فصل: تفسير الآيات (27- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 41):

{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
يقول الحق جلّ جلاله: مخاطباً أهلَ مكة، المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم، وتوبيخاً وتبكيتاً، بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله: {فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ} {أأنتم أشدُّ خَلْقاً} أي: أَخَلْقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم {أم السماءُ} أي: أم خلق السماء على عِظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها، وهذا كقوله: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} [يَس: 81]. ثم بيَّن كيفية خلقها فقال: {بناها} أي: الله، وفي عدم ذكر الفاعل، فيه وفيما عطف عليه، من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عزّ وجل ما لا يخفى.
{رَفَعَ سَمْكَها} أي: أعلى سقفها من الأرض، وذهب بها إلى سمت العلوّ مدًّا رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فسوّاها} أي: فعدّلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو: تممها بما جعل فيها من الكواكب والدراري، وغيرها مما لا يعلمه إلاَّ الخلاَّق العليم، من قولهم: سوَّى فلان أمره: إذا أصلحه.
{وأغْطشَ ليلها} أي: أظلمه، ويُقال: غطش الليل وأغطشه الله، كما يُقال: ظلُم وأظلمه الله. {وأخرج ضحاها} أي: أبرز نهارها، عبّر عنه بالضُحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان. ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها بواسطة الشمس، أي: أبرز ضوء شمسها. والتعبير بالضُحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها.
{والأرضَ بعد ذلك دحاها} أي: بسطها ومهّدها لسكْنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها، وكانت حين خُلقت كورة غير مدحوةٍ، فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسّر الدحو فقال: {أخرج منها ماءها} بتفجير عيونها وإجراء أنهارها، {ومرعاها}؛ كلأها، وهو ما ترعاه البهائم، وهو في الأصل: موضع الرعي، أو: مصدر ميمي بمعنى المفعول، وتجريد الجملة من العاطف إِمّا لأنها تفسير لدحاها، أو تكملة له، فإنَّ السكنى لا تتأتى لمجرد البسط، بل لابد من تهيئة أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً، أو: لأنها حال بإضمار قد عند الجمهور، أو بدونه عند الكوفيين.
{والجبالَ أرساها} أي: أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها، وإرساء الجبال لها من باب الحكمة، وإلاَّ فالقدرة هي الحاملة للكل. وانتصاب الأرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده. ولعل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم الإرساء عليه وجوداً؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب. وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها، كما يروى عن الحسن: من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس، كهيئة الفِهْر، عليه دخان ملزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفِهْرَ في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً...} [الأنبياء: 30]. وفي القاموس: الفِهْرُ بالكسر: الحَجَرُ قَدْرَ ما يدق به الجَوْزُ، أو ما يملأ الكفَّ. اهـ.
والتحقيق في المسألة: أنَّ أول ما خلق اللهُ العرش من القبضة النورانية المحمدية، ثم خلق ياقوتة صفراء، فذابت من هيبته تعالى فصارت ماء، ثم اضطرب الماء فعلته زبدة، فخلق منها الأرض، ثم علا منه دخان فخلق منه السماء، ثم دحا الأرض وهيّأ فيها أقواتها للناس والأنعام وغيرهما، كما قال تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي: فجعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم، فهو مفعول لأجله؛ لأنَّ فائدة البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى واصلة للإنسان والأنعام، أو: مصدر من غير لفظه، فإنَّ قوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها} في معنى: متّعكم بذلك.
{فإذا جاءت الطامةُ الكبرى} أي: الداهية العُظمى التي تطمّ على سائر الدواهي، أي: تعلوها وتغلبها، من قولك: طمّ الأمر: إذا علا وغلب، وهي القيامة، أو النفخة الثانية، أو: الساعة التي يُساق فيها الخلائق إلى محشرهم أو: التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، {يوم يتذكَّرُ الإِنسانُ ما سعَى} أي: يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر، بأن يُشاهده مدوناً في صحيفته، وقد كان نسيه مِن فرط الغفلة، وطول الأمل، كقوله تعالى: {أحصاه الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. و{يوم}: بدل من إذا والأحسن: أنه مفعول بفعل محذوف، أي: أعني. {وبُرّزَت الجحيمُ} أي: أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد {لمن يرى} كائناً مَن كان، فلا تتوقف رؤيتها إلاّ على وجود حاسة البصر، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب. يُروى أنه يُكشف عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر.
{فأمَّا مَن طَغَى} أي: جاوز الحدّ في العصيان {وآثر الحياةَ الدنيا} الفانية، فانهمك فيما متع به فيها، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة، {فإِنَّ الجحيم} التي ذكر شأنها {هي المأوى} أي: مأواه. فاللام سادّة مسد الإضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي، وجملة {فأمّا}: جواب إذا على طريقة: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ...} [البقرة: 38]، وقيل: جواب إذا محذوف، وهي تفصيل له، أي: إذا جاءت انقسم الناس على قسمين، فأمّا مَن طغى.. إلخ، والذي يستدعيه فخامة التنزُّل، ويقتضيه مقام التهويل؛ أنَّ الجواب المحذوف تقديره: يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون، ثم فصَّل أحوال الناس بقوله: فأمّا.. إلخ.
{وأمّا مَن خاف مَقامَ ربه} أي: مُقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسانُ ما سعى. {ونهى النفسَ عن الهوى} المُرْدِيِّ، أي: زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها، علماً منه بوَخَامة عاقبتها، وقيل: هو الرجل يهم بالمعصية فيتذكّر مقامه للحساب فيتركها.
والهوى: ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة، {فإِنَّ الجنة هي المأوى} له لا لغيره، وسيأتي تحقيقه في الإشارة.
الإشارة: فإذا جاءت الطامة، وهو التجلَّي الجلالي الذي لايعرفه فيه إلاّ الرجال، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى فيه من علم التوحيد، فمَن كان عارفاً بالله في جميع الأشياء عرفه في جميع التجليات، كيفما تلوّنت، ومَن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض، كما في حديث القيامة، حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة لا يعرفونها، فيُنكرونه، ويقولون، هذا موضعنا حتى يأتينا ربنا، ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها، فيُقرونه، وهذا لقصورهم في المعرفة، ولو عرفوا الله في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها، وبُرّزت الجحيم لمَن يرى، أي: وبُرّزت حينئذ نار القطيعة لمَن يرى. قال القشيري: أي: ظهرت جحيم الحجاب لمَن يراه غيرَ الأشياء، فإنه عين الأشياء في جميع التجليات، الجمالية والجلالية، العلوية والسفلية، الصورية والمعنوية. اهـ.
فأمَّا مَن طغى وتبع هواه، وآثر الحياة الدنيا، والاشتغال بها عن الإقبال على الله، فإنَّ الجحيم هي المأوى، أي: جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن، وأمّا مَن خاف مقام ربه، أي: قيام ربه بالأشياء، أو على الأشياء، واطلاعه عليها، أو قيامه بين يدي الله غداً للحساب، فالأول لأهل المشاهدة، والثاني لأهل المراقبة، والثالث لأهل المحاسبة، ونهى النفسَ عن الهوى، عن كل ما يشغل عن الله، ويُقسي القلبَ عن ذكر مولاه، مما تهواه النفوس، فإنّ الجنة هي المأوى، جنة المعارف لمَن ترك ما تهوى نفسُه من المباحات، وجنة الزخارف لمَن ترك ما تهواه من المحرّمات.
قال الورتجبي: خاطب تعالى العبادَ بهذه الآية في أوائل مقاماتهم، حين وجب عليهم ترك النفوس، وشرَه هواها، والميل إلى حظوظها، لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم، خوفاً من الاحتجاب عن الوصول إلى الله تعالى، ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية، حين تميل بخفاياها إلى مرادها دون الله، فإذا جادوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقامَ مشاهدته، وهي جنة العارفين، فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى، فإنّ نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية، فجانست الأرواح الملكوتية، فشهوات نفوسهم هناك من تواثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق، فتشتهي الأنفسُ ما تشتهي الأرواحُ في الغيوب والعقول والقلوب، فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس والأرواح، جنات تظهر فيها أنوار شهود الحق، وأين الكافر والمعطِّل والمدّعِي من هذا المقام؟ وهم خلقوا من الجهالة، فيموتون في الضلالة، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين، وعيش نفوسهم عيش الجنّانيين أي أهل الجنة الحسية والله قادر بذلك يختص برحمته مَن يشاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «أسلم شيطاني» وقال: «نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح» ثم قال عن سهل: لا يَسلم من الهوى إلاَّ الأنبياء وبعض الصدّيقين، ليس كلهم، وإنما يسلم من الهوى مَن ألزم نفسه الأدب. اهـ. قلت: الذي يُلزم نفسه الأدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، وقليل ما هم.

.تفسير الآيات (42- 46):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يسألونك عن الساعةِ أيّان مُرْسَاها} أي: متى إرساؤها، أي: إقامتها، يُريدون: متى يُقيمها الله تعالى ويكوّنها، وقيل: إيّان منتهاها ومستقرها، كما أنّ مرسى السفينة المحل التي تنتهي إليه وتستقر فيه، {فِيمَ أنتَ مِن ذِكراها} أيّ: في أي شيء أنت مِن أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به؟ أي: ما أنت من ذكراها وتبيين وقتها لهم في شيءٍ حتى يسألونك بيانها، إنما أنت نذير بها، كقولك: ليس فلان من العلم في شيءٍ وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها، لأنَّ علمها مما استأثر به علاّم الغيوب وقيل: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت، فكفّ، فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها، أي: أنت في شُغل وأي شغل أنت من الاهتمام بالسؤال عنها.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً، فما نزلت هذه الآية انتهى عن ذلك. ولا يرده قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] أي: إنهم يزعمون أنك مُبالغ في السؤال عنها حتى علمتها ولست كما يزعمون، لأنّا نقول هذه الآية نزلت قبل تلك، وأنه كان أولاً يسأل عنها حتى نُهي بهذه الآية فانتهى، كما ذكر في الحديث المذكور، فنزلت تلك مخبرة عن حاله بعد انتهائه. والله أعلم. قال القشيري: من أين لك علمها ولم نعلمك بذلك، وقيل: يوقف على قوله: {فِيمَ} أي: هذا السؤال الذي يسألونك فيم، أي: في أي شيء هو، فيكون إنكاراً لسؤالهم، ثم ابتدأ: {مِن ذكراها} أي: إن ظهورك وبعثك وأنت خاتم النبيين من جملة ذكراها، أي: أشراطها وعلامتها، ومؤذن بقيامها، فلا حاجة لسؤالهم عنها، ويرده: عدم الإتيان بهاء السكت، ويجاب: بأنه ليس بلازم، وإنما تَلزمُ فيما جرّ بإضافة اسم، لبقائه على حرف واحد، كما هو مقرر في محله، مع عدم ثبوته في المصحف.
ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها، فقال: {إِلى ربك منتهاها}؛ منتهى علمها متى يكون، لا يعلمها غيره، {إِنما أنت منذرُ من يخشاها} أي: لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة، وإنما بُعثت لتُخوّف مِن أهوالها مَن يخاف شدائدها، {كأنهم يوم يرونها} أي: الساعة {لم يَلبثوا} في الدنيا {إِلاَّ عشيةً أو ضُحاها} أي: ضحى العشية، استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول، كقوله: {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35] وإنما صحّ إضافة الضحى إلى العشية للملابسة، لاجتماعهما في نهارٍ واحد، والمراد: أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن أحد طرفي النهار عشية يومٍ واحدٍ أوضحاه.
وقال أبو السعود: الآية إما تقرير وتأكيد لما يُنبئ عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذَر به، أي: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلاّ عشية يوم واحد أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته.
وإمّا رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستهزاء مسعجلين لها، فالمعنى: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلاّ عشية أو ضُحاها، واعتبار كون اللبث في القبور أو في الدنيا لا يقتضيه المقام، وإنما الذي يقتضيه اعتبار كونه بعد الإنذار، أو بعد الوعيد، تحقيقاً للإنذار، وردًّا لاستبطائهم. والجملة على الأول: حال من الموصول، فإنه على تقدير الإضافة وعلى عدمها مفعول لمُنذر، كما أنَّ قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النهار} [يونس: 45] حال من الضمير في نحشرهم أي: نحشرهم مشبّهين بمَن لم يلبث في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، خلا أن التشبيه هناك في الأحوال الظاهرة من الزي والهيئة، وفيما نحن فيه من الاعتقاد، كأنه قيل: عِدْهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمَن لم يلبث بعد الإنذار بها إلاّ تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني: مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. اهـ.
الإشارة: يسألونك أيها العارف عن الساعة التي يفتح الله فيها على المتوجِّه بالدخول في مقام الفناء في الذات، أيَّان مُرْساها، إنما أنت منذر مَن يخشى فواتها، أي: إنما أنت مُبَيّن الطريق التي توصل إليها، وتُخوِّف من العوائق التي تعوق عنها، وليس مِن وظيفتك الإعلام بوقتها، لأنها موهبة من الكريم الوهّاب كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها، أي: يستصغرون مدة مجاهدتهم وسيرهم في جانب عظمها. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.

.سورة عبس:

.تفسير الآيات (1- 16):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}
يقول الحق جلّ جلاله: {عَبَسَ} أي: كلح {وتَوَلَّى}؛ أعرض {أن جاءه} أي: لأن جاءه {الأعمَى}، وهو عبدالله ابن أمِّ مكتوم، وأمُّ مكتوم: أمُّ أبيه، وأبوه: شريح بن مالك بن ربيعة الفهري، وذلك أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش، عُتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال: يا رسول الله علِّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم، فَكَرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكرمه، ويقول إذا رأه: «مرحباً بمَن عاتبني فيه ربي»، ويقول: «هل لك من حاجة»، واستخلفه على المدينة مرتين.
ولم يُواجهه تعالى بالخطاب، فلم يقل: عبستَ وتوليتَ؛ رفقاً به وملاطفة؛ لأنَّ مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب، خلافاً للزمخشري وابن عطية ومَن وافقهما. و{أن جاءه}: علة ل {تولَّى}، أو {عبس}، على اختلاف المذهبين في التنازع، والتعرُّض لعنوان عماه إمّا لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام بالقوم، والإيذان باستحقاقه بالرفق والرأقة، وإمّا لزيادة الإنكار، كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى. قاله أبو السعود.
{وما يُدْرِيك} أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى حتى تُعرض عنه {لعله يَزَّكَّى}؛ لعل الأعمى يتطهّر بما سمع منك من دنس الجهل، وأصله: يتزكَّى، فأدغم. وكلمة الترجي مع تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء، أو: على أنّ الترجّي بالنسبة إليه عليه السلام للتنبيه على أنَّ الإعراض عنه عند كونه مرجواً للتزكِّي مما لا ينبغي، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي، وفيه إشارة إلى أنَّ مَن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى لهم التزكّي والتذكُّر أصلاً. وقوله تعالى: {أو يذَّكَّرُ}: عطف على {يزّكى}، داخل في حكم الترجي، قوله: {فتَنفَعه الذِكرَى}: عطف على {يذَّكَّر}، ومَن نصبه فجواب الترجي، أي: أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، أي: إنك لا تدري ما هو مترقَب منه مِن تزكٍّ أو تذكُّر، ولو دريت لَمَا فرط ذلك منك.
{أمَّا مَن استغنى} أي: مَن كان غنياً بالمال، أو: استغنى عن الإيمان، أو عما عندك من العلوم والمعارف التي انطوى عليه القرآن {فأنت له تَصَدّى}؛ تتصدى وتتعرض له بالإقبال عليه، والاهتمام بإرشاده واستصلاحه. وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام، أهل الغنى بالله.
{وما عليك ألاَّ يزَّكَّى} أي: وليس عليك بأس في ألاَّ يزَّكّى بالإسلام حتى تهتم بأمره، وتُعرض عمن أسلم وأقبل إليك، وقيل: {ما} استفهامية، أي: أيُّ شيء عليك في ألاّ يزكّى هذا الكافر.
{وأمّا مَن جاءك يسعى} أي: حال كونه مسرعاً طالباً لِما عندك من أحكام الرشد، وخصال الخير، {وهو يخشى} الله تعالى أو الكفار، أي: أذاهم في إتيانك، أو: الكبوة، أي: السقطة، كعادة العميان، {فأنت عنه تَلَهَّى}؛ تتشاغل، وأصله: تتلهى. رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدَّى لغَني بعدُ.
{كلاَّ} أي: لا تَعُدْ إلى مثلها. وحاصل العتاب: ترجيح الإقبال على مَن فيه القبول والأهلية للانتفاع، دون مَن ليس كذلك ممن فيه استغناء، وإن كان قصده عليه السلام صالحاً، ولكن نبَّهه اللّهُ تعالى على طريق الأولى في سلوك الدعوة إليه، وأنّ مظنة ذلك الفُقراء؛ لتواضعهم، بخلاف الأغنياء، لتكبُّرهم وتعاظمهم. ولذلك لم يتعرض صلى الله عليه وسلم لغَنِي بعدها، ولم يُعرض عن فقير، وكذلك ينبغي لفضلاء أمته من العلماء الدعاة إلى الله، وقد كان الفقراء في مجلس الثوري أُمراء. ثم قال تعالى: {إِنها تذكرةٌ}؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها، ويُعمل بموجبها، وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه مَن تصدّى له، {فمَن شاء ذّكَرَه} أي: فمَن شاء اللّهُ أن يذكره ذكره. أي: ألهمه الله الاتعاظ به، أو: مَن شاء حفظه واتعظ به، ومَن رغب عنها، كما فعله المستغني، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره.
وذكّر الضمير؛ لأنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقال أبو السعود: الضميران للقرآن، وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل: الأول للسورة، أو للآيات السابقة، والثاني للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر والوعظ، وليس بذلك؛ فإنَّ السورة والآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات الشريفة، لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه، واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء عليه، والتعجب مِن كفره المفرط، لنزولها بعد الحادثة، وأمّا مَن جَوْز رجوعهما إلى العتاب المذكور، فقد أخطأ وأساء الأدب، وخبط خبطاً يقضي منه العجب، فتأمّل. اهـ.
وحاصِلُ المعنى: أنَّ هذه الآيات أي آيات القرآن تذكرة، فمَن شاء فليتعظ بها، حاصلة {في صُحُفٍ} منتسخة من اللوح، {مُكَرَّمةٍ} عند الله عزّ وجل، {مرفوعةٍ} في السماء السابعة، أو: مرفوعة المقدار والمنزِلة، {مُطَهَّرةٍ} عن مساس أيدي الشياطين، أو: عما ليس من كلام الله تعالى أو: مِن خللٍ في اللفظ أو المعنى، {بأيدي سَفَرَةٍ} أي: كَتَبَة من الملائكة، يستنسخون الكتبَ من اللوح، على أنه جمع: سافِرٍ، من السَّفْر، وهو الكتب، وقيل: بأيدي رسل من الملائكة يَسْفِرون بالوحي، بينه تعالى وبين أنبيائه، على أنه جمع سفير من السِفارة، وحَمْل السَفَرة على الأنبياء عليهم السلام أو على القُراء، لأنهم يقرؤون الأسفار، أو على الصحابة رضوان الله عليهم بعيد؛ لأنَّ هذه اللفظة مختصة بالملائكة، لا تكاد تُطلق على غيرهم، وقال القرطبي: المراد بقوله تعالى في الواقعة: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] هؤلاء السَفَرة. {كِرام} عند الله تعالى، أو: متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم ويستغفرون لهم، {بررةٍ}؛ أتقياء، أو: مطيعين لله تعالى، من قولهم: فلان يبر خالقه، أي: يُطيعه، أو: صادقين، من قولهم: برّ في يمينه: صدق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للداعي إلى الله أن ينبسط عند الضعفاء، ويُقبل عليهم بكليته ويواجههم بالبشاشة والفرح، سواء كانوا ضعفاء الأموال، أو ضعفاء الأبدان، كالعُميان والمحبوسين والمرضى، أو: ضعفاء اليقين، إن أقبلوا إليه فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بملاقاة أهل العصيان والجبابرة أكثر مِن غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال: هؤلاء يأتونا فقراء منكسرين، بخلاف غيرهم من العلماء والصالحين. قلت: وكذلك رأيتُ حال أشياخنا رضي الله عنهم يَبرون بالجبابرة وأهل العصيان، ليجرُّوهم بذلك إلى الله تعالى، قالوا: يأتينا الرجل سَبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً، ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً، ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه. نَعَم إن تزاحم حق الفقراء وحق الجبابرة في وقت واحدٍ قدّم حقَّ الفقراء؛ لشرفهم عند الله، إلاّ إن كانوا راسخين، فيُقَدِّم عليهم غيرهم؛ لأنهم حينئذ يحبون الإيثار عليهم.
قال الورتجبي: بيَّن الله تعالى هنا يعني في هذه الآية درجةَ الفقر، وتعظيم أهله، وخِسّة الدنيا، وتحقير أهلها، وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفاً له، وهو من أهل الصُحبة، ولا يجوز الاشتغال بصُحبة الأغنياء، ودعوتهم إلى طريق الفقراء، إذا كان سجيتهم لم تكن بسجية أهل المعرفة، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد، فالصُحبة معهم ضائعة، إلا ترى كيف عاتب الله نبيَّه بهذه الآية بقوله: {أمّا مَن استغنى..} الآية، كيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعُقبى. اهـ.