج معنى ذات حقيقة والمراد بالبين الوصل، فالتقدير‏:‏ فأصلحوا حقيقة وصلكم، قال فذات عنده بمعنى النفس‏.‏

وقال غيره ذات هنا كناية عن المنازعة فأمروا بالموافقة، وتقدم في أواخر النفقات شيء آخر في معنى ذات يده، وأما ‏"‏ النعوت ‏"‏ فإنها جمع نعت وهو الوصف، يقال نعت فلان نعتا مثل وصفه وصفا وزنه ومعناه، وقد تقدم البحث في إطلاق الصفة في أوائل ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ وأما ‏"‏ الأسامي ‏"‏ فهي جمع اسم وتجمع أيضا على أسماء قال ابن بطال أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب أحدها يرجع إلى ذاته وهو الله، والثاني يرجع إلى صفة قائمة به كالحي، والثالث يرجع إلى فعله كالخالق؛ وطريق إثباتها السمع، والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات الذات قائمة به وصفات الفعل ثابتة له بالقدرة ووجود المفعول بإرادته جل وعلا‏.‏

قوله ‏(‏وقال خبيب‏)‏ بالمعجمة والموحدة مصغر هو ابن عدي الأنصاري‏.‏

قوله ‏(‏وذلك في ذات الإله‏)‏ يشير إلى البيت المذكور في الحديث المساق في الباب، وقد تقدم شرحه مستوفى في المغازي، وتقدم في ‏"‏ كتاب الجهاد ‏"‏ في باب هل يستأسر الرجل‏.‏

قوله ‏(‏فذكر الذات باسمه تعالى‏)‏ أي ذكر الذات متلبسا باسم الله، أو ذكر حقيقة الله بلفظ الذات قاله الكرماني‏.‏

قلت‏:‏ وظاهر لفظه أن مراده أضاف لفظ الذات إلى اسم الله تعالى، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فكان جائزا‏.‏

وقال الكرماني ‏"‏ قيل ليس فيه ‏"‏ يعني قوله ذات الإله دلالة على الترجمة لأنه لم يرد بالذات الحقيقة التي هي مراد البخاري وإنما مراده وذلك في طاعة الله أو في سبيل الله، وقد يجاب بأن غرضه جواز إطلاق الذات في الجملة انتهى‏.‏

والاعتراض أقوى من الجواب وأصل الاعتراض للشيخ تقي الدين السبكي فيما أخبرني به عنه شيخنا أبو الفضل الحافظ، وقد ترجم البيهقي في الأسماء والصفات ما جاء في الذات، وأورد حديث أبي هريرة المتفق عليه في ذكر إبراهيم عليه السلام ‏"‏ إلا ثلاث كذبا اثنتين في ذات الله ‏"‏ وتقدم شرحه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب، وحديث ابن عباس ‏"‏ تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله ‏"‏ موقوف وسنده جيد، وحديث أبي الدرداء ‏"‏ لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ‏"‏ ورجاله ثقات إلا أنه منقطع، ولفظ ذات في الأحاديث المذكورة بمعنى من أجل أو بمعنى حق، ومثله قول حسان‏:‏ وإن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل وهي كقوله تعالى حكاية عن قول القائل‏:‏ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، فالذي يظهر أن المراد جواز إطلاق لفظ ذات لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون ولكنه غير مردود إذا عرف أن المراد به النفس لثبوت لفظ النفس في الكتاب العزيز، ولهذه النكتة عقب المصنف بترجمة النفس، وسيأتي في باب الوجه أنه ورد بمعنى الرضا وقال ابن دقيق العيد في العقيدة‏:‏ تقول في الصفات المشكلة أنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه‏.‏

وما كان منها معناه ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب حملناه عليه لقوله ‏"‏ على ما فرطت في جنب الله ‏"‏ فإن المراد به في استعمالهم الشائع حق الله فلا يتوقف في حمله عليه، وكذا قوله ‏"‏ إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ‏"‏ فإن المراد به إرادة قلب ابن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه فيه، وكذا قوله تعالى ‏(‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏)‏ معناه خرب الله بنيانهم، وقوله ‏(‏إنما نطعمكم لوجه الله‏)‏ معناه لأجل الله، وقس على ذلك وهو تفصيل بالغ قل من تيقظ له‏.‏

وقال غيره اتفق المحققون على أن حقيقة الله مخالفة لسائر الحقائق، وذهب بعض أهل الكلام إلى أنها من حيث إنها ذات مساوية لسائر الذوات، وإنما تمتاز عنها بالصفات التي تختص بها كوجوب الوجود، والقدرة التامة، والعلم التام، وتعقب بأن الأشياء المتساوية في تمام الحقيقة يجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ‏"‏ فيلزم من دعوى التساوي المحال، وبأن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال وبالله التوفيق، ولو لم يكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازما بتأويله بخلاف صاحب التفويض‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ

وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه، وقول الله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏)‏ قال الراغب نفسه‏:‏ ذاته، وهذا وإن كان يقتضي المغايرة من حيث أنه مضاف ومضاف إليه فلا شيء من حيث المعنى سوى واحد سبحانه وتعالى عن الأثنينية من كل وجه، وقيل إن إضاقة النفس هنا إضافة ملك، والمراد بالنفس نفوس عباده انتهى ملخصا، ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه‏.‏

وترجم البيهقي في الأسماء والصفات النفس وذكر هاتين الآيتين، وقوله تعالى ‏(‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏واصطنعتك لنفسي‏)‏ ومن الأحاديث الحديث الذي فيه ‏"‏ أنت كما أثنيت على نفسك ‏"‏ والحديث الذي فيه ‏"‏ إني حرمت الظلم على نفسي ‏"‏ وهما في صحيح مسلم‏.‏

قلت‏:‏ وفيه أيضا الحديث الذي فيه ‏"‏ سبحان الله رضا نفسه ‏"‏ ثم قال‏:‏ والنفس في كلام العرب على أوجه منها الحقيقة كما يقولون في نفس الأمر وليس للأمر نفس منفوسة، ومنها الذات قال وقد قيل في قوله تعالى ‏(‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏)‏ أن معناه تعلم ما أكنه وما أسره ولا أعلم ما تسره عني، وقيل ذكر النفس هنا للمقابلة والمشاكلة وتعقب بالآية التي في أول الباب فليس فيها مقابلة‏.‏

وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى ‏(‏ويحذركم الله نفسه‏)‏ أس إياه وحكى صاحب المطالع في قوله تعالى ‏(‏ولا أعلم ما في نفسك‏)‏ ثلاثة أقوال أحدها‏:‏ لا أعلم ذاتك، ثانيها‏:‏ لا أعلم ما في غيبك، ثالثها‏:‏ لا أعلم ما عندك، وهو بمعنى قول غيره لا أعلم معلومك أو إرادتك أو سرك أو ما يكون منك، ثم ذكر البخاري في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث ‏"‏ عبد الله ‏"‏ وهو ابن مسعود ‏"‏ ما من أحد أغير من الله - وفيه - وما أحد أحب إليه المدح من الله ‏"‏ كذا وقع هنا مختصرا، وتقدم في تفسير سورة الأنعام من طريق ‏"‏ أبي وائل ‏"‏ وهو شقيق بن سلمة المذكور هنا أتم منه، وهذا الحديث مداره في الصحيحين على أبي وائل، وأخرجه مسلم في رواية عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود نحوه، وزاد فيه ‏"‏ ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل ‏"‏ وهذه الزيادة عند المصنف في حديث المغيرة الآتي في باب ‏"‏ لا شخص أغير من الله ‏"‏ قال ابن بطال في هذه الآيات والأحاديث إثبات النفس لله، وللنفس معان، والمراد ينفس الله ذاته وليس بأمر مزيد عليه فوجب أن يكون هو، وأما قوله ‏"‏ أغير من الله ‏"‏ فسبق الكلام عليه في ‏"‏ كتاب الكسوف ‏"‏ وقيل غيرة الله كراهة إتيان الفواحش، أي عدم رضاه بها لا التقدير، وقيل الغضب لازم الغيرة ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة وقال الكرماني‏:‏ ليس في حديث ابن مسعود هذا ذكر النفس، ولعله أقام استعمال أحد مقام النفس لتلازمهما في صحة استعمال كل واحد منهما مقام الآخر، ثم قال والظاهر أن هذا الحديث كان قبل هذا الباب فنقله الناسخ إلى هذا الباب انتهى، وكل هذا غفلة عن مراد البخاري، فإن ذكر النفس ثابت في هذا الحديث الذي أورده، وإن كان لم يقع في هذه الطريق لكنه أشار إلى ذلك كعادته، فقد أورده في تفسير سورة الأنعام بلفظ ‏"‏ لا شيء ‏"‏ وفي تفسير سورة الأعراف بلفظ ‏"‏ ولا أحد ‏"‏ ثم اتفقا على ‏"‏ أحب إليه المدح من الله ‏"‏ ولذلك مدح نفسه، وهذا القدر هو المطابق للترجمة وقد كثر منه أن يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده ولو لم يكن ذلك القدر موجودا في تلك الترجمة‏.‏

وقد سبق الكرماني إلى نحو ذلك ابن المنير فقال‏:‏ ترجم على ذكر النفس في حق الباري وليس في الحديث الأول للنفس ذكر، فوجه مطابقته أنه صدر الكلام بأحد، وأحد الواقع في النفي عبارة عن النفس على وجه مخصوص بخلاف أحد الواقع في قوله تعالى ‏(‏قل هو الله احد‏)‏ انتهى، وخفي عليه ما خفي على الكرماني مع أنه تفطن لمثل ذلك في بعض المواضع، ثم قال ابن المنير قول القائل ما في الدار أحد لا يفهم منه إلا نفي الأناسي، ولهذا كان قولهم ما في الدار أحد إلا زيدا استثناء من الجنس ومقتضى الحديث إطلاقه على الله لأنه لولا صحة الإطلاق ما انتظم الكلام كما ينتظم‏:‏ ما أحد أعلم من زيد فإن زيدا من الأحدين بخلاف ما أحد أحسن من ثوبي فإنه ليس منتظما لأن الثوب ليس من الأحدين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه‏)‏ كذا لأبي ذر وسقطت الواو لغيره، وعلى الأول فالجملة حالية، وعلى الثاني فيكتب على نفسه بيان لقوله ‏"‏ كتب ‏"‏ والمكتوب هو قوله ‏"‏ إن رحمتي ‏"‏ إلخ، وقوله ‏"‏وهو ‏"‏ أي المكتوب وضع بفتح فسكون أي موضوع، ووقع كذلك في الجمع للحميدي بلفظ موضوع وهي رواية الإسماعيلي فيما أخرجه من وجه آخر عن أبي حمزة المذكور في السند وهو بالمهملة والزاي واسمه محمد بن ميمون السكري، وحكى عياض عن رواية أبي ذر وضع بالفتح على أنه فعل ماض مبني للفاعل، ورأيته في نسخة معتمدة بكسر الضاد مع التنوين، وقد مضى شرح هذا الحديث في أوائل بدء الخلق، ويأتي شيء من الكلام عليه في باب ‏(‏وكان عرشه على الماء‏)‏ وفي باب ‏(‏بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ‏)‏ أواخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وأما قوله ‏"‏ عنده ‏"‏ فقال ابن بطال عند في اللغة للمكان، والله منزه عن الحلول في المواضع لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق بالله، فعلى هذا قيل معناه أنه سبق علمه بإثابة من يعمل بطاعته وعقوبة من يعمل بمعصيته، ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده ‏"‏ أنا عند ظن عبدي بي ‏"‏ ولا مكان هناك قطعا‏.‏

وقال الراغب عند لفظ موضوع للقرب ويستعمل في المكان وهو الأصل، ويستعمل في الاعتقاد‏:‏ تقول عندي في كذا كذا أي أعتقده، ويستعمل في المرتبة ومنه ‏(‏أحياء عند ربهم‏)‏ وأما قوله ‏(‏إن كان هذا هو الحق من عندك‏)‏ فمعناه من حكمك‏.‏

وقال ابن التين معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش، وأما كتبه فليس للاستعانة لئلا ينساه فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما كتبه من أجل الملائكة الموكلين بالمكلفين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي‏)‏ أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به‏.‏

وقال الكرماني وفي السياق إشارة إلى ترجيح جان الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر ويؤيد ذلك حديث ‏"‏ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ‏"‏ وهو عند مسلم من حديث جابر‏.‏

وأما قبل ذلك ففي الأول أقوال ثالثها الاعتدال وقال ابن أبي جمرة المراد بالظن هنا العلم وهو كقوله ‏(‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏)‏ وقال القرطبي في المفهم قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده‏.‏

وقال ويؤيده قوله في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور ‏"‏ فليظن بي عبدي ما شاء ‏"‏ قال‏:‏ وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة‏.‏

قوله ‏(‏وأنا معه إذا ذكرني‏)‏ أي بعلمي وهو كقوله ‏(‏إنني معكما أسمع وأرى‏)‏ والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى ‏(‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم - إلى قوله - إلا هو معهم أينما كانوا‏)‏ وقال ابن أبي جمرة معناه فأنا معه حسب ما قصد من ذكره لي قال‏:‏ ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط أو بالقلب فقط أو بهما أو بامتثال الأمر واجتناب النهي، قال والذي يدل عليه الإخبار أن الذكر على نوعين أحدهما مقطوع لصاحبه بما تضمنه هذا الخبر والثاني على خطر، قال والأول يستفاد من قوله تعالى ‏(‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏)‏ والثاني من الحديث الذي فيه ‏"‏ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا ‏"‏ لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل مما هو فيه فإنه يرجى له‏.‏

قوله ‏(‏فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‏)‏ أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا‏.‏

وقال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى ‏(‏فاذكروني أذكركم‏)‏ ومعناه اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام وقال تعالى ‏(‏ولذكر الله أكبر‏)‏ أي أكبر العبادات فمن ذكره وهو خائف آمنه أو مستوحش آنسه قال تعالى ‏(‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏وإن ذكرني في ملأ‏)‏ بفتح الميم واللام مهموز أي جماعة ‏(‏ذكرته في ملأ خير منهم‏)‏ قال بعض أهل العلم يستفاد منه أن الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والتقدير إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا وإن ذكرني جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى وقال ابن بطال هذا نص في أن الملائكة أفضل من بني آدم وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى ذلك شواهد من القرآن مثل ‏(‏إلا أن تكونا ملك أو تكونا من الخالدين‏)‏ والخالد أفضل من الفاني فالملائكة أفضل من بني آدم وتعقب بأن المعروف عن جمهور أهل السنة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقالوا حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس ‏(‏أرأيت هذا الذي كرمت علي‏)‏ ومنها قوله تعالى ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة، ومنها قوله تعالى ‏(‏إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏)‏ ومنها قوله تعالى ‏(‏وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض‏)‏ فدخل في عمومه الملائكة، والمسخر له أفضل من المسخر، ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب؛ فكانت عبادتهم أشق، وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة والاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام فلا يسلم منهم من إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة ومجاهدات كثيرة، وأما أدلة الآخرين فقد قيل إن حديث الباب أقوى ما استدل به لذلك للتصريح بقوله فيه في ملأ خير منهم والمراد بهم الملائكة، حتى قال بعض الغلاة في ذلك وكم من ذاكر لله في ملأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله في ملأ خير منهم، وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبر المذكور ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فإنهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة، وأجاب آخر وهو أقوى من الأول بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع وهذا الجواب ظهر لي وظننت أنه مبتكر‏.‏

ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى فقال إن الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرا من الذكر في الأول لأن الله وهو الذاكر فيهم والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم، ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى ‏(‏من كان عدوا لله وملائكته ورسله - شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم - الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس‏)‏ وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان في مثل قوله ‏(‏ومنك ومن نوح وإبراهيم‏)‏ فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى ‏(‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون‏)‏ وبالغ الزمخشري فادعى أن دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني فقال في قوله تعالى ‏(‏ولا الملائكة المقربون‏)‏ أي ولا من هو أعلى قدرا من المسيح، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، قال‏:‏ ولا يقتضي علم المعاني غير هذا من حيث إن الكلام إنما سيق للرد على النصارى لغلوهم في المسيح، فقيل لهم لن يترفع فيه المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع درجة منه انتهى ملخصا، وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازع فيه وإنما هو بحسب المقام، وذلك أن كلا من الملائكة والمسيح عبد من دون الله، فرد عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه لم يتكبر عن عبادة الله، وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا تكبر، والنفوس لما غاب عنها أهيب ممن تشاهده، ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها من الزهد في الدنيا والاطلاع على المغيبات وإحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة، فإن كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأولى، وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى، ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازع فيها‏.‏

وقال البيضاوي احتج بهذا العطف من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء‏.‏

وقال هي مساقة للرد على النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية، وذلك يقتضي أن يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، وجوابه أن الآية سيقت للرد على عبدة المسيح والملائكة، فأريد بالعطف المبالغة باعتبار الكثرة دون التفضيل، كقول القائل أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس، وعلى تقدير إرادة التفضيل فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش، بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا‏.‏

وقال الطيبي لا تتم لهم الدلالة إلا إن سلم أن الآية سيقت للرد على النصارى فقط فيصح‏:‏ لن يترفع المسيح عن العبودية ولا من هو أرفع منه، والذي يدعي ذلك يحتاج إلى إثبات أن النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح، وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون فيه الإلهية فلا يتم استدلال من استدل به، قال وسياقه الآية من أسلوب التتميم والمبالغة لا للترقي، وذلك أنه قدم قوله ‏(‏إنما الله إله واحد - إلى قوله - وكيلا‏)‏ فقرر الوحدانية والمالكية والقدرة التامة، ثم أتبعه بعدم الاستنكاف، فالتقدير لا يستحق من اتصف بذلك أن يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى إلها لاعتقادكم فيه الكمال ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم آلهة لاعتقادهم فيهم الكمال‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر ذلك البغوي ملخصا، ولفظه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام عيسى بل ردا على الذين يدعون أن الملائكة آلهة فرد عليهم كما رد على النصارى الذين يدعون التثليث، ومنها قوله تعالى ‏(‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، لا أقول لكم إني ملك‏)‏ ففي أن يكون ملكا، فدل على أنهم أفضل، وتعقب بأنه إنما نفى ذلك لكونهم طلبوا منه الخزائن وعلم الغيب؛ وأن يكون بصفة الملك من ترك الأكل والشرب والجماع، وهو من نمط إنكارهم أن يرسل الله بشرا مثلهم فنفى عنه أنه ملك، ولا يستلزم ذلك التفضيل، ومنها أنه سبحانه لما وصف جبريل ومحمدا، قال في جبريل ‏(‏إنه لقول رسول كريم‏)‏ وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏وما صاحبكم بمجنون‏)‏ وبين الوصفين بون بعيد، وتعقب بأن ذلك إنما سيق للرد على من زعم أن الذي يأتيه شيطان فكان وصف جبريل بذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وصف به جبريل هنا وأعظم منه، وقد أفرط الزمخشري في سوء الأدب هنا‏.‏

وقال كلاما يستلزم تنقيص المقام المحمدي، وبالغ الأئمة في الرد عليه في ذلك وهو من زلاته الشنيعة‏.‏

قوله ‏(‏وإن تقرب إلي شبرا‏)‏ في رواية المستملي والسرخسي ‏"‏ بشبر ‏"‏ بزيادة موحدة في أوله، وسيأتي شرحه في أواخر ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله عز وجل‏:‏ كل شيء هالك إلا وجهه‏)‏ ذكر في حديث جابر في نزول قوله تعالى ‏(‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا‏)‏ الآية، وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الأنعام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ فَقَالَ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا أَيْسَرُ

الشرح‏:‏

حديث جابر في نزول قوله تعالى ‏(‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا‏)‏ الآية، وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الأنعام، وقوله في آخره ‏"‏ هذا أيسر ‏"‏ في رواية ابن السكن ‏"‏ هذه ‏"‏ وسقط لفظ الإشارة من رواية الأصيلي والمراد منه حديث جابر في نزول قوله تعالى ‏(‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا‏)‏ الآية، وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الأنعام، وقوله في آخره ‏"‏ هذا أيسر ‏"‏ في رواية ابن السكن ‏"‏ هذه ‏"‏ وسقط لفظ الإشارة من رواية الأصيلي والمراد منه قوله فيه ‏"‏ أعوذ بوجهك ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ في هذه الآية والحديث دلالة على أن لله وجها وهو من صفة ذاته، وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين، كما نقول إنه عالم ولا نقول إنه كالعلماء الذين نشاهدهم‏.‏

وقال غيره دلت الآية على أن المراد بالترجمة الذات المقدسة، ولو كانت صفة من صفات الفعل لشملها الهلاك كما شمل غيرها من الصفات وهو محال‏.‏

وقال الراغب أصل الوجه‏:‏ الجارحة المعروفة، ولما كان الوجه أول ما يستقبل وهو أشرف ما في ظاهر البدن، استعمل في مستقبل كل شيء وفي مبدئه وفي إشراقه، فقيل وجه النهار، وقيل وجه كذا أي ظاهره، وربما أطلق الوجه على الذات كقولهم كرم الله وجهه، وكذا قوله تعالى ‏(‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏)‏ وقوله ‏(‏كل شيء هالك إلا وجهه‏)‏ وقيل إن لفظ الوجه صلة، والمعنى كل شيء هالك إلا هو وكذا ‏(‏ويبقى وجه ربك‏)‏ وقيل المراد بالوجه القصد، أي يبقى ما أريد به وجهه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الأخير نقل عن سفيان وغيره وقد تقدم ما ورد فيه في أول تفسير سورة القصص وقال الكرماني قيل المراد بالوجه في الآية والحديث الذات أو الوجود أو لفظه زائد أو الوجه الذي لا كالوجوه، لاستحالة حمله على العضو المعروف، فتعين التأويل أو التفويض‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ تكرر ذكر الوجه في القرآن والسنة الصحيحة، وهو في بعضها صفة ذات كقوله‏:‏ إلا رداء الكبرياء على وجهه وهو ما في صحيح البخاري عن أبي موسى، وفي بعضها بمعنى من أجل كقوله ‏(‏إنما نطعمكم لوجه الله‏)‏ وفي بعضها بمعنى الرضا كقوله ‏(‏يريدون وجهه‏)‏ ، ‏(‏إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى‏)‏ وليس المراد الجارحة جزما والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي تُغَذَّى

وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ولتصنع على عيني‏:‏ تغذي‏)‏ كذا وقع في رواية المستملي والأصيلي بضم التاء وفتح الغين المعجمة بعدها معجمة ثقيلة من التغذية، ووقع في نسخة الصغاني بالدال المهملة وليس بفتح أوله على حذف إحدى التاءين فإنه تفسير تصنع، وقد تقدم في تفسير سورة طه قال ابن التين هذا التفسير لقتادة، ويقال صنعت الفرس إذا أحسنت القيام عليه‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى تجري بأعيننا‏)‏ أي بعلمنا وذكر فيه حديثي ابن عمر ثم أنس في ذكر الدجال، وقد تقدما مشروحين في ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ وفيهما أن الله ليس بأعور، وقوله هنا وأشار بيده إلى عينه كذا للأكثر عن موسى ابن إسماعيل عن جويرية، وذكره أبو مسعود في الأطراف عن مسدد بدل موسى والأول هو الصواب، وقد أخرجه عثمان الدارمي في كتاب الرد على بشر المريسي عن موسى بن إسماعيل مثله‏.‏

ورواه عبد الله بن محمد بن أسماء عن عمه جويرية بدون الزيادة التي في آخره، أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان في مسنديهما عنه، وأخرجه الإسماعيلي عنهما قال الراغب‏:‏ العين الجارحة، ويقال للحافظ للشيء المراعى له‏:‏ عين، ومنه فلان بعيني أي أحفظه، ومنه قوله تعالى ‏(‏واصنع الفلك بأعيننا‏)‏ أي نحن نراك ونحفظك، ومثله ‏(‏تجري بأعيننا‏)‏ وقوله ‏(‏ولتصنع على عيني‏)‏ أي بحفظي، قال وتستعار العين لمعان أخرى كثيرة‏.‏

وقال ابن بطال احتجت المجسمة بهذا الحديث‏.‏

وقالوا في قوله وأشار بيده إلى عينه دلالة على أن عينه كسائر الأعين، وتعقب باستحالة الجسمية عليه لأن الجسم حادث وهو قديم؛ فدل على أن المراد نفي النقص عنه انتهى، وقد تقدم شيء من هذا في باب قوله تعالى ‏(‏وكان الله سميعا بصيرا‏)‏ وقال البيهقي‏:‏ منهم من قال العين صفة ذات كما تقدم في الوجه، ومنهم من قال‏:‏ المراد بالعين الرؤية، فعلى هذا قوله ‏(‏ولتصنع على عيني‏)‏ أي لتكون بمرأى مني، وكذا قوله ‏(‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏)‏ أي بمرأى منا والنون للتعظيم، ومال إلى ترجيح الأول لأنه مذهب السلف، ويتأيد بما وقع في الحديث وأشار بيده فإن فيه إيماء إلى الرد على من يقول معناها القدرة، صرح بذلك قول من قال إنها صفة ذات وقال ابن المنير وجه الاستدلال على إثبات العين لله من حديث الدجال من قوله ‏(‏إن الله ليس بأعور‏)‏ من جهة أن العور عرفا عدم العين وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها وهو وجود العين، وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة، قال ولأهل الكلام في هذه الصفات كالعين والوجه واليد ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أنها صفات ذات أثبتها السمع ولا يهتدي إليها العقل، والثاني أن العين كناية عن صفة البصر، واليد كناية عن صفة القدرة، والوجه كناية عن صفة الوجود، والثالث إمرارها على ما جاءت مفوضا معناها إلى الله تعالى‏.‏

وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له، أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله الاستواء والنزول والنفس واليد والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، قال الطيبي‏:‏ هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح‏.‏

وقال غيره لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم‏)‏ ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز مع حضه على التبليغ عنه بقوله ‏"‏ ليبلغ الشاهد الغائب ‏"‏ حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحوله وصفاته وما فعل بحضرته، فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها، ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى ‏(‏ليس كمثله شيء‏)‏ فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم وبالله التوفيق‏.‏

وقد سئلت هل يجوز لقارئ هذا الحديث أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبت وبالله التوفيق أنه إن حضر عنده من يوافقه على معتقده وكان يعتقد تنزيه الله تعالى عن صفات الحدوث وأراد التأسي محضا جاز، والأولى به الترك خشية أن يدخل على من يراه شبهة التشبيه تعالى الله عن ذلك، ولم أر في كلام أحد من الشراح في حمل هذا الحديث على معنى خطر لي فيه إثبات التنزيه، وحسم مادة التشبيه عنه، وهو أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية، وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى هو الخالق البارئ المصور‏)‏ كذا للأكثر والتلاوة ‏(‏هو الله الخالق‏)‏ إلخ، وثبت كذلك في بعض النسخ من رواية كريمة قال الطيبي‏:‏ قيل إن الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم فإن ‏"‏ الخالق ‏"‏ من الخلق، وأصله التقدير المستقيم ويطلق على الإبداع وهو إيجاد الشيء على غير مثال كقوله تعالى ‏(‏خلق السموات والأرض‏)‏ وعلى التكوين كقوله تعالى ‏(‏خلق الإنسان من نطفة‏)‏ و ‏"‏ البارئ ‏"‏ من البرء، وأصله خلوص الشيء عن غيره إما على سبيل التقصي منه، وعليه قولهم برأ فلان من مرضه، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وإما على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النسمة، وقيل البارئ الخالق البرئ من التفاوت والتنافر المخلين بالنظام، و ‏"‏ المصور ‏"‏ مبدع صور المخترعات ومرتبها بحسب مقتضى الحكمة، فالله خالق كل شيء بمعنى أنه موجده من أصل ومن غير أصل، وبارئه بحسب ما اقتضته الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال، ومصوره في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله، والثلاثة من صفات الفعل إلا إذا أريد بالخالق المقدر فيكون من صفات الذات، لأن مرجع التقدير إلى الإرادة، وعلى هذا فالتقدير يقع أولا، ثم الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانيا، ثم التصوير بالتسوية يقع ثالثا انتهى‏.‏

وقال الحليمي ‏"‏ الخالق ‏"‏ معناه الذي جعل المبدعات أصنافا وجعل لكل صنف منها قدرا، و ‏"‏ البارئ ‏"‏ معناه الموجد لما كان في معلومه، وإليه الإشارة بقوله ‏(‏من قبل أن نبرأها‏)‏ قال ويحتمل أن المراد به قالب الأعيان لأنه أبدع الماء والتراب والنار والهواء لا من شيء ثم خلق منها الأجسام المختلفة، و ‏"‏ المصور ‏"‏ معناه المهيئ للأشياء على ما أراده من تشابه وتخالف‏.‏

وقال الراغب ليس الخلق بمعنى الإبداع إلا لله وإلى ذلك أشار بقوله تعالى ‏(‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏)‏ وأما الذي يوجد بالاستحالة فقد وقع لغيره بتقديره سبحانه وتعالى، مثل قوله لعيسى ‏(‏وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني‏)‏ والخلق في حق غير الله يقع بمعنى التقدير وبمعنى الكذب، و ‏"‏ البارئ ‏"‏ أخص بوصف الله تعالى والبرية الخلق، قيل أصله الهمز فهو من برأ وقيل أصله البري من بريت العود، وقيل البرية من البري بالقصر وهو التراب فيحتمل أن يكون معناه موجد الخلق من البري وهو التراب، و ‏"‏ المصور ‏"‏ معناه المهيئ قال تعالى ‏(‏يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏)‏ والصورة في الأصل ما يتميز به الشيء عن غيره، ومنه محسوس كصورة الإنسان والفرس، ومنه معقول كالذي اختص به الإنسان من العقل والرؤية وإلى كل منهما الإشارة بقوله تعالى ‏(‏خلقناكم ثم صورناكم - وصوركم فأحسن صوركم - هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏)‏ ‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى لما خلقت بيدي‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ في هذه الآية إثبات يدين لله، وهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين خلافا للمشبهة من المثبتة، وللجهمية من المعطلة، ويكفي في الرد على من زعم أنهما بمعنى القدرة، أنهم أجمعوا على أن له قدرة واحدة في قول المثبتة ولا قدرة في قول النفاة، لأنهم يقولون إنه قادر لذاته ويدل على أن اليدين ليستا بمعنى القدرة أن في قوله تعالى لإبليس ‏(‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏)‏ إشارة إلى المعنى الذي أوجب السجود فلو كانت اليد بمعنى القدرة لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق منهما به وهي قدرته، ولقال إبليس وأي فضيلة له علي وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته بقدرتك، فلما قال ‏(‏خلقتني من نار وخلقته من طين‏)‏ دل على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه، قال ولا جائز أن يراد باليدين النعمتان، لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق، لأن النعم مخلوقة ولا يلزم من كونهما صفتي ذات أن يكونا جارحتين‏.‏

وقال ابن التين قوله ‏"‏ وبيده الأخرى الميزان‏"‏‏.‏

يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين ‏"‏ الحديث‏.‏

وقال ابن فورك‏:‏ قيل اليد بمعنى الذات وهذا يستقيم في مثل قوله تعالى ‏(‏مما عملت أيدينا‏)‏ بخلاف قوله ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ فإنه سيق للرد على إبليس؛ فلو حمل على الذات لما اتجه الرد‏.‏

وقال غيره هذا يساق مساق التمثيل للتقريب لأنه عهد أن من اعتنى بشيء واهتم به باشره بيديه، فيستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم كانت أتم من العناية بخلق غيره، واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز‏:‏ الأول الجارحة، الثاني القوة نحو ‏(‏داود ذا الأيد‏)‏ الثالث الملك ‏(‏أن الفضل بيد الله‏)‏ الرابع العهد ‏(‏يد الله فوق أيديهم‏)‏ ومنه قوله ‏"‏ هذي يدي لك بالوفاء ‏"‏ الخامس الاستسلام والانقياد قال الشاعر ‏"‏ أطاع يدا بالقول فهو ذلول ‏"‏ السادس النعمة قال ‏"‏ وكم لظلام الليل عندي من يد ‏"‏ السابع الملك ‏(‏قل إن الفضل بيد الله‏)‏ الثامن الذل ‏(‏حتى يعطوا الجزية عن يد‏)‏ التاسع ‏(‏أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح‏)‏ ، العاشر السلطان، الحادي عشر الطاعة، الثاني عشر الجماعة، الثالث عشر الطريق، يقال أخذتهم يد الساحل، والرابع عشر التفرق ‏"‏ تفرقوا أيدى سبأ ‏"‏ الخامس عشر الحفظ، السادس عشر يد القوس أعلاها، السابع عشر يد السيف مقبضه، الثامن عشر يد الرحى عود القابض، التاسع عشر جناح الطائر، العشرون المدة، يقال لا ألقاه يد الدهر، الحادي والعشرون الابتداء يقال لقيته أول ذات يدي، وأعطاه عن ظهر يد، الثاني والعشرون يد الثوب ما فضل منه، الثالث والعشرون يد الشيء أمامه، الرابع والعشرون الطاقة، الخامس والعشرون النقد نحو‏:‏ بعته يدا بيد‏.‏

ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث للثالث منها أربعة طرق، وللرابع طريقان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَمَا تَرَى النَّاسَ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَهَا وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِي أَصَابَهَا وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ قُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ثُمَّ أَشْفَعْ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنْ الْخَيْرِ ذَرَّةً

الشرح‏:‏

حديث أنس في الشفاعة وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ والغرض منه هنا قول أهل الموقف لآدم ‏"‏ خلقك الله بيده‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا معاذ بن فضالة‏)‏ بفتح الفاء والضاد المعجمة، وحكى بعضهم ضم الفاء و ‏"‏ هشام ‏"‏ شيخه هو الدستوائي، وقوله ‏"‏عن أنس ‏"‏ تقدمت الإشارة في الرقاق إلى ما وقع في بعض طرقه بلفظ ‏"‏ حدثنا أنس‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يجمع المؤمنون يوم القيامة كذلك‏)‏ هكذا للجميع وأظن أول هذه الكلمة لام، والإشارة ليوم القيامة أو لما يذكر بعد، وقد وقع عند مسلم من رواية معاذ بن هشام عن أبيه ‏"‏ يجمع الله المؤمنين يوم القيامة فيهتمون لذلك ‏"‏ وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ‏"‏ يهتمون - أو - يلهمون لذلك ‏"‏ بالشك وسيأتي في باب ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة‏)‏ من رواية همام عن قتادة ‏"‏ حتى يهموا بذلك ‏"‏ وقوله هنا ‏"‏ اشفع لنا إلى ربك ‏"‏ كذا للأكثر وهو المذكور في غير هذه الطريق، ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني ‏"‏ شفع ‏"‏ بكسر الفاء الثقيلة‏.‏

قال الكرماني هو من التشفيع، ومعناه قبول الشفاعة ليس هو المراد هنا، فيحتمل أن يكون التثقيل للتكثير أو للمبالغة‏.‏

وقوله ‏"‏لست هناك ‏"‏ كذا للأكثر في الموضعين، ولأبي ذر عن السرخسي ‏"‏ هناكم ‏"‏ وقوله ‏"‏ فيؤذن لي ‏"‏ في رواية أبي ذر عن الكشميهني ‏"‏ ويؤذن لي ‏"‏ بالواو وقوله ‏"‏ قل يسمع ‏"‏ كذا للأكثر بالتحتانية ولأبي ذر عن السرخسي والكشميهني بالفوقانية الموضعين، وقوله ‏"‏سل تعطه ‏"‏ لأبي ذر عن المستملي ‏"‏ تعط ‏"‏ في الموضعين بلا هاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَقَالَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة من طريق أبي الزناد عن الأعرج‏.‏

قوله ‏(‏يد الله‏)‏ تقدم في تفسير سورة هود في أول هذا الحديث من الزيادة ‏"‏ أنفق أنفق عليك ‏"‏ ووقعت هذه الزيادة أيضا في رواية همام لكن ساقها فيه مسلم وأقودها البخاري كما سيأتي في باب ‏(‏يريدون أن يبدلوا كلام الله‏)‏ ووقع فيها بدل يد الله ‏"‏ يمين الله ‏"‏ ويتعقب بها على من فسر اليد هنا بالنعمة، وأبعد منه من فسرها بالخزائن وقال أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها‏.‏

قوله ‏(‏ملأى‏)‏ بفتح الميم وسكون اللام وهمزة مع القصر تأنيث ملآن ووقع بلفظ ‏"‏ ملآن ‏"‏ في رواية لمسلم وقيل هي غلط ووجهها بعضهم بإرادة اليمين فإنها تذكر وتؤنث، وكذلك الكف، والمراد من قوله ملأى أو ملآن لازمه وهو أنه في غاية الغنى وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق‏.‏

قوله ‏(‏لا يغيضها‏)‏ بالمعجمتين بفتح أوله أي لا ينقصها، يقال غاض الماء يغيض إذا نقص‏.‏

قوله ‏(‏سحاء‏)‏ بفتح المهملتين مثقل ممدود أي دائمة الصب، يقال سح بفتح أوله مثقل يسح بكسر السين في المضارع ويجوز ضمها، وضبط في مسلم ‏"‏ سحا ‏"‏ بلفظ المصدر‏.‏

قوله ‏(‏الليل والنهار‏)‏ بالنصب على الظرف أي فيهما ويجوز الرفع، ووقع في رواية لمسلم ‏"‏ سح الليل والنهار ‏"‏ بالإضافة وفتح الحاء ويجوز ضمها‏.‏

قوله ‏(‏أرأيتم ما أنفق‏)‏ تنبيه على وضوح ذلك لمن له بصيرة‏.‏

قوله ‏(‏منذ خلق الله السموات والأرض‏)‏ سقط لفظ الجلالة لغير ذر وهو رواية همام‏.‏

قوله ‏(‏فإنه لم يغض‏)‏ أي ينقص، ووقع في رواية همام ‏"‏ لم ينقص ما في يمينه ‏"‏ قال الطيبي يجوز أن تكون ملأى ولا يغيضها ‏"‏ وسحاء وأرأيت ‏"‏ أخبارا مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة أوصافا لملأى ويجوز أن يكون ‏"‏ أرأيتم ‏"‏ استئنافا فيه معنى الترقي، كأنه لما قيل ملأى أوهم جواز النقصان فأزيل بقوله لا يغيضها شيء، وقد يمتلئ الشيء ولا يغيض، فقيل سحاء إشارة إلى الغيض وقرنه بما يدل على الاستمرار من ذكر الليل والنهار ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة بعد أن اشتمل من ذكر الليل والنهار بقوله أرأيتم على تطاول المدة لأنه خطاب عام والهمزة فيه للتقرير، قال وهذا الكلام إذا أخذته بجملته من غير نظر إلى مفرداته أبان زيادة الغنى وكمال السعة والنهاية في الجود والبسط في العطاء‏.‏

قوله ‏(‏وقال عرشه على الماء‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ قال ‏"‏ من رواية همام، ومناسبة ذكر العرش هنا أن السامع يتطلع من قوله ‏"‏ خلق السموات والأرض ‏"‏ ما كان قبل ذلك، فذكر ما يدل على أن عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء كما وقع في حديث عمران بن حصين الماضي في بدء الخلق بلفظ ‏"‏ كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع‏)‏ أي يخفض الميزان ويرفعها، قال الخطابي الميزان مثل، والمراد القسمة بين الخلق، وإليه الإشارة بقوله يخفض ويرفع‏.‏

وقال الداودي معنى الميزان أنه قدر الأشياء ووقتها وحددها فلا يملك أحد نفعا ولا ضرا إلا منه وبه، ووقع في رواية همام ‏"‏ وبيده الأخرى الفيض أو القبض ‏"‏ الأولى بفاء وتحتانية والثانية بقاف وموحدة، كذا للبخاري بالشك ولمسلم بالقاف والموحدة بلا شك، وعن بعض رواته فيما حكاه عياض بالفاء والتحتانية والأول أشهر، قال عياض المراد بالقبض قبض الأرواح بالموت، وبالفيض الإحسان بالعطاء وقد يكون بمعنى الموت، يقال فاضت نفسه إذا مات، ويقال بالضاد وبالظاء ا هـ، والأولى أن يفسر بمعنى الميزان ليوافق رواية الأعرج التي في هذا الباب فإن الذي يوزن بالميزان يخف ويرجح، فكذلك ما يقبض، ويحتمل أن يكون المراد بالقبص المنع لأن الإعطاء قد ذكر في قوله قبل ذلك سحاء الليل والنهار، فيكون مثل قوله تعالى ‏(‏والله يقبض ويبسط‏)‏ ووقع في حديث النواس بن سمعان عند مسلم وسيأتي التنبيه عليه في أواخر الباب ‏"‏ الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين ‏"‏ وفي حديث أبي موسى عند مسلم وابن حبان ‏"‏ إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام يخفض القسط ويرفعه ‏"‏ وظاهره أن المراد بالقسط الميزان، وهو مما يؤيد أن الضمير المستتر في قوله يخفض ويرفع للميزان كما بدأت الكلام به، قال المازري ذكر القبض والبسط وإن كانت القدرة واحدة لتفهيم العباد أنه يفعل بها المختلفات، وأشار بقوله ‏"‏ بيده الأخرى ‏"‏ إلى أن عادة المخاطبين تعاطي الأشياء باليدين معا، فعبر عن قدرته على التصرف بذكر اليدين لتفهيم المعنى المراد بما اعتادوه، وتعقب بأن لفظ البسط لم يقع في الحديث، وأجيب بأنه فهمه من مقابله كما تقدم والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرْضَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ سَمِعْتُ سَالِمًا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏مقدم بن محمد‏)‏ تقدم ذكره وذكر عمه في تفسير سورة النور‏.‏

قوله ‏(‏إن الله يقبض يوم القيامة الأرض‏)‏ في حديث أبي هريرة الماضي في باب قوله ملك الناس ‏"‏ يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ‏"‏ وفي رواية عمر بن حمزة التي يأتي التنبيه على من وصلها ‏"‏ يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ويطوي الأرض ثم يأخذهن بشماله ‏"‏ وعند أبي داود بدل قوله بشماله ‏"‏ بيده الأخرى ‏"‏ وزاد في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع وأبي حازم عن ابن عمر ‏"‏ فيجعلهما في كفه ثم يرمي بهما كما يرمي الغلام بالكرة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ويقول أنا الملك‏)‏ زاد في رواية عمر بن حمزة ‏"‏ أين الجبارون أين المتكبرون‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏رواه سعيد عن مالك‏)‏ يعني عن نافع وصله الدار قطني في غرائب مالك وأبو القاسم اللالكائي في السنة من طريق أبي بكر الشافعي عن محمد بن خالد الآجري عن سعيد وهو ابن داود بن أبي زنبر بفتح الزاي وسكون النون بعدها موحدة مفتوحة ثم راء، وهو مدني سكن بغداد وحدث بالري، وكنيته أبوه عثمان وما له في البخاري إلا هذا الموضع، وقد حدث عنه في ‏"‏ كتاب الأدب المفرد ‏"‏ وتكلم فيه جماعة‏.‏

وقال في روايته إن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر أخبره، وقد روى عن مالك ممن اسمه سعيد أيضا سعيد بن كثير بن عفير وهو من شيوخ البخاري، ولكن لم نجد هذا الحديث من روايته، وصرح المزي وجماعة بأن الذي علق له البخاري هنا هو الزبيري‏.‏

قوله ‏(‏وقال عمر بن حمزة‏)‏ يعني ابن عبد الله بن عمر الذي تقدم ذكره في الاستسقاء، وشيخه سالم هو ابن عبد الله بن عمر عم عمر المذكور، وحديثه هذا وصله مسلم وأبو داود وغيرهما من رواية أبي أسامة عنه، قال البيهقي تفرد بذكر الشمال فيه عمر بن حمزة، وقد رواه عن ابن عمر أيضا نافع وعبيد الله بن مقسم بدونها، ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وثبت عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين ‏"‏ وكذا في حديث أبي هريرة ‏"‏ قال آدم اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين ‏"‏ وساق من طريق أبي يحيى القتات بقاف ومثناة ثقيلة وبعد الألف مثناة أيضا عن مجاهد في تفسير قوله تعالى ‏(‏والسموات مطويات بيمينه‏)‏ قال ‏"‏ وكلتا يديه يمين ‏"‏ وفي حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ أول ما خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين ‏"‏ وقال القرطبي في المفهم كذا جاءت هذه الرواية بإطلاق لفظ الشمال على يد الله تعالى على المقابلة المتعارفة وفي حقنا وفي أكثر الروايات وقع التحرز عن إطلاقها على الله حتى قال وكلتا يديه يمين لئلا يتوهم نقص في صفته سبحانه وتعالى لأن الشمال في حقنا أضعف من اليمين، قال البيهقي ذهب بعض أهل النظر إلى أن اليد صفة ليست جارحة، وكل موضع جاء ذكرها في الكتاب أو السنة الصحيحة فالمراد تعلقها بالكائن المذكور معها كالطي والأخذ والقبض والبسط والقبول والشح والإنفاق وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها من غير مماسة، وليس في ذلك تشبيه بحال، وذهب آخرون إلى تأويل ذلك بما يليق به انتهى‏.‏

وسيأتي كلام الخطابي في ذلك في باب قوله تعالى ‏(‏تعرج الملائكة والروح إليه‏)‏ قوله ‏(‏وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب إلخ‏)‏ تقدم الكلام عليه في باب قوله تعالى ‏(‏ملك الناس‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَرَأَ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري و ‏"‏ منصور ‏"‏ هو ابن المعتمر، ‏"‏ وسليمان ‏"‏ هو الأعمش و ‏"‏ إبراهيم ‏"‏ هو النخعي و ‏"‏ عبيدة ‏"‏ بفتح أوله هو ابن عمرو وقد تابع سفيان الثوري عن منصور على قوله عبيدة شيبان بن عبد الرحمن عن منصور كما مضى في تفسير سورة الزمر، وفضيل بن عياض المذكور بعده، وجرير بن عبد الحميد عند مسلم، وخالفه عن الأعمش في قوله عبيدة حفص بن غياث المذكور في الباب، وجرير وأبو معاوية وعيسى بن يونس عند مسلم ومحمد بن فضيل عند الإسماعيلي، فقالوا كلهم عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بدل عبيدة، وتصرف الشيخين يقتضي أنه عند الأعمش على الوجهين، وأما ابن خزيمة فقال هو في رواية الأعمش عن إبراهيم عن علقمة‏.‏

وفي رواية منصور عن إبراهيم عن عبيدة وهما صحيحان‏.‏

قوله ‏(‏قال يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان راويه عن الثوري‏.‏

قوله ‏(‏وزد فيه فضيل بن عياض‏)‏ هو موصول، ووهم من زعم أنه معلق، وقد وصله مسلم عن أحمد بن يونس عن فضيل‏.‏

قوله ‏(‏أن يهوديا جاء‏)‏ في رواية علقمة ‏"‏ جاء رجل من أهل الكتاب ‏"‏ وفي رواية فضيل بن عياض عند مسلم ‏"‏ جاء حبر ‏"‏ بمهملة وموحدة، زاد شيبان في روايته ‏"‏ من الأحبار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال يا محمد‏)‏ في رواية علقمة ‏"‏ يا أبا القاسم ‏"‏ وجمع بينهما في رواية فضيل‏.‏

قوله ‏(‏إن الله يمسك السموات‏)‏ في رواية شيبان ‏"‏ يجعل ‏"‏ بدل يمسك وزاد فضيل ‏"‏ يوم القيامة ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية عند الإسماعيلي ‏"‏ أبلغك يا أبا القاسم أن الله يحمل الخلائق‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏والشجر على إصبع‏)‏ زاد في رواية علقمة ‏"‏ والثرى ‏"‏ وفي رواية شيبان ‏"‏ الماء والثرى ‏"‏ وفي رواية فضيل بن عياض ‏"‏ الجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏والخلائق‏)‏ أي من لم يتقدم له ذكر، ووقع في رواية فضيل وشيبان ‏"‏ وسائر الخلق ‏"‏ وزاد ابن خزيمة عن محمد بن خلاد عن يحيى بن سعيد القطان عن الأعمش فذكر الحديث، قال محمد عدها علينا يحيى بإصبعه وكذا أخرجه أحمد بن حنبل في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ عن يحيى بن سعيد وقال‏:‏ وجعل يحيى يشير بإصبعه يضع إصبعا على إصبع حتى أتى على آخرها، ورواه أبو بكر الخلال في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ عن أبي بكر المروزي عن أحمد‏.‏

وقال‏:‏ رأيت أبا عبد الله يشير بإصبع إصبع، ووقع في حديث ابن عباس عند الترمذي ‏"‏ مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا يهودي حدثنا فقال كيف تقول‏:‏ يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه ‏"‏ وأشار ‏"‏ أبو جعفر ‏"‏ يعني أحد رواته بخنصر أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام، قال الترمذي حديث حسن غريب صحيح ووقع في مرسل مسروق عند الهروي مرفوعا نحو هذه الزيادة‏.‏

قوله ‏(‏ثم يقول أنا الملك‏)‏ كررها علقمة في روايته وزاد فضيل في روايته ‏"‏ قبلها ثم يهزهن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية علقمة ‏"‏ فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك ‏"‏ ومثله في رواية جرير ولفظه ‏"‏ ولقد رأيت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى بدت نواجذه‏)‏ جمع ناجذ بنون وجيم مكسورة ثم ذال معجمة وهو ما يظهر عند الضحك من الأسنان وقيل هي الأنياب وقيل الأضراس وقيل الدواخل من الأضراس التي في أقصى الحلق، زاد شيبان بن عبد الرحمن ‏"‏ تصديقا لقول الحبر ‏"‏ وفي رواية فضيل المذكورة هنا ‏"‏ تعجبا وتصديقا له ‏"‏ وعند مسلم ‏"‏ تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ‏"‏ وفي رواية جرير عنده ‏"‏ وتصديقا له ‏"‏ بزيادة واو، وأخرجه ابن خزيمة من رواية إسرائيل عن منصور ‏"‏ حتى بدت نواجذه تصديقا لقوله ‏"‏ وقال ابن بطال لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات لا تكيف ولا تحدد ‏"‏ وهذا ينسب للأشعري ‏"‏ وعن ابن فورك يجوز أن يكون الإصبع خلقا يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان، كقول القائل ما فلان إلا بين إصبعي إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه، وأيد ابن التين الأول بأنه قال على إصبع ولم يقل على إصبعيه، قال ابن بطال‏:‏ وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات وأخبر عن قدرة الله على جميعها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقا له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم، ولذلك قرأ قوله تعالى ‏(‏وما قدروا الله حق قدره‏)‏ الآية أي ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم، ويحيط به الحصر لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هي اليوم، قال تعالى ‏(‏إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا‏)‏ وقال ‏(‏رفع السموات بغير عمد ترونها‏)‏ وقال الخطابي لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي ‏"‏ تصديقا ‏"‏ له فظن منه وحسبان، وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك، فقد تكون الحمرة لأمر حدث في البدن كثوران الدم، والصفرة لثوران خلط من مرار وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظا فهو محمول على تأويل قوله تعالى ‏(‏والسموات مطويات بيمينه‏)‏ أي قدرته على طيها، وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئا في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه بل يقله ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم فلان يقل - كذا - بإصبعه ويعمله بخنصره انتهى ملخصا، وقد تعقب بعضهم إنكار ورود الأصابع لوروده في عدة أحاديث كالحديث الذي أخرجه مسلم ‏"‏ إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ‏"‏ ولا يرد عليه لأنه إنما نفى القطع، قال القرطبي في المفهم قوله ‏"‏ إن الله يمسك ‏"‏ إلى آخر الحديث، هذا كله قول اليهودي وهم يعتقدون التجسيم وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي، ولهذا قرأ عند ذلك ‏(‏وما قدروا الله حق قدره‏)‏ أي ما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه فهذه الرواية هي الصحيحة المحققة، وأما من زاد ‏"‏ وتصديقا له ‏"‏ فليست بشيء فإنها من قول الراوي وهي باطلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق المحال وهذه الأوصاف في حق الله محال؛ إذ لو كان ذا يد وأصابع وجوارح كان كواحد منا فكان يجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلها إذ لو جازت الإلهية لمن هذه صفته لصحت للدجال وهو محال، فالمفضى إليه كذب فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله في الرد عليه ‏(‏وما قدروا الله حق قدره‏)‏ وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله فظن الراوي أن ذلك التعجب تصديق وليس كذلك، فإن قيل قد صح حديث ‏"‏ إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ‏"‏ فالجواب أنه إذا جاءنا مثل هذا في الكلام الصادق تأولناه أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع باستحالة ظاهره لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه، وأما إذا جاء على لسان من يجوز عليه الكذب بل على لسان من أخبر الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف كذبناه وقبحناه، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بتصديقه لم يكن ذلك تصديقا له في المعنى بل في اللفظ الذي نقله من كتابه عن نبيه، ونقطع بأن ظاهره غير مراد انتهى ملخصا‏.‏

وهذا الذي نحا إليه أخيرا أولى مما ابتدأ به لما فيه من الطعن على ثقات الرواة ورد الأخبار الثابتة، ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن للزم منه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على الباطل وسكوته عن الإنكار وحاشا لله من ذلك، وقد اشتد إنكار ابن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار، فقال بعد أن أورد هذا الحديث في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ من صحيحه بطريقه، قد أجل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكا، بل لا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف من يؤمن بنبوته، وقد وقع الحديث الماضي في الرقاق عن أبي سعيد - رفعه ‏"‏ تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم خبزته ‏"‏ الحديث، وفيه أن يهوديا دخل فأخبر بمثل ذلك فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ثم ضحك‏.‏