فصل: باب الْمُكْثِرُونَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ

فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ جَمْعُهُ سُعُرٌ قَالَ مُجَاهِدٌ الْغَرُورُ الشَّيْطَانُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ يا أيها الناس إن وعد الله حق الآية إلى قوله السعير‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة الآيتين‏.‏

قوله ‏(‏جمعه سعر‏)‏ بضمتين يعني السعير، وهو فعيل بمعنى مفعول من السعر بفتح أوله وسكون ثانيه وهو الشهاب من النار‏.‏

قوله ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ الغرور الشيطان‏)‏ ثبت هذا الأثر هنا في رواية الكشميهني وحده، ووصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو تفسير قوله تعالى ‏(‏ولا يغرنكم بالله الغرور‏)‏ وهو فعول بمعنى فاعل تقول غررت فلانا أصبت غرته ونلت ما أردت منه ‏"‏ والغرة ‏"‏ بالكسر غفلة في اليقظة والغرور كل ما يغر الإنسان، وإنما فسر بالشيطان لأنه رأس في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِطَهُورٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَغْتَرُّوا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏شيبان‏)‏ هو ابن عبد الرحمن، و ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن كثير، و ‏(‏محمد بن إبراهيم‏)‏ هو التيمي واسم جده الحارث بن خالد وكانت له صحبة‏.‏

قوله ‏(‏أخبرني معاذ بن عبد الرحمن‏)‏ أي ابن عثمان بن عبيد الله التيمي، وعثمان جده هو أخو طلحة بن عبيد الله، ووالده عبد الرحمن صحابي أخرج له مسلم، وكان يلقب شارب الذهب، وقتل مع ابن الزبير‏.‏

ووقع في رواية الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن إبراهيم عن شقيق بن سلمة‏.‏

هذه رواية الوليد بن مسلم عند النسائي وابن ماجه‏.‏

وفي رواية عبد الحميد بن حبيب عن الأوزاعي بسنده ‏"‏ عن عيسى بن طلحة ‏"‏ بدل شقيق بن سلمة‏.‏

قال المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏‏:‏ رواية الوليد أصوب‏.‏

قلت‏:‏ ورواية شيبان أرجح من رواية الأوزاعي لأن نافع بن جبير وعبد الله بن أبي سلمة وافقا محمد بن إبراهيم التيمي في روايته له عن معاذ بن عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون الطريقان محفوظين لأن محمد بن إبراهيم صاحب حديث فلعله سمعه من معاذ ومن عيسى بن طلحة وكل منهما من رهطه ومن بلده المدينة النبوية، وأما شقيق بن سلمة فليس من رهطه ولا من بلده‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏أن ابن أبان أخبره‏)‏ قال عياض وقع لأبي ذر والنسفي والكافة ‏"‏ أن ابن أبان أخبره ‏"‏ ووقع لابن السكن ‏"‏ أن حمران بن أبان ‏"‏ ووقع للجرجاني وحده ‏"‏ أن أبان أخبره ‏"‏ وهو خطأ‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر ‏"‏ أن ابن أبان ‏"‏ وقد أخرجه أحمد عن الحسن بن موسى عن شيبان بسند البخاري فيه ووقع عنده ‏"‏ أن حمران بن أبان أخبره‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأحسن الوضوء‏)‏ في رواية نافع بن جبير عن حمران ‏"‏ فأسبغ الوضوء ‏"‏ وتقدم في الطهارة من وجه آخر عن حمران بيان صفة الإسباغ المذكور والتثليث فيه وقول عروة ‏"‏ إن هذا أسبغ الوضوء‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم قال من توضأ مثل هذا الوضوء‏)‏ تقدم هناك توجيهه وتعقب من نفي ورود الرواية بلفظ ‏"‏ مثل ‏"‏ وأن الحكمة في ورودها بلفظ ‏"‏ نحو ‏"‏ التعذر على كل أحد أن يأتي بمثل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس‏)‏ هكذا أطلق صلاة ركعتين، وهو نحو رواية ابن شهاب‏.‏

الماضية في كتاب الطهارة، وقيده مسلم في روايته من طريق نافع بن جبير عن حمران بلفظ ‏"‏ ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو في المسجد ‏"‏ وكذا وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه عن حمران عنده ‏"‏ فيصلي صلاة ‏"‏ وفي أخرى له عنه ‏"‏ فيصلي الصلاة المكتوبة ‏"‏ وزاد ‏"‏ إلا غفر الله له ما بينها وبين الصلاة التي تليها ‏"‏ أي التي سبقتها، وفيه تقييد لما أطلق قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ غفر الله له ما تقدم من ذنبه ‏"‏ وإن التقدم خاص بالزمان الذي بين الصلاتين، وأصرح منه في رواية أبي صخرة عن حمران عند مسلم أيضا ‏"‏ ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن‏"‏، وتقدم من طريق عروة عن حمران ‏"‏ إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها ‏"‏ وله من طريق عمرو بن سعيد بن العاص عن عثمان بنحوه، وفيه تقييده بمن لم يغش الكبيرة، وقد بينت توجيه ذلك في كتاب الطهارة واضحا، والحاصل أن لحمران عن عثمان حديثين في هذا‏:‏ أحدهما مقيد بترك حديث النفس وذلك في صلاة ركعتين مطلقا غير مقيد بالمكتوبة، والآخر في الصلاة المكتوبة في الجماعة أو في المسجد من غير تقييد بترك حديث النفس‏.‏

قوله ‏(‏قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تغتروا‏)‏ قدمت شرحه في الطهارة وحاصله لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب فتسترسلوا في الذنوب اتكالا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه‏.‏

ظهر لي جواب آخر وهو أن المكفر بالصلاة هي الصغائر فلا تغتروا فتعملوا الكبيرة بناء على تكفير الذنوب بالصلاة فإنه خاص بالصغائر، أو لا تستكثروا من الصغائر فإنها بالإصرار تعطي حكم الكبيرة فلا يكفرها ما يكفر الصغيرة، أو أن ذلك خاص بأهل الطاعة فلا يناله من هو مرتبك في المعصية‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ وَيُقَالُ الذِّهَابُ الْمَطَرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ذهاب الصالحين‏)‏ أي موتهم‏.‏

قوله ‏(‏ويقال الذهاب المطر‏)‏ ثبت هذا في رواية السرخسي وحده ومراده أن لفظ الذهاب مشترك على المضي وعلى المطر‏.‏

وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الذهاب الأمطار اللينة، وهو جمع ذهبة بكسر أوله وسكون ثانيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني يحيى بن حماد‏)‏ هو من قدماء مشايخه، وقد أخرج عنه بواسطة في كتاب الحيض‏.‏

قوله ‏(‏عن بيان‏)‏ بموحدة ثم تحتانية خفيفة وهو ابن بشر، وقيس هو ابن أبي حازم، ومرداس الأسلمي هو ابن مالك، زاد الإسماعيلي‏:‏ رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عنده في رواية محمد بن فضيل عن بيان، وتقدم من وجه آخر في غزوة الحديبية من كتاب المغازي أنه كان من أصحاب الشجرة أي الذين بايعوا بيعة الرضوان، وذكر مسلم في الوحدان وتبعه جماعة ممن صنف فيها أنه لم يرو عنه إلا قيس بن أبي حازم، ووقع في ‏"‏ التهذيب للمزي ‏"‏ في ترجمة مرداس هذا أنه روى عنه زياد بن علاقة أيضا، وتعقب بأنه مرداس آخر أفرده أبو علي بن السكن في الصحابة عن مرداس بن مالك وقال‏:‏ إنه مرداس بن غروة‏.‏

وممن فرق بينهما البخاري والرازي والبستي ورجحه ابن السكن‏.‏

قوله ‏(‏يذهب الصالحون الأول فالأول‏)‏ في رواية عبد الواحد بن غياث عن أبي عوانة عند الإسماعيلي ‏"‏ يقبض ‏"‏ بدل يذهب والمراد قبض أرواحهم، وعنده من رواية خالد الطحان عن بيان ‏"‏ يذهب الصالحون أسلافا وقبض الصالحون الأول فالأول ‏"‏ والثانية تفسير للأولى‏.‏

قوله ‏(‏ويبقى حثالة أو حفالة‏)‏ هو شك هل هي بالثاء المثلثة أو بالفاء والحاء المهملة في الحالين ووقع في رواية عبد الواحد ‏"‏ حثالة ‏"‏ بالمثلثة جزما‏.‏

قوله ‏(‏كحثالة الشعير أو التمر‏)‏ يحتمل الشك ويحتمل التنويع، وقع في رواية عبد الواحد ‏"‏ كحثالة الشعير ‏"‏ فقط‏.‏

وفي رواية ‏"‏ حتى لا يبقى إلا مثل حثالة التمر والشعير ‏"‏ زاد غير أبي ذر من رواة البخاري‏:‏ قال أبو عبد الله وهو البخاري حثالة وحفالة يعني أنهما بمعنى واحد‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء، وقيل آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما‏.‏

وقال الداودي‏:‏ ما يسقط من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل‏.‏

ووجدت لهذا الحديث شاهدا من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ ‏"‏ تذهبون الخير فالخير حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر ينزو بعضهم على بعض نزو المعز ‏"‏ أخرجه أبو سعيد بن يونس في ‏"‏ تاريخ مصر ‏"‏ وليس فيه تصريح برفعه لكن له حكم المرفوع‏.‏

قوله ‏(‏لا يباليهم الله بالة‏)‏ قال الخطابي‏:‏ أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا، يقال باليت بفلان وما باليت به مبالاة وبالية وبالة‏.‏

وقال غيره‏:‏ أصل بالة بالية فحذفت الياء تخفيفا‏.‏

وتعقب قول الخطابي بأن بالية ليس مصدرا لباليت وإنما هو اسم مصدره‏.‏

وقال أبو الحسن القابسي‏:‏ سمعته في الوقف بالة، ولا أدري كيف هو في الدرج، والأصل باليته بالاة فكأن الألف حذفت في الوقف‏.‏

كذا قال، وتعقبه ابن التين بأنه لم يسمع في مصدره بالاة‏.‏

قال‏:‏ ولو علم القابسي ما نقله الخطابي أن بالة مصدر مصادر لما احتاج إلى هذا التكلف‏.‏

قلت‏:‏ تقدم في المغازي من رواية عيسى بن يونس عن بيان بلفظ ‏"‏ لا يعبأ الله بهم شيئا ‏"‏ وفي رواية عبد الواحد ‏"‏ لا يبالي الله عنهم ‏"‏ وكذا في رواية خالد الطحان، و ‏"‏ عن ‏"‏ هنا بمعنى الباء يقال ما باليت به وما باليت عنه، وقول يعبأ بالمهملة الساكنة والموحدة مهموز أي لا يبالي، وأصله من العبء بالكسر ثم الموحدة مهموز وهو الثقل فكأن معنى لا يعبأ به أنه لا وزن له عنده‏.‏

ووقع في آخر حديث الفزارية المذكور آنفا ‏"‏ على أولئك تقوم الساعة ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ في الحديث أن موت الصالحين من أشراط الساعة‏.‏

وفيه الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله به‏.‏

وفيه أنه يجوز انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر، واستدل به على جواز خلو الأرض من عالم حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفا‏.‏

ويؤيده الحديث الآتي في الفتن ‏"‏ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ‏"‏ وسيأتي بسط القول في هذه المسألة هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله حفالة وحثالة أي أنها رويت بالفاء وبالمثلثة، وهما بمعنى واحد‏.‏

*3*باب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يتقى‏)‏ بضم أوله وبالمثناة والقاف‏.‏

قوله ‏(‏من فتنة المال‏)‏ أي الالتهاء به‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏)‏ أي تشغل البال عن القيام بالطاعة، وكأنه أشار بذلك إلى ما أخرجه الترمذي وابن حيان والحاكم وصححوه من حديث كعب بن عياض ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ‏"‏ وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور عن جبير بن نفير مثله وزاد ‏"‏ ولو سيل لابن آدم واديان من مال لتمنى إليه ثالثا ‏"‏ الحديث وبها تظهر المناسبة جدا؛ وقوله سيل بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام على البناء للمجهول يقال سال الوادي إذا جرى ماؤه، وأما الفتنة بالولد فورد فيه ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن صححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث بريدة قال ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران فنزل عن المنبر فحملها فوضعهما بين يديه ثم قال‏:‏ صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولاكم فتنة ‏"‏ الحديث وظاهر الحديث أن قطع الخطبة والنزول لهما فتنة دعا إليها محبة الولد فيكون مرجوحا، والجواب أن ذلك إنما هو في حق غيره، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فهو لبيان الجواز فيكون في حقه راجحا، ولا يلزم من فعل الشيء لبيان الجواز أن لا يكون الأولى ترك فعله ففيه تنبيه على أن الفتنة بالولد مراتب، وإن هذا من أدناها، وقد يجر إلى ما فوقه فيحذر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني يحيى بن يوسف‏)‏ هو الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم ويقال له ابن أبي كريمة فقيل هي كنية أبيه وقيل‏.‏

هو جده واسمه كنيته، أخرج عنه البخاري بغير واسطة في الصحيح وأخرج عنه خارج الصحيح بواسطة‏.‏

قوله ‏(‏أخبرني أبو بكر بن عياش‏)‏ بمهملة تحتانية ثقيلة ثم معجمة، ووقع في رواية غير أبي ذر ‏"‏ حدثنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي حصين‏)‏ بمهملتين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم‏.‏

وفي رواية غير أبي ذر أيضا ‏"‏ حدثنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الإسماعيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإسماعيلي وافق أبا بكر على رفعه شريك القاضي، وقيس بن الربيع عن أبي حصين، وخالفهم إسرائيل فرواه عن أبي حصين موقوفا‏.‏

قلت‏:‏ إسرائيل أثبت منهم، ولكن اجتماع الجماعة يقاوم ذلك، وحينئذ تتم المعارضة بين الرفع والوقف فيكون الحكم للرفع والله أعلم‏.‏

وقد تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في باب الحراسة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من نوادر ما وقع في هذا الجامع الصحيح‏.‏

قوله ‏(‏تعس‏)‏ بكسر العين المهملة ويجوز الفتح أي سقط والمراد هنا هلك‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ التعس الشر، قال تعالى ‏(‏فتعسا لهم‏)‏ أراد ألزمهم الشر، وقيل التعس البعد أي بعدا لهم‏.‏

وقال غيره قولهم تعسا لفلان نقيض قولهم لعا له، فتعسا دعاء عليه بالعثرة ولعا دعاء له بالانتقاش‏.‏

قوله ‏(‏عبد الدينار‏)‏ أي طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده‏.‏

قال الطيبي‏:‏ قيل خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصا، ولم يقل مالك الدينار ولا جامع الدينار لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة‏.‏

وقوله ‏"‏إن أعطى إلخ ‏"‏ يؤذن بشدة الحرص على ذلك‏.‏

وقال غيره‏:‏ جعله عبدا لهما لشغفه وحرصه، فمن كان عبدا لهواه لم يصدق في حقه ‏(‏إياك نعبد‏)‏ فلا يكون من اتصف بذلك صديقا‏.‏

قوله ‏(‏والقطيفة‏)‏ هي الثوب الذي له خمل ‏"‏ والخميصة الكساء المربع ‏"‏ وقد تقدم الحديث، في كتاب الجهاد من رواية عبد الله بن دينار عن أبي صالح بلفظ ‏"‏ تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ‏"‏ وقوله وانتكس أي عاوده المرض فعلى ما تقدم من تفسير التعس بالسقوط يكون المراد أنه إذا قام من سقطته عاوده السقوط، ويحتمل أن يكون المعنى بانتكس بعد تعس انقلب على رأسه بعد أن سقط‏.‏

ثم وجدته في شرح الطيبي، قال في قوله ‏"‏ تعس وانتكس ‏"‏ فيه الترقي في الدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه، وقيل التعس الخر على الوجه والنكس الخر على الرأس‏.‏

وقوله في الرواية المذكورة ‏"‏ وإذا شيك ‏"‏ بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم كاف أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش وهو معنى قوله فلا انتقش، ويحتمل أن يريد لم يقدر الطبيب أن يخرجها‏.‏

وفيه إشارة إلى الدعاء عليه بما يثبطه عن السعي والحركة، وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات‏.‏

قال الطيبي‏:‏ وإنما خص انتقاش الشوكة بالذكر لأنه أسهل ما يتصور من المعاونة، فإذا انتفى ذلك الأسهل انتفى ما فوقه بطريق الأولى‏.‏

قوله ‏(‏إن أعطي‏)‏ بضم أوله‏.‏

قوله ‏(‏وإن لم يعط لم يرض‏)‏ وقع من وجه آخر عن أبي بكر بن عياش عند ابن ماجه والإسماعيلي بلفظ الوفاء عوض الرضا وأحدهما ملزوم للآخر غالبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عطاء‏)‏ هو ابن أبي رباح، وصرح في الرواية الثانية بسماع ابن جريج له من عطاء، وهذا هو الحكمة في إيراد الإسناد النازل عقب العالي إذ بينه وبين ابن جريح في الأول واحد وفي الثاني اثنان، وفي السند الثاني أيضا فائدة أخرى وهي الزيادة في آخره، ومحمد في الثاني هو ابن سلام وقد نسب في رواية أبي زيد المروزي كذلك، ومخلد بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة‏.‏

قوله ‏(‏سمعت النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا من الأحاديث التي صرح فيها ابن عباس بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة بالنسبة لمرويه عنه، فإنه أحد المكثرين، ومع ذلك فتحمله كان أكثره عن كبار الصحابة‏.‏

قوله ‏(‏لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا‏)‏ في الرواية الثانية ‏"‏ لو أن لابن آدم واديا مالا لأحب أن له إليه مثله ‏"‏ ونحوه في حديث أنس في الباب وجمع بين الأمرين في الباب أيضا، ومثله في مرسل جبير بن نفير الذي قدمته وفي حديث أبي الذي سأذكره، وقوله ‏"‏من مال ‏"‏ فسره في حديث ابن الزبير بقوله ‏"‏ من ذهب ‏"‏ ومثله في حديث أنس في الباب وفي حديث زيد بن أرقم عند أحمد وزاد ‏"‏ وفضة ‏"‏ وأوله مثل لفظ رواية ابن عباس الأولى، ولفظه عند أبي عبيدة في فضائل القرآن ‏"‏ كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى الثالث ‏"‏ وله من حديث جابر بلفظ ‏"‏ لو كان لابن آدم وادي نخل ‏"‏ وقوله ‏"‏ لابتغى ‏"‏ بالغين المعجمة وهو افتعل بمعنى الطلب، ومثله في حديث زيد بن أرقم، وفي الرواية الثانية ‏"‏ أحب ‏"‏ وكذا في حديث أنس‏.‏

وقال في حديث أنس ‏"‏ لتمنى مثله ثم تمنى مثله حتى يتمنى أودية‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولا يملأ جوف ابن آدم‏)‏ في رواية حجاج بن محمد عن ابن جريح عند الإسماعيلي ‏"‏ نفس ‏"‏ بدل ‏"‏ جوف ‏"‏ وفي حديث جابر كالأول، وفي مرسل حبير بن نفير ‏"‏ ولا يشبع ‏"‏ بضم أوله ‏"‏ جوف ‏"‏ وفي حديث ابن الزبير ‏"‏ ولا يسد جوف ‏"‏ وفي الرواية الثانية في الباب ‏"‏ ولا يملأ عين ‏"‏ وفي حديث أنس فيه ‏"‏ ولا يملأ فاه ‏"‏ ومثله في حديث أبي واقد عند أحمد، وله في حديث زيد بن أرقم ‏"‏ ولا يملأ بطن ‏"‏ قال الكرماني‏:‏ ليس المراد الحقيقة في عضو بعينه بقرينة عدم الانحصار في التراب إذ غيره يملؤه أيضا، بل هو كناية عن الموت لأنه مستلزم للامتلاء، فكأنه قال لا يشبع من الدنيا حتى يموت، فالغرض من العبارات كلها واحد وهي من التفنن في العبارة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يحسن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث، وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة، ثم نسبة الامتلاء للجوف واضحة، والبطن بمعناه، وأما النفس فعبر بها عن الذات وأطلق الذات وأراد البطن من إطلاق الكل وإرادة البعض، وأما بالنسبة إلى الفم فلكونه الطريق إلى الوصول للجوف، ويحتمل أن يكون المراد بالنفس العين، وأما العين فلأنها الأصل في الطلب لأنه يرى ما يعجبه فيطلبه ليحوزه إليه، وخص البطن في أكثر الروايات لأن أكثر ما يطلب المال لتحصيل المستلذات أكثرها يكون للأكل والشرب‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ وقع قوله ‏"‏ ولا يملأ إلخ ‏"‏ موقع التذييل والتقرير للكلام السابق كأنه قيل ولا يشبع من خلق من التراب إلا بالتراب‏.‏

ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكر التراب، دون غيره أن المرء لا ينقضي طمعه حتى يموت، فإذا مات كان من شأنه أن يدفن فإذا دفن صب عليه التراب فملأ حوفه وفاه وعينيه ولم يبق منه موضع يحتاج إلى تراب غيره‏.‏

وأما النسبة إلى الفم فلكونه الطريق إلى للوصول للجوف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا أَدْرِي مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ويتوب الله على من تاب‏)‏ أي أن الله يقبل التوبة من الحريص كما يقبلها من غيره، قيل وفيه إشارة إلى ذم الاستكثار من جمع المال وتمني ذلك والحرص عليه، للإشارة إلى أن الذي يترك ذلك يطلق عليه أنه تاب، ويحتمل أن يكون تاب بالمعنى اللغوي وهو مطلق الرجوع أي رجع عن ذلك الفعل والتمني‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ يمكن أن يكون معناه أن الآدمي مجبول على حب المال وأنه لا يشبع من جمعه إلا من حفظه الله تعالى ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه وقليل ما هم، فوضع ‏"‏ ويتوب ‏"‏ موضعه إشعارا بأن هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بتوفيق الله وتسديده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ‏(‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏)‏ ففي إضافة الشح إلى النفس دلالة على أنه غريزة فيها‏.‏

وفي قوله ‏(‏ومن يوق‏)‏ إشارة إلى إمكان إزالة ذلك، ثم رتب الفلاح على ذلك قال‏:‏ وتؤخذ المناسبة أيضا من ذكر التراب، فإن فيه إشارة إلى أن الآدمي خلق من التراب ومن طبعه القبض واليبس، وأن إزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه ما يصلحه حتى يثمر الخلال الزكية والخصال المرضية، قال تعالى ‏(‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا‏)‏ فوقع قوله ‏"‏ ويتوب الله إلخ ‏"‏ موقع الاستدراك، أي أن ذلك العسر الصعب يمكن أن يكون يسيرا على من يسره الله تعالى عليه‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ فلا أدري من القرآن هو أم لا‏)‏ يعني الحديث المذكور، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على حديث أبي‏.‏

قوله ‏(‏قال وسمعت ابن الزبير‏)‏ القائل هو عطاء، وهو متصل بالسند المذكور‏.‏

وقوله ‏"‏على المنبر ‏"‏ بين في الرواية التي بعدها أنه منبر مكة، وقوله ‏"‏ذلك ‏"‏ إشارة إلى الحديث، وظاهره أنه باللفظ المذكور بدون زيادة ابن عباس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلْئًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل‏)‏ أي غسيل الملائكة وهو حنظلة بن أبي عامر الأوسي، وهو جد سليمان المذكور لأنه ابن عبد الله بن حنظلة، ولعبد الله صحبة وهو من صغار الصحابة وقتل يوم الحرة وكان الأمير على طائفة الأنصار يومئذ، وأبوه استشهد بأحد وهو من كبار الصحابة وأبوه أبو عامر يعرف بالراهب وهو الذي بني مسجد الضرار بسببه ونزل فيه القرآن‏.‏

وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين لأنه لقي بعض صغار الصحابة، وهذا الإسناد من أعلى ما في صحيح البخاري لأنه في حكم الثلاثيات وإن كان رباعيا، وعباس بن سهل بن سعد هو ولد الصحابي المشهور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد العزيز‏)‏ هو الأويسي، وصالح هو ابن كيسان، وابن شهاب هو الزهري‏.‏

قوله ‏(‏أحب أن يكون‏)‏ كذا وقع بغير لام وهو جائز، وقد تقدم من رواية ابن عباس بلفظ ‏"‏ لأحب ‏"‏ قوله ‏(‏وقال لنا أبو الوليد‏)‏ هو الطيالسي هشام بن عبد الملك، وشيخه حماد بن سلمة لم يعدوه فيمن خرج له البخاري موصولا، بل علم المزي على هذا السند في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ علامة التعليق، وكذا رقم لحماد بن سلمة في التهذيب علامة التعليق ولم ينبه على هذا الموضع، وهو مصير منه إلى استواء قال فلان وقال لنا فلان، وليس بجيد لأن قوله قال لنا ظاهر في الوصل وإن كان بعضهم قال إنها للإجازة أو للمناولة أو للمذاكرة فكل ذلك في حكم الموصول، وإن كان التصريح بالتحديث أشد اتصالا، والذي ظهر لي بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يأتي بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه، كأن يكون ظاهره الوقف، أو في السند من ليس على شرطه في الاحتجاج، فمن أمثلة الأول قوله في كتاب النكاح في ‏"‏ باب ما يحل من النساء وما يحرم ‏"‏‏:‏ ‏"‏ قال لنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد هو القطان ‏"‏ فذكر عن ابن عباس قال ‏"‏ حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ‏"‏ الحديث، فهذا من كلام ابن عباس فهو موقوف، وإن كان يمكن أن يتلمح له ما يلحقه بالمرفوع‏.‏

ومن أمثلة الثاني قوله في المزارعة ‏"‏ قال لنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان العطار ‏"‏ فذكر حديث أنس ‏"‏ لا يغرس مسلم غرسا ‏"‏ الحديث، فأبان ليس على شرطه كحماد بن سلمة، وعبر في التخريج لكل منهما بهذه الصيغة لذلك، وقد علق عنهما أشياء بخلاف الواسطة التي بينه وبينه وذلك تعليق ظاهر؛ وهو أظهر في كونه لم يسقه مساق الاحتجاج من هذه الصيغة المذكورة هنا، لكن السر فيه ما ذكرت وأمثلة ذلك في الكتاب كثيرة تظهر لمن تتبعها‏.‏

قوله ‏(‏عن ثابت‏)‏ هو البناني ويقال إن حماد بن سلمة كان أثبت الناس في ثابت، وقد أكثر مسلم من تخريج ذلك محتجا به ولم يكثر من الاحتجاج بحماد بن سلمة كإكثاره في احتجاجه بهذه النسخة‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي‏)‏ هو ابن كعب، وهذا من رواية صحابي عن صحابي وإن كان أبي أكبر من أنس‏.‏

قوله ‏(‏كنا نرى‏)‏ بضم النون أوله أي نظن، ويجوز فتحها من الرأي أي نعتقد‏.‏

قوله ‏(‏هذا‏)‏ لم يبين ما أشار إليه بقوله هذا، وقد بينه الإسماعيلي من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة ولفظه ‏"‏ كنا نرى هذا الحديث من القرآن‏:‏ لو أن لابن آدم واديين من مال لتمني واديا ثالثا ‏"‏ الحديث دون قوله ‏"‏ ويتوب الله إلخ‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى نزلت ألهاكم التكاثر‏)‏ زاد في رواية موسى بن إسماعيل ‏"‏ إلى آخر السورة ‏"‏ وللإسماعيلي أيضا من طريق عفان ومن طريق أحمد بن إسحاق، الحضرمي قالا ‏"‏ حدثنا حماد بن سلمة ‏"‏ فذكر مثله وأوله ‏"‏ كنا نرى أن هذا من القرآن إلخ‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هكذا وقع حديث أبي بن كعب من رواية ثابت عن أنس عنه مقدما على رواية ابن شهاب عن أنس في هذا الباب عند أبي ذر، وعكس ذلك غيره وهو الأنسب، قال ابن بطال وغيره‏:‏ قوله ‏(‏ألهاكم التكاثر‏)‏ خرج على لفظ الخطاب لأن الله فطر الناس على حب المال والولد فلهم رغبة في الاستكثار من ذلك، ومن لازم ذلك الغفلة عن القيام بما أمروا به حتى يفجأهم الموت‏.‏

وفي أحاديث الباب ذم الحرص والشره ومن ثم آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة باليسير والرضا بالكفاف، ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك ولا بد لكل أحد منه، فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرحه بعضهم على أنه كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت ‏(‏ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر‏)‏ فاستمرت تلاوتها فكانت ناسخة لتلاوة ذلك‏.‏

وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء‏.‏

قلت‏:‏ يؤيد ما رده ما أخرجه الترمذي من طريق زر بن حبيش ‏"‏ عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه ‏(‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب‏)‏ قال وقرأ فيها‏:‏ إن الدين عند الله الحنيفية السمحة ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ وقرأ عليه‏:‏ لو أن لابن آدم واديا من مال ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ ويتوب الله على من تاب ‏"‏ وسنده جيد، والجمع بينه وبين حديث أنس عن أبي المذكور آنفا أنه يحتمل أن يكون أبي لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لم يكن‏)‏ وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم احتمل عنده أن يكون بقية السورة واحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتهيأ له أن يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى نزلت ‏(‏ألهاكم التكاثر‏)‏ فلم ينتف الاحتمال‏.‏

ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في ‏"‏ فضائل القرآن ‏"‏ من حديث أبي واقد الليثي قال ‏"‏ كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم‏:‏ إن الله قال إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان ‏"‏ الحديث بتمامه، وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما وإن كان حكمه مستمرا‏.‏

ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في ‏"‏ فضائل القرآن ‏"‏ من حديث أبي موسى قال ‏"‏ قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها‏:‏ ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ‏"‏ الحديث، ومن حديث جابر ‏"‏ كنا نقرأ لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله ‏"‏ الحديث

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن هذا المال خضرة حلوة‏)‏ تقدم شرحه قريبا في ‏"‏ باب ما يحذر من زهرة الدنيا ‏"‏ في شرح حديث أبي سعيد الخدري‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، ولأبي زيد المروزي ‏"‏ حب الشهوات الآية ‏"‏ وللإسماعيلي مثل أبي ذر وزاد ‏"‏ إلى قوله ذلك متاع الحياة الدنيا ‏"‏ وساق ذلك في رواية كريمة‏.‏

وقوله ‏"‏زين ‏"‏ قيل الحكمة في ترك الإفصاح بالذي زين أن يتناول اللفظ جميع من تصح نسبة التزيين إليه، وإن كان العلم أحاط بأنه سبحانه وتعالى هو الفاعل بالحقيقة، فهو الذي أوجد الدنيا وما فيها وهيأها للانتفاع وجعل القلوب مائلة إليها، وإلى ذلك الإشارة بالتزيين ليدخل فيه حديث النفس ووسوسة الشيطان، ونسبة ذلك إلى الله تعالى باعتبار الخلق والتقدير والتهيئة، ونسبة ذلك للشيطان باعتبار ما أقدره الله عليه من التسلط على الآدمي بالوسوسة الناشئ عنها حديث النفس‏.‏

وقال ابن التين بدأ في الآية بالنساء لأنهن أشد الأشياء فتنة للرجال، ومنه حديث ‏"‏ ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ‏"‏ قال‏:‏ ومعنى تزيينها إعجاب الرجل بها وطواعيته لها‏.‏

والقناطير جمع قنطار، واختلف في تقديره فقيل سبعون ألف دينار وقيل سبعة آلاف دينار وقيل مائة وعشرون رطلا وقيل مائة رطل وقيل ألف مثقال وقيل ألف ومائتا أوقية، وقيل معناه الشيء الكثير مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ القول الأخير قيل هذا أصح الأقوال لكن يختلف القنطار في البلاد باختلافها في قدر الوقية‏.‏

قوله ‏(‏وقال عمر‏:‏ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرج بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه‏)‏ سقط هذا التعليق في رواية أبي زيد المروز، وفي هذا الأثر إشارة إلى أن فاعل التزيين المذكور في الآية هو الله، وأن تزيين ذلك بمعنى تحسينه في قلوب بني آدم وأنهم جبلوا على ذلك، لكن منهم من استمر على ما طبع عليه من ذلك وانهمك فيه وهو المذموم، ومنهم من راعى فيه الأمر والنهي ووقف عند ما حد له من ذلك وذلك بمجاهدة نفسه بتوفيق الله تعالى له فهذا لم يتناوله الذم، ومنهم من ارتقى عن ذلك فزهد فيه بعد أن قدر عليه وأعرض عنه مع إقباله عليه وتمكنه منه، فهذا هو المقام المحمود، وإلى ذلك الإشارة بقول عمر ‏"‏ اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه ‏"‏ وأثره هذا وصله الدار قطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري ‏"‏ أن عمر بن الخطاب أتى بمال من المشرق يقال له نفل كسرى، فأمر به فصب وغطى، ثم دعا الناس فاجتمعوا ثم أمر به فكشف عنه، فإذا حلى كثير وجوهر ومتاع، فبكى عمر وحمد الله عز وجل فقالوا له‏:‏ ما يبكيك يا أمير المؤمنين‏؟‏ هذه غنائم غنمها الله لنا ونزعها من أهلها، فقال‏:‏ ما فتح من هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم واستحلوا حرمتهم‏.‏

قال فحدثني زيد بن أسلم أنه بقى من ذلك المال مناطق وخواتم فرفع، فقال له عبد الله بن أرقم‏:‏ حتى متى تحبسه لا تقسمه‏؟‏ قال‏:‏ بلى إذا رأيتني فارغا فآذني به، فلما رآه فارغا بسط شيئا في حش نخلة ثم جاء به في مكتل فصبه‏.‏

فكأنه استكثره ثم قال‏:‏ اللهم أنت قلت زين للناس حب الشهوات، فتلا الآية حتى فرغ مها ثم قال‏:‏ لا نستطيع إلا أن نحب ما زينت لنا، فقني شره وارزقني أن أنفقه في حقك، فما قام حتى ما بقي منه شيء ‏"‏ وأخرجه أيضا من طريق عبد العزيز بن يحيى المدني عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه نحوه، وهذا موصول لكن في سنده إلى عبد العزيز ضعف‏.‏

وقال بعد قوله واستحلوا حرمتهم وقطعوا أرحامهم‏:‏ فما رام حتى قسمه، وبقيت منه قطع‏.‏

وقال بعد قوله لا نستطيع إلا أن يتزين لنا ما زينت لنا‏.‏

والباقي نحوه، وزاد في آخره قصة أخرى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ هَذَا الْمَالُ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة‏.‏

قوله ‏(‏ثم قال‏:‏ إن هذا المال، ربما قال سفيان‏:‏ قال لي يا حكيم إن هذا المال‏)‏ فاعل قال أولا هو النبي صلى الله عليه وسلم والقائل ‏"‏ ربما ‏"‏ هو علي بن المدايني راويه عن سفيان، والقائل قال لي هو حكيم بن حزام صحابي الحديث المذكور، وحكيم بالرفع بغير تنوين منادى مفرد حذف منه حرف النداء، وظاهر السياق إن حكيما قال لسفيان وليس كذلك لأنه لم يدركه لأن بين وفاة حكيم ومولد سفيان نحو الخمسين سنة ولهذا لا يقرأ حكيم بالتنوين وإنما المراد أن سفيان رواه مرة بلفظ ‏"‏ ثم قال ‏"‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن هذا المال ‏"‏ ومرة بلفظ ‏"‏ ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال إلخ ‏"‏ وقد وقع بإثبات حرف النداء في معظم الروايات، وإنما سقط من رواية أبي زيد المروزي، وتقدم شرح قوله ‏"‏ فمن أخذه بطيب نفس إلخ ‏"‏ في باب ‏"‏ الاستعفاف عن المسألة ‏"‏ من كتاب الزكاة، وتقدم شرح قوله في آخره ‏"‏ واليد العليا خير من اليد السفلى ‏"‏ في ‏"‏ باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى ‏"‏ من كتاب الزكاة أيضا، وقوله ‏"‏بورك له فيه ‏"‏ زاد الإسماعيلي من رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان بسنده ومتنه، وإبراهيم كان أحد الحفاظ وفيه مقال‏.‏

*3*باب مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما قدم من ماله فهو له‏)‏ الضمير للإنسان المكلف، وحذفـه للعلم به وإن لم يجر له ذكر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ قَالَ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عمر بن حفص‏)‏ أي ابن غياث‏.‏

وعبد الله هو ابن مسعود، ورجال السند كلهم كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله‏)‏ أي أن الذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان هو في الحال منسوبا إليه فإنه باعتبار انتقاله إلى وارثه يكون منسوبا للوارث، فنسبته للمالك في حياته حقيقية ونسبته للوارث في حياة المورث مجازية ومن بعد موته حقيقية‏.‏

قوله ‏(‏فإن ماله ما قدم‏)‏ أي هو الذي يضاف إليه في الحياة وبعد الموت بخلاف المال الذي يخلفه، وقد أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش به سندا ومتنا وزاد في آخره ‏"‏ ما تعدون الصرعة فيكم ‏"‏ الحديث وزاد فيه أيضا ‏"‏ ما تعدون الرقوب فيكم ‏"‏ الحديث‏.‏

قال ابن بطال وغيره‏:‏ فيه التحريض على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبر لينتفع به في الآخرة، فإن كل شيء يخلفه المورث يصير ملكا للوارث فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثواب ذلك وكان ذلك الذي تعب في جمعه ومنعه، وإن عمل فيه بمعصية الله فذاك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع به إن سلم من تبعته‏.‏

ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم لسعد ‏"‏ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ‏"‏ لأن حديث سعد محمول على من تصدق بماله كله أو معظمه في مرضه، وحديث ابن مسعود في حق من يتصدق في صحته وشحه‏.‏

*3*باب الْمُكْثِرُونَ

هُمْ الْمُقِلُّونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب المكثرون هم المقلون‏)‏ كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ الأقلون ‏"‏ وقد ورد الحديث باللفظين، ووقع في رواية المعرور عن أبي ذر ‏"‏ الأخسرون ‏"‏ بدل ‏"‏ المقلون ‏"‏ وهو بمعناه بناء على أن المراد بالقلة في الحديث قلة الثواب وكل من قل ثوابه فهو خاسر بالنسبة لمن كثر ثوابه‏.‏

قوله ‏(‏وقوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآيتين‏)‏ كذا لأبي ذر‏.‏

وفي رواية أبي زيد بعد قوله وزينتها ‏"‏ نوف إليهم أعمالهم فيها الآية ‏"‏ ومثله للإسماعيلي لكن قال ‏"‏ إلى قوله وباطل ما كانوا يعملون ‏"‏ ولم يقل الآية‏.‏

وساق الآيتين في رواية الأصيلي وكريمة‏.‏

واختلف في الآية فقيل‏:‏ هي على عمومها في الكفار وفيمن يرائي بعمله من المسلمين، وقد استشهد بها معاوية لصحة الحديث الذي حدث به أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق ‏"‏ لقوله تعالى لكل منهم‏:‏ إنما عملت ليقال فقد قيل فبكى معاوية لما سمع هذا الحديث ثم تلا هذه الآية ‏"‏ أخرجه الترمذي مطولا وأصله عند مسلم، وقيل بل هي في حق الكفار خاصة بدليل الحصر في قوله في الآية التي تليها ‏(‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار‏)‏ والمؤمن في الجملة مآله إلى الجنة بالشفاعة أو مطلق العفو، والوعيد في الآية بالنار وإحباط العمل وبطلانه إنما هو للكافر‏.‏

وأجيب عن ذلك بأن الوعيد بالنسبة إلى ذلك العمل الذي وقع الرياء فيه فقط فيجازي فاعله بذلك إلا أن يعفو الله عنه، وليس المراد إحباط جميع أعماله الصالحة التي لم يقع فيها رياء‏.‏

والحاصل أن من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له وجوزي في الآخرة بالعذاب لتجريده قصده إلى الدنيا وإعراضه على الآخرة، وقيل نزلت في المجاهدين خاصة وهو ضعيف؛ وعلى تقديره ثبوته فعمومها شامل لكل مراء، وعموم قوله ‏(‏نوف إليهم أعمالهم فيها‏)‏ أي في الدنيا مخصوص بمن لم يقدر الله له ذلك لقوله تعالى ‏(‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏)‏ فعلى هذا التقييد يحمل ذلك المطلق، وكذا يقيد مطلق قوله ‏(‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب‏)‏ وبهذا يندفع إشكال من قال قد يوجد بعض الكفار مقترا عليه في الدنيا غير موسع عليه من المال أو من الصحة أو من طول العمر، بل قد يوجد من هو منحوس الحظ من جميع ذلك كمن قيل في حقه ‏(‏خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏)‏ ومناسبة ذكر الآية في الباب لحديثه أن في الحديث إشارة إلى أن الوعيد الذي فيها محمول على التأقيت في حق من وقع له ذلك من المسلمين لا على التأييد لدلالة الحديث على أن مرتكب جنس الكبيرة من المسلمين يدخل الجنة، وليس فيه ما ينفي أنه قد يعذب قبل ذلك، كما أنه ليس في الآية ما ينفي أنه قد يدخل الجنة بعد التعذيب على معصية الرياء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ قَالَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ قَالَ فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ مَنْ هَذَا قُلْتُ أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ لِي اجْلِسْ هَا هُنَا قَالَ فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ فَقَالَ لِي اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ قَالَ فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وَهُوَ يَقُولُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ قَالَ بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْتُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالْأَعْمَشُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا إِذَا مَاتَ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، وقد روى جرير بن حازم هذا الحديث لكن عن الأعمش عن زيد ابن وهب كما سيأتي بيانه، لكن قتيبة لم يدركه ابن حازم، وعبد العزيز بن رفيع بفاء ومهملة مصغر مكي سكن الكوفة وهو من صغار التابعين لقي بعض الصحابة كأنس‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي ذر‏)‏ في رواية الأعمش الماضية في الاستئذان عن زيد بن وهب ‏"‏ حدثنا والله أبو ذر بالربذة ‏"‏ بفتح الراء والموحدة بعدها معجمة مكان معروف من عمل المدينة النبوية وبينهما ثلاث مراحل من طريق العراق، سكنه أبو ذر بأمر عثمان ومات به في خلافته، وقد تقدم بيان سبب ذلك في كتاب الزكاة‏.‏

قوله ‏(‏خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان‏)‏ هو تأكيد لقوله ‏"‏ وحده ‏"‏ ويحتمل أن يكون لرفع توهم أن يكون معه أحد من غير جنس الإنسان من ملك أو جني‏.‏

وفي رواية الأعمش عن زيد بن وهب عنه ‏"‏ كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ‏"‏ فأفادت تعيين الزمان والمكان، والحرة مكان معروف بالمدينة من الجانب الشمالي منها وكانت به الوقعة المشهورة في زمن يزيد بن معاوية‏.‏

وقيل الحرة الأرض التي حجارتها سود، وهو يشمل جميع جهات المدينة التي لا عمارة فيها، وهذا يدل على أن قوله في رواية المعرور بن سويد عن أبي ذر ‏"‏ انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة وهو يقول هم الأخسرون ورب الكعبة ‏"‏ فذكر قصة المكثرون وهي قصة أخرى مختلفة الزمان والمكان والسياق‏.‏

قوله ‏(‏فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد فجعلت أمشي في ظل القمر‏)‏ أي في المكان الذي ليس للقمر فيه ضوء ليخفي شخصه، وإنما استمر يمشي لاحتمال أن يطرأ للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة فيكون قريبا منه‏.‏

قوله ‏(‏فالتقت فرآني فقال‏:‏ من هذا‏)‏ كأنه رأى شخصه ولم يتميز له‏.‏

قوله ‏(‏فقلت أبو ذر‏)‏ أي أنا أبو ذر‏.‏

قوله ‏(‏جعلني الله فداءك‏)‏ في رواية أبي الأحوص في الباب بعده عن الأعمش وكذا لأبي معاوية عن الأعمش عند أحمد ‏"‏ فقلت لبيك يا رسول الله ‏"‏ وفي رواية حفص عن الأعمش كما مضى في الاستئذان ‏"‏ فقلت لبيك وسعديك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال أبا ذر تعال‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ تعاله ‏"‏ بهاء السكت؛ قال الداودي‏:‏ فائدة الوقوف على هاء السكت أن لا يقف على ساكنين نقله ابن التين، وتعقب بأن ذلك غير مطرد، وقد اختصر أبو زيد المروزي في روايته سياق الحديث في هذا الباب فقال بعد قوله ‏"‏ ليس معه أحد ‏"‏ فذكر الحديث وقال فيه ‏"‏ إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ‏"‏‏:‏ هكذا عنده وساق الباقون الحديث بتمامه، ويأتي شرحه مستوفي في الباب الذي بعده‏.‏

قوله ‏(‏وقال النضر‏)‏ بن شميل ‏"‏ أنبأنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت والأعمش وعبد العزيز بن رفيع قالوا حدثنا زيد بن وهب بهذا ‏"‏ الغرض بهذا التعليق تصريح الشيوخ الثلاثة المذكورين بأن زيد بن وهب حدثهم، والأولان نسبا إلى التدليس مع أنه لو ورد من رواية شعبة بغير تصريح لأمن فيه التدليس لأنه كان لا يحدث عن شيوخه إلا بما لا تدليس فيه، وقد ظهرت فائدة ذلك في رواية جرير بن حازم عن الأعمش فإنه زاد فيه بين الأعمش وزيد بن وهب رجلا مبهما، ذكر ذلك الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ فأفادت هذه الرواية المصرحة أنه من المزيد في متصل الأسانيد‏.‏

وقد اعترض الإسماعيلي على قول البخاري في هذا السند ‏"‏ بهذا ‏"‏ فأشار إلى رواية عبد العزيز ابن رفيع، واقتضى ذلك أن رواية شعبة هذه نظير روايته فقال‏:‏ ليس في حديث قصة المقلين والمكثرين، إنما فيه قصة من مات لا يشرك بالله شيئا قال‏:‏ والعجب من البخاري كيف أطلق ذلك ثم ساقه موصولا من طريق حميد ابن زنجويه حدثنا النضر بن شميل عن شعبة ولفظه ‏"‏ أن جبريل بشرني أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة‏.‏

قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال وإن زنى وإن سرق‏"‏‏.‏

قيل لسليمان يعني الأعمش إنما روى هذا الحديث عن أبي الدرداء، فقال‏:‏ إنما سمعته عن أبي ذر‏.‏

ثم أخرجه من طريق معاذ حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت وبلال والأعمش وعبد العزيز بن رفيع سمعوا زيد بن وهب عن أبي ذر زاد فيه راويا وهو بلال وهو ابن مرداس الفزاري، شيخ كوفي أخرج له أبو داود، وهو صدوق لا بأس به‏.‏

وقد أخرجه أبو داود الطيالسي عن شعبة كرواية النضر ليس فيه بلال، وقد تبع الإسماعيلي على اعتراضه المذكور جماعة منهم مغلطاي ومن بعده، والجواب عن البخاري واضح على طريقة أهل الحديث لأن مراده أصل الحديث، فإن الحديث المذكور في الأصل قد اشتمل على ثلاثة أشياء فيجوز إطلاق الحديث على كل واحد من الثلاثة إذا أريد بقول البخاري ‏"‏ بهذا ‏"‏ أي بأصل الحديث لا خصوص اللفظ المساق، فالأول من الثلاثة ‏"‏ ما يسرني أن لي أحدا ذهبا ‏"‏ وقد رواه عن أبي ذر أيضا بنحوه الأحنف بن قيس وتقدم في الزكاة، والنعمان الغفاري وسالم بن أبي الجعد وسويد بن الحارث كلهم عن أبي ذر، وروياتهم عند أحمد، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أبو هريرة وهو في آخر الباب من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه، وسيأتي في كتاب التمني من طريق همام، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن زياد وهو عند أحمد من طريق سليمان بن يسار كلهم عن أبي هريرة كما سأبينه‏.‏

الثاني حديث المكثرين والمقلين، وقد رواه عن أبي ذر أيضا المعرور بن سويد كما تقدمت الإشارة إليه والنعمان الغفاري وهو عند أحمد أيضا‏.‏

الثالث حديث ‏"‏ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ‏"‏ وفي بعض طرقه ‏"‏ وإن زنى وإن سرق ‏"‏ وقد رواه عن أبي ذر أيضا أبو الأسود الدؤلي وقد تقدم في اللباس، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أبو هريرة كما سيأتي بيانه لكن ليس فيه بيان ‏"‏ وإن زنى وإن سرق ‏"‏ وأبو الدرداء كما تقدمت الإشارة إليه من رواية الإسماعيلي، وفيه أيضا فائدة أخرى وهو أن بعض الرواة قال عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء، فلذلك قال الأعمش لزيد ما تقدم في رواية حفص بن غياث عنه‏:‏ قلت لزيد بلغني أنه أبو الدرداء، فأفادت رواية شعبة أن حبيبا وعبد العزيز وافقا الأعمش على أنه عن زيد بن وهب عن أبي ذر لا عن أبي الدرداء، وممن رواه عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء محمد بن إسحاق فقال عن عيسى بن مالك عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء أخرجه النسائي، والحسن بن عبيد الله النخعي أخرجه الطبراني من طرقه عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء بلفظ ‏"‏ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ‏"‏ فقال أبو الدرداء ‏"‏ وإن زنى وإن سرق ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وإن زنى وإن سرق ‏"‏ فكررها ثلاثا وفي الثالثة ‏"‏ وإن رغم أنف أبي الدرداء ‏"‏ وسأذكر بقية طرقه عن أبي الدرداء في آخر الباب الذي يليه‏.‏

وذكره الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ فقال يشبه أن يكون القولان صحيحين‏.‏

قلت‏:‏ وفي حديث كل منهما في بعض الطرق ما ليس في الأخر‏.‏