فصل: باب الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*1*المجلد الرابع

*2*أَبْوَابُ الْمُحْصَرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المحصر وجزاء الصيد‏)‏ ثبتت البسملة للجميع، وذكر أبو ذر ‏"‏ أبواب ‏"‏ بلفظ الجمع، وللباقين ‏"‏ باب ‏"‏ بالإفراد‏.‏

*3*وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ

وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَقَالَ عَطَاءٌ الْإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ فإن أحصرتم‏)‏ أي وتفسير المراد من قوله‏:‏ ‏(‏فإن أحصرتم‏)‏ وأما قوله ‏(‏ولا تحلقوا رءوسكم‏)‏ فسيأتي في الباب الذي يليه‏.‏

وفي اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار، وهي مسألة اختلاف بين الصحابة وغيرهم، فقال كثير منهم‏:‏ الإحصار من كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعود رجلا لدغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح عنه‏.‏

وقال النخعي والكوفيون‏:‏ الحصر الكسر والمرض والخوف، واحتجوا بحديث حجاج بن عمرو الذي سنذكره في آخر الباب‏.‏

وأثر عطاء المشار إليه وصله عبد بن حميد عن أبي نعيم عن الثوري عن ابن جريج عنه قال في قوله تعالى ‏(‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى‏)‏ قال‏:‏ الإحصار من كل شيء يحبسه‏.‏

وكذا رويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه‏.‏

وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، ولفظه ‏"‏ فإن أحصرتم، قال‏:‏ من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدى، فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه ‏"‏ وقال آخرون‏:‏ لا حصر إلا بالعدو، وصح ذلك عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق عن معمر، وأخرجه الشافعي عن ابن عيينة كلاهما عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ‏"‏ لا حصر إلا من حبسه عدو فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة‏"‏، وروى مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ والشافعي عنه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال ‏"‏ من حبس دون البيت بالمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت ‏"‏ وروى مالك عن أيوب عن رجل من أهل البصرة قال ‏"‏ خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة - وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس - فلم يرخص لي أحد في أن أحل، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر ثم حللت بعمرة‏"‏، وأخرجه ابن جرير من طرق وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير، وبه قال مالك والشافعي وأحمد‏.‏

قال الشافعي‏:‏ جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة، وجعل التحلل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدو فلم نعد بالرخصة موضعها‏.‏

وفي المسألة قول ثالث حكاه ابن جرير وغيره، وهو أنه لا حصر بعد النبي، وروى مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه ‏"‏ المحرم لا يحل حتى يطوف‏"‏‏.‏

أخرجه في ‏"‏ باب ما يفعل من أحصر بغير عدو‏"‏‏.‏

وأخرج ابن جرير عن عائشة بإسناد صحيح قالت ‏"‏ لا اعلم المحرم يحل بشيء دون البيت ‏"‏ وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال ‏"‏ لا إحصار اليوم ‏"‏ وروى ذلك عن عبد الله بن الزبير، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة - منهم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيدة وأبو عبيد وابن السكيت وثعلب وابن قتيبة وغيرهم - أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو فهو الحصر وبهذا قطع النحاس، وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف قال تعالى ‏(‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض‏)‏ وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدو إياهم، وأما الشافعي ومن تابعه فحجتهم في أن لا إحصار إلا بالعدو اتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصة الحديبية حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فسمى الله صد العدو إحصارا، وحجة الآخرين التمسك بعموم قوله تعالى ‏(‏فإن أحصرتم‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو عبد الله‏:‏ حصورا لا يأتي النساء‏)‏ هكذا ثبت هذا التفسير هنا في رواية المستملي خاصة، ونقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد، وقد حكاه أبو عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏ وقال‏:‏ إن له معاني أخرى فذكرها، وهو بمعنى محصور لأنه منع مما يكون من الرجال، وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرا‏.‏

وكأن البخاري أراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى أن المادة واحدة، والجامع بين معانيها المنع، والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أحصر المعتمر‏)‏ قيل غرض المصنف بهذه الترجمة الرد على من قال التحلل بالإحصار خاص بالحاج بخلاف المعتمر فلا يتحلل بذلك بل يستمر على إحرامه حتى يطوف بالبيت، لأن السنة كلها وقت للعمرة فلا يخشى فواتها بخلاف الحج، وهو محكي عن مالك، واحتج له إسماعيل القاضي بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة قال‏:‏ خرجت معتمرا، فوقعت عن راحلتي فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا‏:‏ ليس لها وقت كالحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ قَالَ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن عبد الله بن عمر حين خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة‏)‏ هذا السياق يشعر بأنه عن نافع عن ابن عمر بغير واسطة، لكن رواية جويرية التي بعده تقتضي أن نافعا حمل ذلك عن سالم وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما حيث قال فيها‏:‏ عن جويرية عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر، فذكر القصة والحديث، هكذا قال البخاري عن عبد الله بن محمد ابن أسماء، ووافقه الحسن بن سفيان وأبو يعلى كلاهما عن عبد الله، أخرجه الإسماعيلي عنهما، وتابعهم معاذ بن المثني عن عبد الله بن محمد بن أسماء، أخرجه البيهقي‏.‏

لكن في رواية موسى بن إسماعيل عن جويرية عن نافع أن بعض بني عبد الله بن عمر قال له، فذكر الحديث‏.‏

وظاهره أنه لنافع عن ابن عمر بغير واسطة، وقد عقب البخاري رواية عبد الله برواية موسى لينبه على الاختلاف في ذلك، واقتصر في رواية موسى هنا على الإسناد، وساقه في المغازي بتمامه‏.‏

وقد رواه يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع كذلك ولفظه ‏"‏ أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله، فذكر الحديث ‏"‏ أخرجه مسلم، وقد أخرجه البخاري في المغازي عن مسدد عن يحيى مختصرا قال فيه عن نافع عن ابن عمر أنه أهل فذكر بعض الحديث‏.‏

وفي قوله عن نافع عن ابن عمر دلالة على أنه لا واسطة بين نافع وابن عمر فيه كما هو ظاهر سياق مسلم، وأخرجه البخاري كما سيأتي بعد باب من طريق عمر بن محمد عن نافع مثل سياق يحيى عن عبيد الله سواء، وأخرجه في المغازي من طريق فليح وفيما مضى من الحج من طريق أيوب والليث كلهم عن نافع، وأعرض مسلم عن تخريج طريق جويرية ووافق على طريق تخريج الليث وأيوب عن عبيد الله ابن عمر، وكذا أخرجه النسائي من طريق أيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية كلهم عن نافع عن ابن عمر بغير واسطة‏.‏

والذي يترجح في نقدي أن ابني عبد الله أخبرا نافعا بما كلما به أباهما وأشارا عليه به من التأخير ذلك العام، وأما بقية القصة فشاهدها نافع وسمعها من ابن عمر لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول، وعلى تقدير أن يكون نافع لم يسمع شيئا من ذلك من ابن عمر فقد عرف الواسطة بينهما وهي ولدا عبد الله ابن عمر سالم وعبد الله وهما ثقتان لا مطعن فيهما، ولم أر من نبه على ذلك من شراح البخاري‏.‏

ووقع في رواية جويرية المذكورة عبيد الله بن عبد الله بالتصغير‏.‏

وفي رواية يحيى القطان المذكورة عبد الله بالتكبير، وكذا في رواية عمر بن محمد عن نافع، قال البيهقي‏:‏ عبد الله - يعني مكبرا - أصح‏.‏

قلت‏:‏ وليس بمستبعد أن يكون كل منهما كلم أباه في ذلك، ولعل نافعا حضر كلام عبد الله المكبر مع أخيه سالم ولم يحضر كلام عبيد الله المصغر مع أخيه سالم أيضا بل أخبراه بذلك فقص عن كل ما انتهى إليه علمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏معتمرا‏)‏ في الموطأ من هذا الوجه ‏"‏ خرج إلى مكة يريد الحج‏.‏

فقال‏:‏ إن صددت ‏"‏ فذكره، ولا اختلاف، فإنه خرج أولا يريد الحج فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة ثم قال‏:‏ ما شأنهما إلا واحدا فأضاف إليها الحج فصار قارنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في الفتنة‏)‏ بينه في رواية جويرية فقال ‏"‏ ليالي نزل الجيش بابن الزبير ‏"‏ وقد مضى في ‏"‏ باب طواف القارن ‏"‏ من طريق الليث عن نافع بلفظ ‏"‏ حين نزل الحجاج بابن الزبير ‏"‏ ولمسلم رواية في يحيى القطان المذكورة ‏"‏ حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير ‏"‏ وقد تقدم في ‏"‏ باب من اشترى هديه من الطريق ‏"‏ من رواية موسى بن عقبة عن نافع ‏"‏ أراد ابن عمر الحج عام حج الحرورية‏"‏‏.‏

وتقدم طريق الجمع بينه وبين رواية الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن صددت عن البيت‏)‏ هذا الكلام قاله جوابا لقول من قال له‏.‏

إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت، كما أوضحته الرواية التي بعد هذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية موسى بن عقبة ‏"‏ فقال‏:‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذن اصنع كما صنع ‏"‏ زاد في رواية الليث عن نافع في ‏"‏ باب طواف القارن ‏"‏ ‏"‏ كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ونحوه في رواية أيوب عن نافع في ‏"‏ باب طواف القارن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأهل‏)‏ يعني ابن عمر، والمراد أنه رفع صوته بالإهلال والتلبية، زاد في رواية جويرية التي بعد هذه ‏"‏ فقال‏:‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهل بعمرة عام الحديبية‏)‏ ‏.‏

قال النووي‏:‏ معناه أنه أراد إن صددت عن البيت وأحصرت تحللت من العمرة كما تحلل النبي صلى الله عليه وسلم من العمرة‏.‏

وقال عياض‏:‏ يحتمل أن المراد أهل بعمرة كما أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة، ويحتمل أنه أراد الأمرين أي من الإهلال والإحلال وهو الأظهر‏.‏

وتعقبه النووي، وليس هو بمردود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعمرة‏)‏ زاد في رواية جويرية ‏"‏ من ذي الحليفة ‏"‏ وفي رواية أيوب الماضية ‏"‏ فأهل بالعمرة من الدار ‏"‏ والمراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة، ويحتمل أن يحمل على الدار التي بالمدينة ويجمع بأنه أهل بالعمرة من داخل بيته، ثم أعلن بها وأظهرها بعد أن استقر بذي الحليفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عام الحديبية‏)‏ سيأتي بيان ذلك وشرحه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وأورده المصنف بعد بابين عن إسماعيل - وهو ابن أبي أويس - عن مالك فزاد فيه ‏"‏ ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال‏:‏ ما أمرهما إلا واحد ‏"‏ أي الحج والعمرة فيما يتعلق بالإحصار والإحلال، فالتفت إلى أصحابه فذكر القصة‏.‏

وبين في رواية جويرية أن ذلك وقع بعد أن سار ساعة، وهو يؤيد الاحتمال الأول الماضي في أن المراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة‏.‏

ووقع في رواية الليث ‏"‏ أشهدكم أني قد أوجبت عمرة‏.‏

ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال‏:‏ ما شأن الحج والعمرة إلا واحد‏"‏‏.‏

ولو كان إيجابه العمرة من داره التي بالمدينة لكان ما بينها وبين ظاهر البيداء أكثر من ساعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى وَكَانَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ لَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏فلم يحل منهما حتى حل يوم النحر‏)‏ زاد في رواية الليث ‏"‏ فنحر وحلق ‏"‏ ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول‏.‏

وهذا ظاهره أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل‏.‏

ووقع في رواية إسماعيل المذكورة ‏"‏ ثم طاف لهما طوافا واحدا ورأى أن ذلك مجزئ عنه ‏"‏ وقد تقدم البحث في ذلك في آخر ‏"‏ باب طواف القارن‏"‏‏.‏

قوله في رواية جويرية ‏(‏أشهدكم أني قد أوجبت‏)‏ أي ألزمت نفسي ذلك، وكأنه أراد تعليم من يريد الاقتداء به، وإلا فالتلفظ ليس بشرط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن حيل بيني وبينه‏)‏ أي البيت - أي منعت من الوصول إليه لأطوف - تحللت بعمل العمرة، وهذا يبين أن المراد بقوله ‏"‏ ما أمرهما إلا واحد ‏"‏ يعني الحج والعمرة في جواز التحلل منهما بالإحصار أو في إمكان الإحصار عن كل منهما، ويؤيد الثاني قوله في رواية يحيى القطان المذكورة بعد قوله ما أمرهما إلا واحد ‏"‏ إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج ‏"‏ فكأنه رأى أولا أن الإحصار عن الحج أشد من الإحصار عن العمرة لطول زمن الحج وكثرة أعماله فاختار الإهلال بالعمرة، ثم رأى أن الإحصار بالحج يفيد التحلل عنه بعمل العمرة فقال ‏"‏ ما أمرهما إلا واحد‏"‏‏.‏

وفيه أن الصحابة كانوا يستعملون القياس ويحتجون به‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد أن من أحصر بالعدو بأن منعه عن المضي في نسكه حجا كان أو عمرة جاز له التحلل بأن ينوي ذلك وينحر هديه ويحلق رأسه أو يقصر منه‏.‏

وفيه جواز إدخال الحج على العمرة وهو قول الجمهور، لكن شرطه عند الأكثر أن يكون قبل الشروع في طواف العمرة، وقيل إن كان قبل مضي أربعة أشواط صح، وهو قول الحنفية، وقيل بعد تمام الطواف وهو قول المالكية، ونقل عبد البر أن أبا ثور شذ فمنع إدخال الحج على العمرة قياسا على منع إدخال العمرة على الحج‏.‏

وفيه أن القارن يقتصر على طواف واحد، وقد تقدم البحث فيه في بابه‏.‏

وفيه أن القارن يهدي، وشذ ابن حزم فقالا‏:‏ لا هدي على القارن‏.‏

وفيه جواز الخروج إلى النسك في الطريق المظنون خوفه إذا رجى السلامة، قاله ابن عبد البر‏.‏

قوله في رواية موسى بن إسماعيل ‏(‏أن بعض بني عبد الله‏)‏ قد تقدم اسمه في الرواية التي قبلها وأنه سالم بن عبد الله أو أخوه عبيد الله أو عبد الله، ولم يظهر لي من الذي تولى مخاطبته منهم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ وقع في رواية القعنبي عن مالك في أول أحاديث الباب في آخر قصة ابن عمر زيادة وهي ‏"‏ وأهدى شاة ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ هي زيادة غير محفوظة، لأن ابن عمر كان يفسر ما استيسر من الهدي بأنه بدنة دون بدنة أو بقرة دون بقرة فكيف يهدي شاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد‏)‏ كذا في جميع الروايات غير منسوب، فجزم الحاكم بأنه محمد بن يحيى الذهلي، وأبو مسعود بأنه محمد بن مسلم بن وارة، وذكر الكلاباذي عن ابن أبي سعيد أنه أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وذكر أنه رآه في أصل عتيق، ويؤيده أن الحديث وجد من حديثه عن يحيى بن صالح المذكور، كذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق أبي حاتم، ورواية البخاري عنه في باب الذبح فإنه روى عنه البخاري‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون هو محمد بن إسحاق الصغاني فقد وجدت الحديث من روايته عن يحيى بن صالح كما سأذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عكرمة قال فقال ابن عباس‏)‏ هكذا رأيته في جميع النسخ وهو يقتضي سبق كلام يعقبه قوله ‏"‏ فقال ابن عباس ‏"‏ ولم ينبه عليه أحد من شراح هذا الكتاب ولا بينه الإسماعيلي ولا أبو نعيم لأنهما اقتصرا من الحديث على ما أخرجه البخاري، وقد بحثت عنه إلى أن يسر الله بالوقوف عليه، فقرأت في ‏"‏ كتاب الصحابة ‏"‏ لابن السكن قال ‏"‏ حدثني هارون بن عيسى حدثنا الصغاني هو محمد بن إسحاق أحد شيوخ مسلم حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال‏:‏ سألت عكرمة فقال‏:‏ قال عبد الله بن رافع مولي أم سلمة إنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من عرج أو كسر أو حبس فليجزئ مثلها وهو في حل ‏"‏ قال فحدثت به أبا هريرة فقال‏:‏ صدق، وحدثته ابن عباس فقال‏:‏ قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق ونحر هديه وجامع نساءه حتى اعتمر عاما قابلا‏"‏، فعرف بهذا السياق القدر الذي حذفه البخاري من هذا الحديث، والسبب في حذفه أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري فأخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة والدار قطني والحاكم من طرق عن الحجاج الصواف عن يحيى عن عكرمة عن الحجاج به‏.‏

وقال في آخر ‏"‏ قال عكرمة فسألت أبا هريرة وابن عباس فقالا صدق‏"‏‏.‏

ووقع في رواية يحيى القطان وغيره في سياقه ‏"‏ سمعت الحجاج ‏"‏ وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق معمر عن يحيى عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج قال الترمذي‏:‏ وتابع معمرا على زيادة عبد الله بن رافع معاوية بن سلام، وسمعت محمدا يعني البخاري يقول‏:‏ رواية معمر ومعاوية أصح، انتهى‏.‏

فاقتصر البخاري على ما هو من شرط كتابه، مع أن الذي حذفه ليس بعيدا من الصحة، فإنه إن كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك، وإلا فالواسطة بينهما - وهو عبد الله بن رافع - ثقة وإن كان البخاري لم يخرج له‏.‏

وبهذا الحديث احتج من قال‏:‏ لا فرق بين الإحصار بالعدو وبغيره كما تقدمت الإشارة إليه، واستدل به على أن من تحلل بالإحصار وجب عليه قضاء ما تحلل منه وهو ظاهر الحديث‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ لا يجب، وبه قال الحنفية‏.‏

وعن أحمد روايتان‏.‏

وسيأتي البحث فيه بعد بابين إن شاء الله تعالى‏؟‏

*3*باب الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الإحصار في الحج‏)‏ قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ أشار البخاري إلى أن الإحصار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع في العمرة، فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق وهو من أقوى الأقيسة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ينبني على أن مراد ابن عمر بقوله ‏"‏ سنة نبيكم ‏"‏ قياس من يحصل له الإحصار وهو حاج على من يحصل له في الاعتمار، لأن الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم هو الإحصار عن العمرة، ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله سنة نبيكم وبما بينه بعد ذلك شيئا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في حق من لم يحصل له ذلك وهو حاج، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد وقد عقب المصنف هذا الحديث بأن قال ‏"‏ وعن عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري نحوه ‏"‏ وهو معطوف على الإسناد الأول، فكأن ابن المبارك كان يحدث به تارة عن يونس وتارة عن معمر، وليس هو بمعلق كما ادعاه بعضهم‏.‏

وقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن ابن المبارك عن معمر ولفظه‏:‏ ‏"‏ أنه كان ينكر الاشتراط ويقول‏:‏ أليس حسبكم سنة نبيكم ‏"‏ وهكذا أخرجه الدار قطني من طريق الحسن بن عرفة والإسماعيلي من طريقه ومن طريق أحمد ابن منيع وغيره كلهم عن ابن المبارك، وكذا أخرجه عبد الرزاق وأحمد عنه عن معمر مقتصرا على هذا القدر، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن عبد الرزاق بتمامه، وكذا أخرجه النسائي وأما إنكار ابن عمر الاشتراط فثابت في رواية يونس أيضا إلا أنه حذف في رواية البخاري هذه، فأخرجه البيهقي من طريق السراج عن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس، وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق ابن وهب عن يونس، وأشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتي به ابن عباس‏.‏

قال البيهقي‏:‏ لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة في الاشتراط لقال به، وقد أخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال‏:‏ أما تريدين الحج‏؟‏ فقالت‏:‏ إني شاكية‏.‏

فقال لها‏:‏ حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ‏"‏ قال الشافعي‏:‏ لو ثبت حديث عروة لم أعده إلى غيره، لأنه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ قد ثبت هذا الحديث من أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ساقه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة موصولا بذكر عائشة فيه وقال‏:‏ وقد وصله عبد الجبار وهو ثقة‏.‏

قال‏:‏ وقد وصله أبو أسامة ومعمر كلاهما عن هشام‏.‏

ثم ساقه من طريق أبي أسامة وقال‏:‏ أخرجه الشيخان من طريق أبي أسامة‏.‏

قلت‏:‏ وطريق أبي أسامة أخرجها البخاري في كتاب النكاح ولم يخرجها في الحج، بل حذف منه ذكر الاشتراط أصلا إثباتا كما في حديث عائشة ونفيا كما في حديث ابن عمر‏.‏

وأما رواية معمر التي أشار إليها البيهقي فأخرجها أحمد عن عبد الرزاق، ومسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن هشام والزهري فرقهما كلاهما عن عروة عن عائشة‏.‏

ولقصة ضباعة شواهد منها حديث ابن عباس ‏"‏ أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إني امرأة ثقيلة - أي في الضعف - وإني أريد الحج، فما تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث تحبسني‏.‏

قال فأدركت ‏"‏ أخرجه مسلم وأصحاب السنن والبيهقي من طرق عن ابن عباس‏.‏

قال الترمذي‏:‏ وفي الباب عن جابر وأسماء بنت أبي بكر‏.‏

قلت‏:‏ وعن ضباعة نفسها وعن سعدي بنت عوف وأسانيدها كلها قوية‏.‏

وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلي وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة، ولم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر، ووافقه جماعة من التابعين ومن بعدهم من الحنفية والمالكية، وحكى عياض عن الأصيلي قال‏:‏ لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، قال عياض‏:‏ وقد قال النسائي لا أعلم أسنده عن الزهري غير معمر‏.‏

وتعقبه النووي بأن الذي قاله غلط فاحش، لأن الحديث مشهور صحيح من طرق متعددة، انتهى وقول النسائي لا يلزم منه تضعيف طريق الزهري التي تفرد بها معمر فضلا عن بقية الطرق لأن معمرا ثقة حافظ فلا يضره التفرد، كيف وقد وجد لما رواه شواهد كثيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن حبس أحدكم عن الحج طاف‏)‏ قال عياض‏:‏ ضبطناه سنة بالنصب على الاختصاص أو على إضمار فعل، أي تمسكوا وشبهه‏.‏

وخبر حسبكم في قوله ‏"‏ طاف بالبيت ‏"‏ ويصح الرفع على أن سنة خبر حسبكم أو الفاعل بمعنى الفعل فيه ويكون ما بعدها تفسيرا للسنة‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ من نصب سنة فإنه بإضمار الأمر كأنه قال‏:‏ الزموا سنة نبيكم، وقد قدمت البحث فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏طاف بالبيت‏)‏ أي إذا أمكنه ذلك‏.‏

وقد وقع في رواية عبد الرزاق ‏"‏ إن حبس أحدا منكم حابس عن البيت فإذا وصل إليه طاف به ‏"‏ الحديث‏.‏

والذي تحصل من الاشتراط في الحج والعمرة أقوال‏:‏ أحدها مشروعيته، ثم اختلف من قال به فقيل‏:‏ واجب لظاهر الأمر‏.‏

وهو قول الظاهرية‏.‏

وقيل مستحب وهو قول أحمد وغلط من حكى عنه إنكاره، وقيل جائز وهو المشهور عند الشافعية وقطع به الشيخ أبو حامد‏.‏

والحق أن الشافعي نص عليه في القديم وعلق القول بصحته في الجديد فصار الصحيح عنه القول به، وبذلك جزم الترمذي عنه، وهو أحد المواضع التي علق القول بها على صحة الحديث، وقد جمعتها في كتاب مفرد مع الكلام على تلك الأحاديث‏.‏

والذين أنكروا مشروعية الاشتراط أجابوا عن حديث ضباعة بأجوبة، منها‏:‏ أنه خاص بضباعة، حكاه الخطابي ثم الروياني من الشافعية‏.‏

قال النووي‏:‏ وهو تأويل باطل‏.‏

وقيل معناه محلي حيث حبسني الموت إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي‏.‏

حكاه إمام الحرمين، وأنكره النووي‏.‏

وقال‏:‏ إنه ظاهر الفساد‏.‏

وقيل إن الشرط خاص بالتحلل من العمرة لا من الحج‏.‏

حكاه المحب الطبري‏.‏

وقصة ضباعة ترده كما تقدم من سياق مسلم‏.‏

وقد أطنب ابن حزم في التعقب على من أنكر الاشتراط بما لا مزيد عليه، وسيأتي الكلام على بقية حديث ضباعة في الاشتراط حيث ذكره المصنف في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النحر قبل الحلق في الحصر‏)‏ ذكر فيه حديث المسور ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك ‏"‏ وهذا طرف من الحديث الطويل الذي أخرجه المصنف في الشروط من الوجه المذكور هنا ولفظه في أواخر الحديث ‏"‏ فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا ‏"‏ فذكر بقية الحديث وفيه قول أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ‏"‏ وعرف بهذا أن المصنف أورد القدر المذكور هنا بالمعنى، وأشار بقوله في الترجمة ‏"‏ في الحصر ‏"‏ إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر، وقد تقدم أنه لا يجب في حال الاختيار في ‏"‏ باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ‏"‏ ولم يتعرض المصنف لما يجب على من حلق قبل أن ينحر، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال‏:‏ عليه دم‏.‏

قال إبراهيم‏.‏

وحدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ قَالَ وَحَدَّثَ نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَسَالِمًا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرِينَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ

الشرح‏:‏

أورد المصنف حديث ابن عمر الماضي قبل بباب مختصرا وفيه ‏"‏ فنحر بدنه وحلق رأسه‏"‏، وقد أورده البيهقي من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد - وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه بإسناده المذكور ولفظه ‏"‏ أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله بن عمر ليالي نزل الحجاج بابن الزبير وقالا‏:‏ لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت‏.‏

فقال‏:‏ خرجنا ‏"‏ فذكر مثل سياق البخاري وزاد في آخره ‏"‏ ثم رجع‏"‏، وكذا ساقه الإسماعيلي من طريق أبي بدر إلا أنه لم يذكر القصة التي في أوله، وساقه من طريق أخرى عن أبي بدر أيضا فقال فيها عن ابن عمر أنه قال ‏"‏ إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فأهل بالعمرة ‏"‏ الحديث‏.‏

قال ابن التيمي‏:‏ ذهب مالك إلى أنه لا هدي على المحصر، والحجة عليه هذا الحديث لأنه نقل فيه حكم وسبب، فالسبب الحصر، والحكم النحر، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب، والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ

وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ شِبْلٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا يَرْجِعُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من قال ليس على المحصر بدل‏)‏ بفتح الموحدة والمهملة، أي قضاء لما أحصر فيه من حج أو عمرة، وهذا هو قول الجمهور كما تقدم قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال روح‏)‏ يعني ابن عبادة، وهذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في تفسيره عن روح بهذا الإسناد وهو موقوف على ابن عباس، ومراده بالتلذذ وهو بمعجمتين الجماع‏.‏

وقوله ‏"‏حبسه عذر ‏"‏ كذا للأكثر بضم المهملة وسكون المعجمة بعدها راء، ولأبي ذر ‏"‏ حبسه عدو ‏"‏ بفتح أوله وفي آخره واو‏.‏

وقوله ‏"‏أو غير ذلك ‏"‏ أي من مرض أو نفاد نفقة‏.‏

وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر‏.‏

أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه وفيه ‏"‏ فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه‏"‏‏.‏

وقوله ‏"‏وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ‏"‏ هذه مسألة اختلاف بين الصحابة ومن بعدهم، فقال الجمهور يذبح المحصر الهدي حيث يحل سواء كان في الحل أو في الحرم‏.‏

وقال أبو حنيفة لا يذبحه إلا في الحرم، وفصل آخرون كما قاله ابن عباس هنا وهو المعتمد‏.‏

وسبب اختلافهم في ذلك هل نحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية في الحل أو في الحرم، وكان عطاء يقول لم ينحر يوم الحديبية إلا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق‏.‏

وقال غيره من أهل المغازي‏:‏ إنما نحر في الحل‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال ‏"‏ لما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا، وبعث الله ريحا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم ‏"‏ قال ابن عبد البر في ‏"‏ الاستذكار ‏"‏‏:‏ فهذا يدل على أنهم حلقوا في الحل‏.‏

قلت‏:‏ ولا يخفي ما فيه، فإنه لا يلزم من كونهم ما حلقوا في الحرم لمنعهم من دخوله أن لا يكونوا أرسلوا الهدي مع من نحره في الحرم، وقد ورد ذلك في حديث ناجية بن جندب الأسلمي ‏"‏ قلت يا رسول الله أبعث معي بالهدي حتى أنحره في الحرم، ففعل ‏"‏ أخرجه النسائي من طريق إسرائيل عن مجزأة بن زاهر عن ناجية، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن إسرائيل لكن قال ‏"‏ عن ناجية عن أبيه ‏"‏ لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه، بل ظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه وكانوا في الحل وذلك دال على الجواز، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مالك وغيره‏)‏ هو مذكور في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ ولفظه أنه بلغه ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ‏"‏ ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء‏.‏

وسئل مالك عمن أحصر بعدو فقال‏:‏ يحل من كل شيء وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس وليس عليه قضاء‏.‏

وأما قول البخاري وغيره فالذي يظهر لي أنه عنى به الشافعي، لأن قوله في آخره ‏"‏ والحديبية خارج الحرم ‏"‏ هو من كلام الشافعي في ‏"‏ الأم‏"‏، وعنه أن بعضها في الحل وبعضها في الحرم، لكن إنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحل استدلالا بقوله تعالى ‏(‏وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله‏)‏ قال‏:‏ ومحل الهدي عند أهل العلم الحرم، وقد أخبر الله تعالى أنهم صدوهم عن ذلك‏.‏

قال‏:‏ فحيث ما أحصر ذبح وحل، ولا قضاء عليه من قبل أن الله تعالى لم يذكر قضاء، والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلفوا عنه‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة، انتهى‏.‏

وقد روى الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما قالوا ‏"‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهد الحديبية وكانت عدتهم ألفين ‏"‏ ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب، لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر، وقد روى الواقدي أيضا من حديث ابن عمر قال ‏"‏ لم تكن هذه العمرة قضاء، ولكن كان شرطا على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ وَأَهْدَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم طاف لهما‏)‏ أي للحج والعمرة، وهذا يخالف قول الكوفيين إنه يجب لهما طوافان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورأى أن ذلك مجزئ عنه‏)‏ كذا لأبي ذر وغيره‏.‏

بالرفع على أنه خبر أن، ووقع في رواية كريمة ‏"‏ مجزيا ‏"‏ فقيل هو على لغة من ينصب بأن المبتدأ والخبر، أو هي خبر كان المحذوفة‏.‏

والذي عندي أنه من خطأ الكاتب، فإن أصحاب الموطأ اتفقوا على روايته بالرفع على الصواب‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ

فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى ‏(‏فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ وهو مخير، فأما الصوم فثلاثة أيام‏)‏ أي باب تفسير قوله تعالى كذا، وقوله ‏"‏مخير ‏"‏ من كلام المصنف استفاده من ‏"‏ أو ‏"‏ المكررة‏.‏

وقد أشار إلى ذلك في أول ‏"‏ باب كفارات الأيمان ‏"‏ فقال‏:‏ وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة‏:‏ ما كان في القرآن ‏"‏ أو ‏"‏ فصاحبه بالخيار‏.‏

وسيأتي ذكر من وصل هذه الآثار هناك، وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ‏"‏ إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي رواية مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن عبد الكريم بإسناده في آخر الحديث ‏"‏ أي ذلك فعلت أجزأ ‏"‏ وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله ‏"‏فأما الصوم ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ الصيام‏"‏، والصيام المطلق في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاث‏.‏

قال ابن التين وغيره‏:‏ جعل الشارع هنا صوم يوم معادلا بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد، وكذا في الظهار والجماع في رمضان، وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات‏.‏

وقسيم قوله ‏"‏ فأما الصوم ‏"‏ محذوف تقديره‏.‏

وأما الصدقة فهي إطعام ستة مساكين، وقد أفرد ذلك بترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن حميد بن قيس‏)‏ في رواية أشهب عن مالك ‏"‏ أن حميد بن قيس حدثه‏"‏، أخرجها الدار قطني في ‏"‏ الموطآت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مجاهد عن عبد الرحمن‏)‏ صرح سيف عن مجاهد بسماعه من عبد الرحمن وبأن كعبا حدث عبد الرحمن كما في الباب الذي يليه‏.‏

قال ابن عبد البر في رواية حميد بن قيس هذه‏:‏ كذا رواه الأكثر عن مالك، ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن عفير عن مالك بإسقاط عيد الرحمن بين مجاهد وكعب ابن عجرة‏.‏

قلت‏:‏ ولمالك فيه إسنادان آخران في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ أحدهما عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد وفي سياقه ما ليس في سياق حميد بن قيس، وقد اختلف فيه على مالك أيضا على العكس مما اختلف فيه على طريق حميد بن قيس، قال الدار قطني‏:‏ رواه أصحاب ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن مالك عن عبد الكريم عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدا، حنى قال الشافعي‏:‏ إن مالكا وهم فيه، وأجاب ابن عبد البر بأن ابن القاسم وابن وهب في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وتابعهما جماعة عن مالك خارج الموطأ منهم بشر بن عمر الزهراني وعبد الرحمن بن مهدي وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم أثبتوا مجاهدا بينهما، وهذا الجواب لا يرد على الشافعي‏.‏

وطريق ابن القاسم المشار إليها عند النسائي وطريق ابن وهب عند الطبري وطريق عبد الرحمن بن مهدي عند أحمد وسائرها عند الدار قطني في ‏"‏ الغرائب‏"‏‏.‏

والإسناد الثالث لمالك فيه عن عطاء الخراساني عن رجل من أهل الكوفة عن كعب بن عجرة، قال ابن عبد البر‏:‏ يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى أو عبد الله بن معقل، ونقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال‏:‏ حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها لم يروها من الصحابة غيره، ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلى وابن معقل‏.‏

قال‏:‏ وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة‏.‏

قال الزهري‏:‏ سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين‏.‏

قلت‏:‏ فيما أطلقه ابن صالح نظر، فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبري والطبراني، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطبري، وفضالة الأنصاري عمن لا يتهم من قومه عند الطبري أيضا‏.‏

ورواه عن كعب ابن عجرة غير المذكورين أبو وائل عن النسائي، ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجة، ويحيى بن جعدة عند أحمد، وعطاء عند الطبري‏.‏

وجاء عن أبي قلابة والشعبي أيضا عن كعب وروايتهما عند أحمد، لكن الصواب أن بينهما واسطة وهو ابن أبي ليلى على الصحيح‏.‏

وقد أورد البخاري حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأورده أيضا في المغازي والطب وكفارات‏.‏

الأيمان من طرق أخرى مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل، فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل، وسأذكر ما في هذه الطرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ لعلك‏)‏ في رواية أشهب المقدم ذكرها ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ‏"‏ وفي رواية عبد الكريم ‏"‏ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم فآذاه القمل ‏"‏ وفي رواية سيف في الباب الذي يليه ‏"‏ وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال‏:‏ أيؤذيك هوامك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فاحلق رأسك - الحديث وفيه - قال في بزلت هذه الآية فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه‏)‏ زاد في رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني أنه أهل في ذي القعدة‏.‏

وفي رواية مغيرة عن مجاهد عند الطبري أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو محرم‏.‏

وفي رواية أيوب عن مجاهد في المغازي ‏"‏ أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت برمة والقمل يتناثر على رأسي ‏"‏ زاد في رواية ابن عون عن مجاهد في الكفارات ‏"‏ فقال ادن، فدنوت‏.‏

فقال‏:‏ أيؤذيك‏"‏‏.‏

وفي رواية ابن بشر عن مجاهد فيه قال ‏"‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تتساقط على وجهي، فقال‏:‏ أيؤذيك هوام رأسك‏؟‏ قلت‏.‏

نعم‏.‏

فأنزلت هذه الآية‏"‏‏.‏

وفي رواية أبي وائل عن كعب ‏"‏ أحرمت فكثر قمل رأسي فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي‏"‏‏.‏

وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد بعد بابين ‏"‏ رآه وأنه ليسقط القمل على وجهه، فقال‏:‏ أيؤذيك هوامك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأمره أن يحلق ‏"‏ وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية‏.‏

وأخرجه الطبراني من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد بهذه الزيادة، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة‏:‏ ‏"‏ قملت حتى ظننت أن كل شعرة في رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها ‏"‏ زاد سعيد ‏"‏ وكنت حسن الشعر‏"‏، وأول رواية عبد الله بن معقل بعد باب ‏"‏ جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال‏:‏ نزلت في خاصة وهي لكن عامة، حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال‏:‏ ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى‏"‏، زاد مسلم من هذا الوجه ‏"‏ فسألته عن هذه الآية ‏(‏ففدية من صيام‏)‏ الآية‏"‏‏.‏

ولأحمد من وجه آخر في هذه الطريق ‏"‏ وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فدعاني، فلما رآني قال‏:‏ لقد أصابك بلاء ونحن لا نشعر، ادع إلي الحجام، فحلقني ‏"‏ ولأبي داود من طريق الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب ‏"‏ أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري‏"‏‏.‏

وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري ‏"‏ فحك رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل ‏"‏ زاد الطبري من طريق الحكم ‏"‏ إن هذا لأذى، قلت شديد يا رسول الله ‏"‏ والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فرآه، وفي قول عبد الله بن معقل ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه فرآه ‏"‏ أن يقال‏:‏ مر به أو لا فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته، فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر، ويوضحه قوله في رواية ابن عون السابقة حيث قال فيها ‏"‏ فقال ادن فدنوت ‏"‏ فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مر به وهو يوقد تحت القدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لعلك آذاك هوامك‏)‏ قال القرطبي هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم، فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه‏.‏

و ‏"‏ الهوام ‏"‏ بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش، والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل، واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل، وتعقب بذكر الحلق، فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية، يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏احلق رأسا وصم‏)‏ قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم خلافا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص أو نورة أو غير ذلك، وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك فقال‏:‏ يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو أطعم‏)‏ ليس في هذه الرواية بيان قدر الإطعام، وسيأتي البحث فيه بعد باب، وهو طاهر في التخيير بين الصوم والإطعام‏.‏

وكذا قوله ‏"‏ أو انسك بشاة ‏"‏ ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ شاة ‏"‏ بغير موحدة، والأول تقديره تقرب بشاة ولذلك عداه بالباء، والثاني تقديره اذبح شاة‏.‏

والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص، وسياق رواية الباب موافق للآية، وقد تقدم أن كعبا قال إنها نزلت بهذا السبب، وقد قدمت في أول الباب أن رواية عبد الكريم صريحة في التخيير حيث قال ‏"‏ أي ذلك فعلت أجزأ‏"‏‏.‏

وكذا رواية أبي داود التي فيها ‏"‏ إن شئت وإن شئت ‏"‏ ووافقتها رواية عبد الوارث عن ابن أبي نجيح أخرجها مسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني، لكن رواية عبد الله بن معقل - الآتية بعد باب - تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك ولفظه ‏"‏ قال أتجد شاة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فصم أو أطعم ‏"‏ ولأبي داود في رواية أخرى ‏"‏ أمعك دم‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإن شئت فصم ‏"‏ ونحوه للطبراني من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني وزاد بعد قوله ما أجد هديا ‏"‏ قال‏:‏ فأطعم‏.‏

قال‏:‏ ما أجد‏.‏

قال‏:‏ صم ‏"‏ ولهذا قال أبو عوانة في صحيحه‏:‏ فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم، يعني ولا يطعم، لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد ابن جبير قال‏:‏ النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما فتصدق به أو صام لكل نصف صاع يوما، أخرجه من طريق الأعمش عنه قال‏:‏ فذكرته لإبراهيم فقال‏:‏ سمعت علقمة مثله‏.‏

فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين، وقد جمع بينهما بأوجه‏.‏

منها‏:‏ ما قال ابن عبد البر إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه‏.‏

ومنها‏:‏ ما قال النووي‏:‏ ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي، بل المراد أنه استخبره‏:‏ هل معه هدي أو لا‏؟‏ فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلمه أنه مخير بينهما‏.‏

ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم‏.‏

ومنها ما قال غيرهما‏:‏ يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بوحي غير متلو، فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصيام فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه، فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه‏.‏

ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال ‏"‏ أتجد شاة‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

فنزلت هذه الآية ‏(‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ فقال‏:‏ صم ثلاثة أيام أو أطعم‏"‏‏.‏

وفي رواية عطاء الخراساني قال ‏"‏ صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين ‏"‏ قال ‏"‏ وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به‏"‏‏.‏

ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره، بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاها بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح والإطعام‏.‏

وعرف من رواية أبي الزبير أن كعبا افتدى بالصيام‏.‏

ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح لأن لفظه ‏"‏ صم أو أطعم أو انسك شاة‏.‏

قال‏:‏ فحلقت رأسي ونسكت‏"‏‏.‏

وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء بن كعب في آخر هذا الحديث ‏"‏ فقلت يا رسول الله خر لي، قال‏:‏ أطعم ستة مساكين ‏"‏ وسيأتي البحث فيه في الباب الأخير وفيه بقية مباحث هذا الحديث إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صَدَقَةٍ وَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله عز وجل أو صدقة وهي إطعام ستة مساكين‏)‏ يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة فسرتها السنة، وبهذا قال جمهور العلماء‏.‏

وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الحسن قال‏.‏

الصوم عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين‏.‏

وروى الطبري عن عكرمة ونافع نحوه‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ لم يقل بذلك أحد من فقهاء الأمصار‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاحْلِقْ رَأْسَكَ أَوْ قَالَ احْلِقْ قَالَ فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ إِلَى آخِرِهَا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سيف‏)‏ هو ابن سليمان أو ابن أبي سليمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتهافت‏)‏ بالفاء، أي يتساقط شيئا فشيئا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاحلق رأسك أو احلق‏)‏ بحذف المفعول، وهو شك من الراوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بفرق‏)‏ بفتح الفاء والراء وقد تسكن، قاله ابن فارس‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ كلام العرب بالفتح، والمحدثون قد يسكنونه، وآخره قاف‏:‏ مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلا‏.‏

ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عند أحمد وغيره ‏"‏ الفرق ثلاثة آصع‏"‏، ولمسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى ‏"‏ أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ‏"‏ وإذا ثبت أن الفرق ثلاثة آصع اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث خلافا لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو نسك مما تيسر‏)‏ كذا لأبي ذر والأكثر‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ أو أنسك بما تيسر ‏"‏ بصيغة الأمر وبالموحدة وهي المناسبة لما قبلها، وتقدير الأول أو أنسك بنسك، والمراد به الذبح‏.‏

*3*باب الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الإطعام في الفدية نصف صاع‏)‏ أي لكل مسكين من كل شيء، يشير بذلك إلى الرد على من فرق في ذلك بين القمح وغيره‏.‏

قال ابن عبد البر قال أبو حنيفة والكوفيون‏:‏ نصف صاع من قمح وصاع من تمر وغيره‏.‏

وعن أحمد رواية تضاهي قولهم‏.‏

قال عياض‏:‏ وهذا الحديث يرد عليهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفِدْيَةِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى تَجِدُ شَاةً فَقُلْتُ لَا فَقَالَ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن بن الأصبهاني‏)‏ هو ابن عبد الله، مر في الجنائز وأنه كوفي ثقة‏.‏

ولشعبة في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه الطبراني من طريق حفص بن عمر عنه عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن معقل‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ سمعت عبد الله بن معقل ‏"‏ أخرجه عن عفان‏.‏

وعن بهز فرقهما عن شعبة حدثنا عبد الرحمن، وهو بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف هو ابن مقرن بالقاف وزن محمد لكن بكسر الراء، لأبيه صحبة وهو من ثقات التابعين بالكوفة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر عن عدي بن حاتم، مات سنة ثمان وثمانين من الهجرة، يلتبس بعبد الله بن مغفل بالغين المعجمة وزن محمد ويجتمعان في أن كلا منهما مزني، لكن يفترقان بأن الراوي عن كعب تابعي والآخر صحابي، وفي التابعين من اتفق مع الراوي عن كعب في اسمه واسم أبيه ثلاثة‏:‏ أحدهم يروي عن عائشة وهو محاربي، والآخر يروي عن أنس في المسح على العمامة وحديثه عند أبي داود، والثالث أصغر منهما أخرج له ابن ماجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جلست إلى كعب بن عجرة‏)‏ زاد مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة وهو في المسجد، ولأحمد عن بهز ‏"‏ قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد ‏"‏ وزاد في رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني ‏"‏ يعني مسجد الكوفة‏"‏‏.‏

وفيه الجلوس في المسجد ومذاكرة العلم والاعتناء بسبب النزول لما يترتب عليه من معرفة الحكم وتفسير القرآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى‏)‏ في رواية المستملي والحموي ‏"‏ يبلغ بك ‏"‏ وأرى الأولى بضم الهمزة أي أظن، وأرى الثانية بفتح الهمزة من الرؤية، وكذا في قوله ‏"‏ أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ‏"‏ وهو شك من الراوي هل قال الوجع أو الجهد، والجهد‏:‏ بالفتح المشقة، قال النووي والضم لغة في المشقة أيضا، وكذا حكاه عياض عن ابن دريد‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ بالضم الطاقة وبالفتح المشقة، قيتعين الفتح هنا بخلاف لفظ الجهد الماضي في حديث بدء الوحي حيث قال ‏"‏ حتى بلغ مني الجهد ‏"‏ فإنه محتمل للمعنيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت لا‏)‏ زاد مسلم وأحمد ‏"‏ فنزلت هذه الآية ‏(‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ قال‏:‏ صوم ثلاث أيام ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لكل مسكين نصف صاع‏)‏ كررها مرتين وللطبراني عن أحمد بن محمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه ‏"‏ لكل مسكين نصف صاع تمر ‏"‏ ولأحمد عن بهز عن شعبة ‏"‏ نصف صاع طعام ‏"‏ ولبشر بن عمر عن شعبة ‏"‏ نصف صاع حنطة ‏"‏ ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنه نصف صاع من زبيب فإنه قال ‏"‏ يطعم فرقا من زبيب بين ستة مساكين‏"‏‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد‏.‏

قلت‏:‏ المحفوظ عن شعبة أنه قال في الحديث ‏"‏ نصف صاع من طعام ‏"‏ والاختلاف عليه في كونه تمرا أو حنطة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود وفي إسنادها ابن إسحاق، وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما تقدم ولم يختلف فيه على أبي قلابة‏.‏

وكذا أخرجه الطبري من طريق الشعبي عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني، ومن طريق أشعث وداود الشعبي عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني، وعرف بذلك قوة قول من قال لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، ولمسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد في هذا الحديث ‏"‏ وأطعم فرقا بين ستة مساكين ‏"‏ والفرق ثلاثة آصع‏.‏

وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال فيه ‏"‏ قال سفيان‏:‏ والفرق ثلاثة آصع ‏"‏ فأشعر بأن تفسير الفرق مدرج، لكنه مقتضى الروايات الأخر، ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عند أحمد ‏"‏ لكل مسكين نصف صاع‏"‏‏.‏

وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضا ‏"‏ أو أطعم ستة مساكين مدين مدين‏"‏‏.‏

وأما ما وقع في بعض النسخ عند مسلم من رواية زكريا عن ابن الأصبهاني ‏"‏ أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاع ‏"‏ فهو تحريف ممن دون مسلم، والصواب ما في النسخ الصحيحة ‏"‏ لكل مسكينين ‏"‏ بالتثنية، وكذا أخرجه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن ابن الأصبهاني على الصواب‏.‏

*3*باب النُّسْكُ شَاةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النسك شاة‏)‏ أي النسك المذكور في الآية حيث قال ‏(‏أو نسك‏)‏ وروى الطبري من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث ‏"‏ فأنزل الله ‏(‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ والنسك شاة ‏"‏ ومن طريق محمد بن كعب القرظي عن كعب ‏"‏ أمرني أن أحلق وأفتدي بشاة‏"‏‏.‏

قال عياض ومن تبعه لأبي عمر‏:‏ كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكروا شاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء‏.‏

قلت‏:‏ يعكر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة أنه أصابه أذى فحلق ‏"‏ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة ‏"‏ وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال ‏"‏ حلق كعب بن عجرة رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي، فافتدى ببقرة ‏"‏ ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال ‏"‏ افتدى كعب من أذى كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها ‏"‏ ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار ‏"‏ قيل لابن كعب بن عجرة‏:‏ ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه‏؟‏ قال‏:‏ ذبح بقرة، فهذه الطرق كلها تدور على نافع، وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة‏.‏

وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد من طريق المقبري عن أبي هريرة ‏"‏ أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه ‏"‏ وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية نافع بن سليمان بن يسار فقال‏:‏ أخذ كعب بأرفع الكفارات، ولم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح شاة، بل وافق وزاد‏.‏

ففيه أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب‏.‏

قلت‏:‏ هو فرع ثبوت الحديث، ولم يثبت لما قدمته‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه كما جزم به أبو نعيم، وروح هو ابن عبادة، وشبل هو ابن عباد المكي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رآه وأنه يسقط‏)‏ كذا للأكثر، ولابن السكن وأبي ذر ليسقط بزيادة لام والفاعل محذوف والمراد القمل وثبت كذلك في بعض الروايات‏.‏

ورواه ابن خزيمة عن محمد بن معمر عن روح بلفظ‏:‏ ‏"‏ رآه وقمله يسقط على وجهه‏"‏، وللإسماعيلي من طريق أبي حذيفة عن شبل ‏"‏ رأى قمله يتساقط على وجهه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون الخ‏)‏ هذه الزيادة ذكرها الراوي لبيان أن الحلق كان استباحة محظور بسبب الأذى لا لقصد التحلل بالحصر وهو واضح‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ يؤخذ منه أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييأس من الوصول فيحل‏.‏

واتفقوا على أن من يئس من الوصول وجاز له أن يحل فتمادى على إحرامه ثم أمكنه أن يصل أن عليه أن يمضي إلى البيت ليتم نسكه‏.‏

وقال المهلب وغيره ما معناه‏:‏ يستفاد من قوله ‏"‏ ولم يتبين لهم أنهم يحلون ‏"‏ أن المرأة التي تعرف أوان حيضها والمريض الذي يعرف أوان حماه بالعادة فيهما إذا أفطرا في رمضان مثلا في أول النهار ثم ينكشف الأمر بالحيض والحمى في ذلك النهار أن عليهما قضاء ذلك اليوم لأن الذي كان في علم الله أنهم يحلون بالحديبية لم يسقط عن كعب الكفارة التي وجبت عليه بالحلق قبل أن ينكشف الأمر لهم، وذلك لأنه يجوز أن يتخلف ما عرفاه بالعادة فيجب القضاء عليهما لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأنزل الله الفدية‏)‏ قال عياض‏:‏ ظاهره أن النزول بعد الحكم‏.‏

وفي رواية عبد الله بن معقل أن النزول قبل الحكم‏.‏

قال‏.‏

فيحتمل أن يكون حكم عليه بالكفارة بوحي لا يتلى ثم نزل القرآن ببيان ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهو يؤيد الجمع المتقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن محمد بن يوسف‏)‏ الظاهر أنه عطف على ‏"‏ حدثنا روح ‏"‏ فيكون إسحاق قد رواه عن روح بإسناده، وعن محمد بن يوسف وهو الفريابي بإسناده، وكذا هو في تفسير إسحاق، ويحتمل أن تكون العنعنة‏.‏

للبخاري فيكون أورده عن شيخه الفريابي بالعنعنة كما يروي تارة بالتحديث وبلفظ قال وغير ذلك، وعلى هذا فيكون شبيها بالتعليق‏.‏

وقد أورده الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق هاشم بن سعيد عن محمد بن يوسف الفريابي ولفظه مثل سياق روح في أكثره، وكذا هو في تفسير الفريابي بهذا الإسناد‏.‏

وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد غير ما تقدم أن السنة مبينة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسنة، وتحريم حلق الرأس على المحرم، والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع‏.‏

وفيه تلطف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضررا سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه‏.‏

واستنبط منه بعض المالكية إيجاب الفدية على من تعمد حلق رأسه بغير عذر، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن ثم قال الشافعي والجمهور‏:‏ لا يتخير العامد بل يلزمه الدم، وخالف في ذلك أكثر المالكية، واحتج لهم القرطبي بقوله في حديث كعب ‏"‏ أو اذبح نسكا ‏"‏ قال‏:‏ فهذا يدل على أنه ليس بهدي‏.‏

قال‏:‏ فعلى هذا يجوز أن يذبحها حيث شاء‏.‏

قلت‏:‏ لا دلالة فيه إذ لا يلزم تسميتها نسكا أو نسيكة أن لا تسمى هديا أو لا تعطي حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هديا في الباب الأخير حيث قال ‏"‏ أو تهدي شاة ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ واهد هديا ‏"‏ وفي رواية للطبري ‏"‏ هل لك هدي‏؟‏ قلت‏:‏ لا أجد ‏"‏ فظهر أن ذلك من تصرف الرواة‏.‏

ويؤيده قوله في رواية مسلم ‏"‏ أو اذبح شاة ‏"‏ واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين‏.‏

وقال الحسن‏:‏ تتعين مكة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء‏.‏

وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة‏:‏ الدم والإطعام لأهل الحرم، والصيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم‏.‏

وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكية الإطعام بالصيام، واستدل به على أن الحج على التراخي لأن حديث كعب دل على أن نزول قوله تعالى ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏ كان بالحديبية وهي في سنة ست وفيه بحث، والله أعلم‏.‏