فصل: باب الْإِيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْإِيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الإيمان يأرز‏)‏ بفتح أوله وسكون الهمزة وكسر الراء وقد تضم بعدها زاي، وحكى ابن التين عن بعضهم فتح الراء وقال إن الكسر هو الصواب، وحكى أبو الحسن بن سراج ضم الراء، وحكى القابسي الفتح ومعناه ينضم ويجتمع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني عبيد الله‏)‏ هو ابن عمر العمري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن خبيب‏)‏ بالمعجمة مصغرا وكذا رواه أكثر أصحاب عبيد الله، وخبيب هو خال عبيد الله المذكور، وقد روى عنه بهذا الإسناد عدة أحاديث‏.‏

وفي رواية يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أخرجه ابن حبان والبزار‏.‏

وقال البزار إن يحيى بن سليم أخطأ فيه، وهو كما قال، وهو ضعيف في عبيد الله بن عمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن حفص بن عاصم‏)‏ أي ابن عمر بن الخطاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كما تأرز الحية إلى جحرها‏)‏ أي أنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها كذلك الإيمان انتشر في المدينة، وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك جميع الأزمنة لأنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه‏.‏

وقال الداودي‏:‏ كان هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والقرن الذي كان منهم والذين يلونهم والذين يلونهم خاصة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع وأن عملهم حجة كما رواه مالك‏.‏

ا ه‏.‏

وهذا إن سلم اختص بعصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وأما بعد ظهور الفتن وانتشار الصحابة في البلاد ولا سيما في أواخر المائة الثانية وهلم جرا فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك‏.‏

*3*باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إثم من كاد أهل المدينة‏)‏ أي أراد بأهلها سوءا، والكيد المكر والحيلة في المساءة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ عَنْ جُعَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ هِيَ بِنْتُ سَعْدٍ قَالَتْ سَمِعْتُ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا الفضل‏)‏ هو ابن موسى، الجعيد هو ابن عبد الرحمن، وعائشة بنت سعد أي ابن أبي وقاص، ‏(‏قالت سمعت سعيدا‏)‏ تعني أباها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا انماع‏)‏ أي ذاب‏.‏

وفي رواية مسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة وسعد جميعا فذكر حديثا فيه ‏"‏ من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء‏"‏‏.‏

وفي هذه الطريق تعقب على القطب الحلبي حيث زعم أن هذا الحديث من أفراد البخاري، نعم في أفراد مسلم من طريق عامر بن سعد عن أبيه في أثناء حديث ‏"‏ ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء‏"‏‏.‏

قال عياض‏:‏ هذه الزيادة تدفع إشكال الأحاديث الأخر، وتوضح أن هذا حكمه في الآخرة‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بسوء اضمحل أمره كما يضمحل الرصاص في النار، فيكون في اللفظ تقديم وتأخير، ويؤيده قوله ‏"‏ أو ذوب الملح في الماء‏"‏، ويحتمل أن يكون المراد لمن أرادها في الدنيا بسوء وأنه لا يمهل بل يذهب سلطانه عن قرب كما وقع لمسلم ابن عقبة وغيره فإنه عوجل عن قرب وكذلك الذي أرسله، قال ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها في غفله فلا يتم له أمر، بخلاف من أتى ذلك جهارا كما استباحها مسلم بن عقبة وغيره‏.‏

وروى النسائي من حديث السائب بن خلاد رفعه ‏"‏ من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله وكانت عليه لعنة الله ‏"‏ الحديث‏.‏

ولابن حبان نحوه من حديث جابر‏.‏

*3*باب آطَامِ الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب آطام المدينة‏)‏ بالمد، جمع أطم بضمتين وهي الحصون التي تبنى بالحجارة، وقيل هو كل بيت مربع مسطح، والآطام جمع قلة وجمح الكثرة أطؤم، والواحدة أطمة كأكمة‏.‏

وقد ذكر الزبير بن بكار في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ ما كان بها من الآطام قبل حلول الأوس والخزرج بها، ثم ما كان بها بعد حلولهم وأطال في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ سَمِعْتُ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أشرف‏)‏ أي نظر من مكان مرتفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مواقع‏)‏ أي مواضع السقوط، و ‏(‏خلال‏)‏ أي نواحيها، شبه سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم، وهذا من علامات النبوة لإخباره بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان وهلم جرا ولا سيما يوم الحرة، والرؤية المذكورة يحتمل أن تكون بمعنى العلم أو رؤية العين بأن تكون الفتن مثلت له حتى رآها، كما مثلت له الجنة والنار في القبلة حتى رآهما وهو يصلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه معمر وسليمان بن كثير‏)‏ أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الفتن، وأما متابعة سليمان ابن كثير فوصلها المؤلف في ‏"‏ بر الوالدين ‏"‏ له خارج الصحيح، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الفتن‏.‏

*3*باب لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يدخل الدجال المدينة‏)‏ أورد فيه أربعة أحاديث، الأول‏:‏ حديث أبي بكرة، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الفتن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن جده‏)‏ هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على كل باب‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لكل باب‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏على أنقاب المدينة‏)‏ جمع نقب بفتح النون والقاف بعدها موحدة، ووقع في حديث أنس وأبي سعيد اللذين بعده ‏"‏ على نقابها ‏"‏ جمع نقب بالسكون وما بمعنى‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ المراد بها المداخل، وقيل الأبواب‏.‏

وأصل النقب الطريق بين الجبلين، وقيل‏:‏ الأنقاب الطرق التي يسلكها الناس، ومنه قوله تعالى ‏(‏فنقبوا في البلاد‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يدخلها الطاعون ولا الدجال‏)‏ سيأتي في الطب بيان من زاد في هذا الحديث مكة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ

الشرح‏:‏

حديث أنس‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو عمرو‏)‏ هو الأوزاعي وإسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال‏)‏ هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذا ابن حزم فقال‏:‏ المراد ألا يدخله بعثه وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته، وغفل عما ثبت في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم ترجف المدينة‏)‏ أي يحصل لها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصا في إيمانه ويبقى بها المؤمن الخالص فلا يسلط عليه الدجال‏.‏

ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة الماضي أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال، لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره والخوف من عتوه، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص‏.‏

وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفي الخبث على هذه الحالة دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادا نفي غيره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَقْتُلُهُ فَلَا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏بعض السباخ‏)‏ بكسر المهملة وبالموحدة الخفيفة وآخره معجمة، وسيأتي الكلام عليه أيضا في الفتن‏.‏

وحاصل ما في هذه الأحاديث إعلامه صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخل المدينة ولا الرعب منه كما مضى‏.‏

*3*باب الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏المدينة تنفي الخبث‏)‏ أي بإخراجه وإظهاره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ مَحْمُومًا فَقَالَ أَقِلْنِي فَأَبَى ثَلَاثَ مِرَارٍ فَقَالَ الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمرو بن عباس‏)‏ بالموحدة والمهملة، وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن جابر‏)‏ وقع في الأحكام من وجه آخر عن ابن المنكدر قال ‏"‏ سمعت جابرا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي‏)‏ لم أقف على اسمه، إلا أن الزمخشري ذكر في ‏"‏ ربيع الأبرار ‏"‏ أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه‏.‏

وفي ‏"‏ الذيل ‏"‏ لأبي موسى ‏"‏ في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري ‏"‏ فيحتمل أن يكون هو هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال أقلني‏)‏ ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام وبه جزم عياض‏.‏

وقال غيره إنما استقاله من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة، سيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفي في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاث مرار‏)‏ يتعلق بأقلني ويقال معا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تنفي خبثها‏)‏ تقدم الكلام عليه في أوائل المدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتنصع‏)‏ بفتح أوله وسكون النون وبالمهملتين من النصوع وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبث تميز الطيب واستقر فيها، وأما قوله‏:‏ ‏(‏طيبها‏)‏ فضبطه الأكثر بالنصب على المفعولية‏.‏

وفي رواية الكشميهني بالتحتانية أوله ورفع طيبها على الفاعلية وطيبها للجميع بالتشديد، وضبطه القزاز بكسر أوله والتخفيف ثم استشكله فقال‏:‏ لم أر للنصوع في الطيب ذكرا، وإنما الكلام يتضوع بالضاد المعجمة وزيادة الواو الثقيلة‏.‏

قال‏:‏ ويروى ‏"‏ وتنضخ ‏"‏ بمعجمتين، وأغرب الزمخشري في ‏"‏ الفائق ‏"‏ فضبطه بموحدة وضاد معجمة وعين وقال‏:‏ هو من أبضعه بضاعة إذا دفعها إليه، يعني أن المدينة تعطي طيبها لمن سكنها‏.‏

وتعقبه الصغاني بأنه خالف جميع الرواة في ذلك‏.‏

وقال ابن الأثير‏:‏ المشهور بالنون والصاد المهملة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ نَقْتُلُهُمْ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ لَا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن يزيد‏)‏ هو الخطمي، وفي الإسناد صحابيان أنصاريان في نسق واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رجع ناس من أصحابه‏)‏ هم عبد الله بن أبي ومن تبعه، وسيأتي الكلام عليه في تفسير سورة النساء، والغرض منه هنا بيان ابتداء قوله ‏"‏ تنفي الرجال ‏"‏ وأنه كان في أحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرجال‏)‏ كذا للأكثر وللكشميهني الدجال بالدال وتشديد الجيم وهو تصحيف، ووقع في غزوة أحد ‏"‏ تنفي الذنوب ‏"‏ وفي تفسير النساء ‏"‏ تنفي الخبث ‏"‏ وأخرجه في هذه المواضع كلها من طريق شعبة، وقد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق غندر عن شعبة باللفظ الذي أخرجه في التفسير من طريق غندر، وغندر أثبت الناس في شعبة، وروايته توافق رواية حديث جابر الذي قبله حيث قال فيه ‏"‏ تنفي خبثها ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ تخرج الخبث ‏"‏ ومضى في أول فضائل المدينة من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ تنفي الناس ‏"‏ والرواية التي هنا بلفظ ‏"‏ تنفي الرجال ‏"‏ لا تنافي الرواية بلفظ الخبث بل هي مفسرة للرواية المشهورة، بخلاف ‏"‏ تنفي الذنوب‏"‏، ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره أهل الذنوب فيلتئم مع باقي الروايات‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ كذا للأكثر بلا ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر فأشكل، وعلى تقدير ثبوته فلا بد له من تعلق بالذي قبله لأنه بمنزلة الفصل من الباب‏.‏

وقد أورد فيه حديثين لأنس، ووجه تعلق الأول منها بترجمة نفي الخبث أن قضية الدعاء بتضعيف البركة وتكثيرها تقليل ما يضادها فيناسب ذلك نفي الخبث، ووجه تعلق الثاني أن قضية حب الرسول للمدينة أن تكون بالغة في طيب ذاتها وأهلها فيناسب ذلك أيضا، وقد تقدم الكلام على الثاني في أواخر أبواب العمرة، وأما الأول فقوله فيه ‏"‏ حدثنا أبي ‏"‏ هو جرير بن حازم، ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة‏)‏ أي من بركة الدنيا بقرينة قوله في الحديث الآخر ‏"‏ اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا ‏"‏ ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يستثنى من ذلك ما خرج بدليل، كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة، واستدل به عن تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق‏.‏

وأما من ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة لقوله في الحديث الآخر ‏"‏ اللهم بارك لنا في شامنا ‏"‏ وأعادها ثلاثا فقد تعقب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرح به في حديث الباب‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ لا حجة في حديث الباب لهم لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة‏.‏

ورده عياض بأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا، لأنها بمعنى النماء والزيادة، فأما في الأمور الدينية فلما يتعلق بها من حق الله تعالى من الزكاة والكفارات ولا سيما في وقوع البركة في الصاع والمد‏.‏

وقال النووي‏:‏ الظاهر أن البركة حصلت في نفس المكيل بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه عثمان بن عمر عن يونس‏)‏ أي تابع جرير بن حازم في روايته لهذا الحديث عن يونس ابن يزيد عن الزهري عثمان بن عمر بن فارس فرواه عن يونس بن يزيد، ورواية عثمان بن عمر موصولة في ‏"‏ كتاب علل حديث الزهري ‏"‏ جمع محمد بن يحيى الذهلي، كذا وجدته بخط بعض المصنفين ولم أقف عليه في كتاب الذهلي، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي فأخرجه من طريق عبد الله بن وهب ومن طريق شبيب بن سعيد وعلقمة من طريق عنبسة بن خالد كلهم عن يونس بن يزيد، وساق رواية وهب بن جرير فقال ‏"‏ حدثنا أبو يعلى حدثنا زهير أبو خيثمة وقاسم بن أبي شيبة كلاهما عن وهب بن جرير ‏"‏ وصرح في رواية زهير عن وهب بسماع جرير له من يونس، ثم قال قاسم بن أبي شيبة‏:‏ ليس من شرط هذا الكتاب‏.‏

ونقل مغلطاي كلام الإسماعيلي هذا وتبعه شيخنا ابن الملقن وقال في آخره‏:‏ قال الإسماعيلي أبو شيبة ليس من شرط هذا الكتاب، وهو سهو كأنه أراد أن يكتب قاسم بن أبي شيبة فقال وأبو شيبة‏.‏

ثم قال مغلطاي‏:‏ وقال الإسماعيلي ‏"‏ قال الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ فذكره وقال‏:‏ يعني المدينة ا ه‏.‏

وهذا نظر من لم يطلع على حقيقة الحال فيه، إذ الإسماعيلي ذكر رواية الحسن عن أنس لهذا الحديث متابعة لرواية يونس عن الزهري عن أنس، كما ذكر رواية ابن وهب وشبيب بن سعيد متابعة لجرير ابن حازم عن يونس، وليس كذلك وإنما أورد الإسماعيلي طريق شبيب بن سعيد فقال‏:‏ أخبرني الحسن يعني ابن سفيان حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد حدثنا أبي عن يونس عن الزهري، ثم تحول الإسماعيلي إلى طريق ابن وهب، قال ابن وهب‏:‏ حدثنا يونس عن ابن شهاب حدثني أنس، وساق الحديث على لفظه ثم قال بعد فراغه‏:‏ وقال الحسن عن أنس، ومراده أن رواية ابن وهب فيها تصريح ابن شهاب وهو الزهري أن أنسا حدثه، بخلاف رواية شبيب بن سعيد التي أخرجها من طريق الحسن بن سفيان فإنه قال فيها‏:‏ عن أنس‏.‏

*3*باب كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة‏)‏ ذكر فيه حديث أنس في قصة بني سلمة وقد تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب احتساب الآثار ‏"‏ في أوائل صلاة الجماعة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ترجم البخاري بالتعليلين، فترجم في الصلاة باحتساب الآثار لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏مكانكم تكتب لكم آثاركم ‏"‏ وترجم هنا بما ترى لقول الراوي ‏"‏ فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة ‏"‏ وكأنه صلى الله عليه وسلم اقتصر في مخاطبتهم على التعليل المتعلق بهم لكونه أدعى لهم إلى الموافقة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ وَقَالَ يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فَأَقَامُوا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ألا تحتسبون‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية ‏"‏ ألا تحتسبوا ‏"‏ وحذف نون الرفع في مثل هذا لغة مشهورة‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ كذا في جميع النسخ بلا ترجمة، وهو مشتمل على حديثين وأثر، ولكل منهما تعلق بالترجمة التي قبله‏:‏ فحديث ‏"‏ ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ‏"‏ فيه إشارة إلى الترغيب في سكنى المدينة، وحديث عائشة في قصة وعك أبي بكر وبلال فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة بقوله ‏"‏ اللهم صححها ‏"‏ وفي ذلك إشارة إلى الترغيب في سكناها أيضا، وأثر عمر في دعائه بأن تكون وفاته بها ظاهر في ذلك، وفي كل ذلك مناسبة لكراهته صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، أي تصير خالية‏.‏

فأما الحديث الأول في المنبر فقوله ‏"‏ ما بين بيتي ومنبري ‏"‏ كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري بدل ‏"‏ بيتي ‏"‏ وهو خطأ، فقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل الجنائز بهذا الإسناد بلفظ ‏"‏ بيتي ‏"‏ وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه، نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله بيتي أحد بيوته لا كلها وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ ‏"‏ ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة ‏"‏ أخرجه الطبراني في الأوسط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏روضة من رياض الجنة‏)‏ أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيها بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازا، أو هو على ظاهره وأن المراد أنه روضة حقيقة بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة‏.‏

هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة، وأما قوله ‏"‏ ومنبري على حوضي ‏"‏ أي ينقل يوم القيامة فينصب على الحوض‏.‏

وقال الأكثر المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر‏.‏

ويؤيده حديث أبي سعيد المتقدم وقد رواه الطبراني في ‏"‏ الكبير ‏"‏ من حديث أبي واقد الليثي رفعه ‏"‏ إن قوائم منبري رواتب في الجنة ‏"‏ وقيل معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض ويقتضي شربه منه، والله أعلم‏.‏

ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعا وقيل أربع وخمسون وسدس وقيل خمسون إلا ثلثي ذراع وهو الآن كذلك فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار، واستدل به على أن المدينة أفضل من مكة لأنه أثبت التي بين البيت والمنبر من الجنة، وقد قال الحديث الآخر ‏"‏ لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ‏"‏ وتعقبه ابن حزم بأن قوله أنها من الجنة مجازا إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة ‏(‏أن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى‏)‏ وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب هذا من أيام الجنة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الجنة تحت ظلال السيوف ‏"‏ قال‏:‏ ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصة، فإن قيل إن ما قرب منها أفضل مما بعد لزمهم أن يقولوا إن الجحفة أفضل من مكة ولا قائل به‏.‏

وأما حديث عائشة فقوله ‏"‏ وعك ‏"‏ بضم أوله أي أصابه الوعك وهو الحمى، وقيل مغث الحمى، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفي في كتاب المغازي أول الهجرة إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ قَالَتْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت‏)‏ يعني عائشة، والقائل عروة فهو متصل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهي أوبأ‏)‏ بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور بهمز وبغير همز هو المرض العام، ولا يعارض قدومهم عليها وهي بهذه الصفة نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الطاعون، لأن ذلك كان قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا المرض ولو عم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت فكان بطحان‏)‏ يعني وادي، المدينة وقولها ‏(‏يجري نجلا، تعني ماء آجنا‏)‏ هو من تفسير الراوي عنها، وغرضها بذلك بيان السبب في كثرة الوباء بالمدينة، لأن الماء الذي هذه صفته يحدث عنده المرض، وقيل النجل النز بنون وزاي، يقال استنجل الوادي إذا ظهر نزوزه‏.‏

و ‏"‏ نجلا ‏"‏ بفتح النون وسكون الجيم وقد تفتح حكاه ابن التين‏.‏

وقال ابن فارس‏:‏ النجل بفتحتين سعة العين وليس هو المراد هنا‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ النجل العين حين تظهر وينبع عين الماء‏.‏

وقال الحربي نجلا أي واسعا، ومنه عين نجلاء أي واسعة، وقيل هو الغدير الذي لا يزال فيه الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تعني ماء آجنا‏)‏ بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون أي متغيرا، قال عياض‏:‏ هو خطأ ممن فسره فليس المراد هنا الماء المتغير‏.‏

قلت‏:‏ وليس كما قال فإن عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة‏.‏

وأما أثر عمر فذكر ابن سعد سبب دعائه بذلك، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها أن عمر شهيد مستشهد، فقال لما قصها عليه أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي ثم قال‏:‏ بلى يأتي بها الله إن شاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن زريع روح بن القاسم‏)‏ وصله الإسماعيلي عن إبراهيم بن هاشم عن أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع به ولفظه ‏"‏ عن حفصة قالت‏:‏ سمعت عمر يقول‏:‏ اللهم قتلا في سبيلك ووفاة ببلد نبيك‏.‏

قالت فقلت‏:‏ وأنى يكون هذا‏؟‏ قال‏:‏ يأتي به الله إذا شاء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال هشام‏)‏ ابن سعد ‏(‏عن زيد عن أبيه‏)‏ أسلم، وصله ابن سعد عن محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك عنه ولفظه ‏"‏ عن حفصة أنها سمعت أباها يقول ‏"‏ فذكر مثله، وفي آخره ‏"‏ إن الله يأتي بأمره إن شاء ‏"‏ وأراد البخاري بهذين التعليقين بيان الاختلاف فيه على زيد بن أسلم، فاتفق هشام بن سعد وسعيد ابن أبي هلال على أنه ‏"‏ عن زيد عن أبيه أسلم عن عمر ‏"‏ وقد تابعهما حفص بن ميسرة عن زيد عند عمر ابن شبة، وانفرد روح بن القاسم عن زيد بقوله ‏"‏ عن أمه ‏"‏ وقد رواه ابن سعد ‏"‏ عن معن بن عيسى عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر ‏"‏ فذكره مرسلا، وللحديث طريق أخرى أخرجها البخاري في تاريخه من طريق ‏"‏ محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القارئ عن جده عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله أنه سمع عمر يقول ذلك ‏"‏ وطريق أخرى أخرجها عمر بن شبة من طريق ‏"‏ عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر ‏"‏ إسنادها صحيح، ومن وجه آخر منقطع وزاد ‏"‏ فكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يدرون ما وجهه حتى طعن أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ تقدم ما يتعلق بفضل الصلاة في المسجد النبوي ومسجد قباء والمسجد الأقصى في أبواب في أواخر كتاب الصلاة‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل ذكر المدينة على ستة وعشرين حديثا، المعلق منها أربعة، والمكرر منها فيه وفيما مضى تسعة، والخالص سبعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في ذكر بني حارثة، وحديث أبي بكرة في ذكر الدجال‏.‏

وفيه من الآثار أقر واحد وهو أثر عمر الذي ختم به فأخرجه موصولا ومعلقا، وفيه إشارة إلى حسن الختام، فنسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى، وأن يعين على ختم هذا الشرح، ويرفعنا به إلى المحل الأسنى، إنه على كل شيء قدير‏.‏