فصل: سنة خمسين وسبعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين الملك الناصر عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين آقسنقر السلاري، وقضاته هم هم المتقدم ذكرهم في العام الماضي، ونائبه بدمشق الأمير سيف الدين تغردمر الحموي، وقضاته هم المتقدم ذكرهم، وكذلك الصاحب والخطيب وناظر الجامع ولخزانة ومشد الأوقاف وولاية المدينة‏.‏

استهلت والجيوش المصرية والشامية محيطة بحصن الكرك محاصرون ويبالغون في أمره، والمنجنيق منصوب وأنواع آلات الحصار كثيرة، وقد رسم بتجريدة من مصر والشام أيضاً تخرج إليها‏.‏

وفي يوم الخميس عاشر صفر دخلت التجريدة من الكرك إلى دمشق واستمرت التجريدة الجديدة على الكرك ألفان من مصر وألفان من الشام، والمنجنيق منقوض موضوع عند الجيش خارج الكرك، والأمور متوقفة على وبرد الحصار بعد رجوع الأحمدي إلى مصر‏.‏

وفي يوم السبت ثاني ربيع الأول توفي السيد الشريف عماد الدين الخشاب بالكوشك في درب السيرجي جوار المدرسة العزية، وصلّي عليه ضحًى بالجامع الأموي، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وكان رجلاً شهماً كثير العبادة والمحبة للسنة وأهلها، ممن واظب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وانتفع به، وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي بعثه إلى صيدنايا مع بعض القسيسين فلوث يده بالعذرة وضرب اللحمة التي يعظمونها هنالك، وأهانها غاية الإهانة لقوة إيمانه وشجاعته رحمه الله وإيانا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/243‏)‏

وفي يوم الخميس سابعه اجتمع الصاحب ومشد الدواوين ووكيل بيت المال، ومشد الأوقاف ومباشرو الجامع ومعهم العمالين بالقول والمعاول، يحفرون إلى جانب السارية عند باب مشهد علي تحت تلك الصخرة التي كانت هناك، وذلك عن قول رجل جاهل، زعم أن هناك مالاً مدفوناً فشاوروا نائب السلطنة فأمرهم بالحفر‏.‏

واجتمع الناس والعامة فأمرهم فأخرجوا وأغلقت أبواب الجامع كلها ليتمكنوا من الحفر، ثم حفروا ثانياً وثالثاً فلم يجدوا شيئاً إلا التراب المحض، واشتهر هذا الحفير في البلد وقصده الناس للنظر إليه والتعجب من أمره، وانفصل الحال على أن حبس هذا الزاعم لهذا المحال، وطم الحفير كما كان‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الأول قدم قاضي حلب ناصر الدين بن الخشاب على البريد مجتازاً إلى دمشق فنزل بالعادلية الكبيرة، وأخبر أنه صلى على المحدث البارع الفاضل الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي المصري يوم الجمعة ثامن هذا الشهر بحلب رحمه الله، ومولده سنة خمس عشرة وسبعمائة، وكان قد أتقن طرفاً جيداً في علم الحديث، وحفظ أسماء الرجال، وجمع وخرج‏.‏

وفي مستهل ربيع الآخر وقع حريق عظيم بسفح قاسيون احترق به سوق الصالحية الذي بالقرب من جامع المظفري، وكانت جملة الدكاكين التي احترقت قريباً من مائة وعشرين دكاناً، ولم ير حريق من زمان أكبر منه ولا أعظم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة سادسه رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مواذن البلد كما يذكر في مواذن الجامع، ففعل ذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشره طلب من القاضي تقي الدين السبكي قاضي قضاة الشافعية أن يقرض ديوان السلطان شيئاً من أموال الغياب التي تحت يده، فامتنع من ذلك امتناعاً كثيراً، فجاء شاد الدواوين وبعض حاشية نائب السلطنة ففتحوا مخزن الأيتام وأخذوا منه خمسين ألف درهم قهراً، ودفعوها إلى بعض العرب عما كان تأخر له في الديوان السلطاني، ووقع أمر كثير لم يعهد مثله‏.‏

وفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العلاّمة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته، مرض قريباً من ثلاثة أشهر بقرحة وحمى سل، ثم تفاقم أمره وأفرط به إسهال، وتزايد ضعفه إلى أن توفي يومئذ قبل أذان العصر‏.‏

فأخبرني والده أن آخر كلامه أن قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين‏.‏

فصلّي عليه يوم الخميس بالجامع المظفري وحضر جنازته قضاة البلد وأعيان الناس من العلماء والأمراء والتجار والعامة، وكانت جنازته حافلة مليحة، عليها ضوء ونور، ودفن بالروضة إلى جانب قبر السيف ابن المجد رحمهما الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/244‏)‏

وكان مولده في رجب سنة خمس وسبعمائة فلم يبلغ الأربعين، وحصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظاً جيداً لأسماء الرجال، وطرق الحديث، عارفاً بالجرح والتعديل، بصيراً بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيماً على طريقة السلف، واتباع الكتاب والسنة، مثابراً على فعل الخيرات‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سلخه درّس بمحراب الحنابلة صاحبنا الشيخ الإمام العلاّمة شرف الدين بن القاضي شرف الدين الحنبلي في حلقة الثلاثاء عوضاً عن القاضي تقي الدين بن الحافظ رحمه الله، وحضر عنده القضاء والفضلاء، وكان درساً حسناً أخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏، وخرج إلى مسألة تفضيل بعض الأولاد‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني شهر جمادى الأولى خرجت التجريدة إلى الكرك مقدمان من الأمراء، وهما الأمير شهاب الدين بن صبح، والأمير سيف الدين قلاوون، في أبهة عظيمة وتجمل وجيوش وبقارات، وإزعاج كثيرة‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض، شهد عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة تدل على كفره، وأنه رافضي جلد‏.‏

فمن ذلك تكفير الشيخين رضي الله عنهما، وقذفه أميّ المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد، وإنما كان مرسلاً إلى علي، وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة قبحه الله، وقد فعل‏.‏

وكان والده الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة والشيعة جيداً، وكانت له أسئلة على مذهب أهل الخير، ونظم في ذلك قصيدة أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام بن يتيمة رحمه الله، وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ أن السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه، وصار إلى قول أهل السنة فالله أعلم‏.‏

وأخبرت أن ولده حسناً هذا القبيح كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة‏.‏

وفي ليلة الاثنين خامس شهر رجب وصل بدن الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام كان إلى تربته التي إلى جانب جامعه الذي أنشأه ظاهر باب النصر بدمشق، نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعة ابنته زوجة الناصر عند ولده السلطان الملك الصالح، فأذن في ذلك وأرادوا أن يدفن بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يمكن، فجيء به إلى تربته بدمشق وعملت له الختم وحضر القضاة والأعيان رحمه الله‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان المبارك توفي صاحبنا الأمير صلاح الدين يوسف التكريتي ابن أخي الصاحب تقي الدين بن توبة الوزير، بمنزلة بالقصاعين، كان شاباً من أبناء الأربعين، ذا ذكاء وفطنة وكلام وبصيرة جيدة، وكان كثير المحبة إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، ولأصحابه خصوصاً، ولكل من يراه من أهل العلم عموماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/245‏)‏

وكان فيه إيثار وإحسان ومحبة الفقراء والصالحين، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله، وفي يوم السبت الخامس عشر منه جاءت زلزلة بدمشق لم يشعر بها كثير من الناس لخفتها ولله الحمد والمنة، ثم تواترت الأخبار بأنها شعثت في بلاد حلب شيئاً كثيراً من العمران حتى سقط بعض الأبراج بقلعة حلب، وكثير من دورها ومساجدها ومشاهدها وجدرانها، وأما في القلاع حولها فكثير جداً، وذكروا أن مدينة منبج لم يبق منها إلا القليل، وأن عامة السكانين بها هلكوا تحت الردم رحمهم الله‏.‏

وفي أواخر شهر شوال خرجت التجاريد إلى الكرك وهما أميران مقدمان الأمير علاء الدين فراسنقر، والأمير الحاج بيدمر، واشتهر في هذه الأيام أن أمر الكرك قد ضعف وتفاقم عليهم الأمر وضاقت الأرزاق عندهم جداً، ونزل منها جماعات من رؤسائها وخاصية الأمير أحمد بن الناصر مخامرين عليه، فسيروا من الصبح إلى قلاوون وصحبتهم مقدمون من الحلقة إلى الديار المصرية، وأخبروا أن الحواصل عند أحمد قد قلت جداً فالله المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

وفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة توفي القاضي الإمام العلاّمة برهان الدين بن عبد الحق شيخ الحنفية وقاضي القضاة بالديار المصرية مدة طويلة، بعد ابن الحريري‏.‏

ثم عزل وأقام بدمشق ودرّس في أيام تغردمر بالعذراوية لولده القاضي أمين الدين، فذكر بها الدرس يوم الأحد قبل وفاة والده بثلاثة أيام، وكان موت برهان الدين رحمه الله ببستانه من أراضي الأرزة بطريق الصالحية، ودفن من الغد بسفح قاسيون بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وصلّي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته القضاة والأعيان والأكبار رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والديار الشامية وما يتعلق بذلك الملك الصالح بن إسماعيل بن السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون في السنة المتقدمة، ونائبه بمصر الحاج سيف الدين ووزيره المتقدم ذكره، وناظر الخاص القاضي مكين الدين، وناظر الجيوش القاضي علم الدين ابن القطب، والمحتسب المتقدم‏.‏

وشاد الدواوين علم الدين الناصري، وشاد الأوقاف الأمير حسام الدين النجيبي، ووكيل بيت المال القاضي علاء الدين شرنوخ، وناظر الخزانة القاضي تقي الدين بن أبي الطيب، وبقية المباشرين وأنظارهم المتقدم ذكرهم، وكاتب السر القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتب السر، والقاضي أمين الدين بن القلانسي، والقاضي شهاب الدين بن القيسراني، والقاضي شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود والقاضي علاء الدين شرنوخ‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/246‏)‏

شهر المحرم أول السبت استهل والحصار واقع بقلعة الكرك، وأما البلد فأخذ واستنيب فيه الأمير سيف الدين قبليه، قدم إليها من الديار المصرية، والتجاريد من الديار المصرية ومن دمشق محيطون بالقلعة، والناصر أحمد بن الناصر ممتنع من التسليم، ومن الإجابة إلى الإنابة‏.‏

ومن الدخول في طاعة أخيه، وقد تفاقمت الأمور وطالت الحروب، وقتل خلق كثير بسبب ذلك، من الجيوش ومن أهل الكرك، وقد توجهت القضية إلى خير إن شاء الله‏.‏

وقبل ذلك بأيام يسيرة هرب من قلعة الكرك الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص الذي كان أسر في أوائل حصار الكرك، وجماعة من مماليك الناصر أحمد، كان اتهمهم بقتل الشهيب أحمد، الذي كان يعتنى به ويحبه، واستبشر الجيوش بنزول أبي بكر من عنده وسلامته من يده‏.‏

وجهز إلى الديار المصرية معظماً، وهذا والمجانيق الثلاثة مسلطة على القلعة من البلد تضرب عليها ليلاً ونهاراً، وتدمر في بنائها من داخل، فإن سورها لا يؤثر فيه شيء بالكلية، ثم ذكر أن الحصار فتر ولكن مع الاحتياط على أن لا يدخل إلى القلعة ميرة ولا شيء مما يستعينون به على المقام فيها، فالله المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر قدم البريد مسرعاً من الكرك فأخبر بفتح القلعة، وأن بابها أحرق، وأن جماعة الأمير أحمد بن الناصر استغاثوا بالأمان، وخرج أحمد مقيداً وسير على البريد إلى الديار المصرية، وذلك يوم الاثنين بعدا لظهر الثالث والعشرين من هذا الشهر، ولله عاقبة الأمور‏.‏

وفي صبيحة يوم الجمعة رابع ربيع الأول دقت البشائر بالقلعة، وزينت البلد عن مرسوم السلطان الملك الصالح سروراً بفتح البلد، واجتماع الكلمة عليه، واستمرت الزينة إلى يوم الاثنين سابعه، فرسم برفعها بعد الظهر فتشوش كثير من العوام، وأرجف بعض الناس بأن أحمد قد ظهر أمره وبايعه الأمراء الذين هم عنده، وليس لذلك حقيقة، ودخلت الأطلاب من الكرك صبيحة يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول بالطبلخانات والجيوش، واشتهر إعدام أحمد بن الناصر‏.‏

وفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول صلّي بالجامع الأموي على الشيخ أمين الدين أبي حيان النحوي، شيخ البلاد المصرية من مدة طويلة، وكانت وفاته بمصر عن تسعين سنة وخمسة أشهر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/247‏)‏

ثم اشتهر في ربيع الآخر قتل السلطان أحمد وحز رأسه وقطع يديه، ودفن جثته بالكرك، وحمل رأسه إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل، وحضر بين يديه في الرابع والعشرين من هذا الشهر، ففرح الناس بذلك، ودخل الشيخ أحمد الزرعي على السلطان الملك الصالح فطلب منه أشياء كثيرة من تبطيل المظالم ومكوسات وإطلاق طبلخانات للأمير ناصر الدين بن بكتاش، وإطلاق أمراء محبوسين بقلعة دمشق وغير ذلك‏.‏

فأجابه إلى جميع ذلك، وكان جملة المراسيم التي أجيب فيها بضع وثلاثين مرسوماً، فلما كان آخر شهر ربيع الآخر قدمت المراسيم التي سألها الشيخ أحمد من الملك الصالح، فأمضيت كلها، أو كثير منها، وأفرج عن صلاح الدين بن الملك الكامل، والأمير سيف الدين بلو، في يوم الخميس سلخ هذا الشهر ثم روجع في كثير منها وتوقف حالها‏.‏

وفي هذا الشهر عملت منارة خارج باب الفرج وفتحت مدرسة كانت داراً قديمة فجعلت مدرسة للحنفية ومسجداً، وعملت طهارة عامة، ومصلى للناس، وكل ذلك منسوب إلى الأمير سيف الدين تقطم الخليلي أمير حاجب كان، وهو الذي جدد الدار المعروفة به اليوم بالقصاعين‏.‏

وفي ليلة الاثنين عاشر جمادى الآخرة توفي صاحبنا المحدث تقي الدين محمد بن صدر الدين سليمان الجعبري زوج بنت الشيخ جمال الدين المزي، والد شرف الدين عبد الله، وجمال الدين إبراهيم وغيرهم‏.‏

وكان فقيهاً بالمدارس، وشاهداً تحت الساعات وغيرها، وعنده فضيلة جيدة في قراءة الحديث وشيء من العربية، وله نظم مستحسن، انقطع يومين وبعض الثالث وتوفي في الليلة المذكورة في وسط الليل، وكنت عنده وقت العشاء الآخرة ليلتئذ، وحدثني وضاحكني، وكان خفيف الروح رحمه الله‏.‏

ثم توفي في بقية ليلته رحمه الله، وكان أشهدني عليه بالتوبة من جميع ما يسخط الله عز وجل، وأنه عازم على ترك الشهود أيضاً رحمه الله، صلّي عليه ظهر يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب الصغير عند أبويه رحمهم الله‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رجب خطب القاضي عماد الدين بن العز الحنفي بجامع تنكز خارج باب النصر عن نزول الشيخ نجم الدين علي بن داود القفجاري له عن ذلك، وأيضاً نائب السلطنة الأمير سيف الدين تغردمر وحضوره عنده في الجامع المذكور يومئذ‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشرين رجب توفي القاضي الإمام العالم جلال الدين أبو العباس أحمد ابن قاضي القضاة حسام الدين الرومي الحنفي، وصلّي عليه بعد صلاة الجمعة بمسجد دمشق، وحضره القضاة والأعيان ودفن بالمدرسة التي أنشأها إلى جانب الزردكاش قريباً في الخاتونية الجوانية، وكان قد ولي قضاء قضاة الحنفية في أيام ولاية أبيه الديار المصرية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/248‏)‏

وكان مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقدم الشام مع أبيه فأقاموا بها، ثم لما ولي الملك المنصور لاجين ولى أباه قضاء الديار المصرية، وولده هذا قضاء الشام، ثم إنه عزل بعد ذلك واستمر على ثلاث مدراس من خيار مدارس الحنفية ثم حصل له صمم في آخر عمره، وكان ممتعاً بحواسه سواه وقواه، وكان يذاكر في العلم وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان توفي الشيخ نجم الدين علي بن داود القفجاري خطيب جامع تنكز، ومدرّس الظاهرية، وقد نزل عنها قبل وفاته بقليل للقاضي عماد الدين بن العز الحنفي، وصلّي عليه بالجامع المذكور بعد صلاة الظهر يومئذ، وعند باب النصر، وعند جامع جراح ودفن بمقبرة ابن الشيرجي عند والده، وحضره القضاة والأعيان، وكان أستاذاً في النحو وله علوم أخر، لكن كان نهاية في النحو والتصريف‏.‏

وفي هذا اليوم توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الشيخ عبد الله الضرير الزرعي، وصلّي عليه بعد الظهر بالجامع الأموي وبباب النصر وعند مقابر الصوفية، ودفن بها قريباً من الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، وكان كثير التلاوة حسنها وصحيحها، كثير العبادة، يقرئ الناس من دهر طويل ويقوم بهم العشر الأخير من رمضان، في محراب الحنابلة بالجامع الأموي رحمه الله‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان المعظم توفي الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد الورع أبو عمر بن أبي الوليد المالكي إمام محراب الصحابة الذي للمالكية، وصلّي عليه بعد الصلاة وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير، وتأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة، ودفن إلى جانب قبر أبيه وأخيه، إلى جانب قبر أبي الغندلاوي المالكي قريباً من مسجد التاريخ رحمه الله، وولي مكانه في المحراب ولده، وهو طفل صغير، فاستنيب له إلى حين صلاحيته، جبره الله ورحم أباه‏.‏

وفي صبيحة ليلة الثلاثاء سادس رمضان وقع ثلج عظيم لم ير مثله بدمشق من مدة طويلة، وكان الناس محتاجين إلى مطر، فلله الحمد والمنة، وتكاثف الثلج على الأسطحة، وتراكم حتى أعيى الناس أمره ونقلوه عن الأسطحة إلى الأزقة يحمل، ثم نودي بالأمر بإزالته من الطرقات فإنه سدها وتعطلت معايش كثير من الناس، فعوض الله الضعفاء بعملهم في الثلج، ولحق الناس كلفة كبيرة وغرامة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من رمضان صلّي بالجامع الأموي على نائب وهو الأمير علاء الدين الجاولي، وقد تقدم شيء من ترجمته رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/249‏)‏

وفي أول شوال يوم عيد الفطر وقع فيه ثلج عظيم بحيث لم يتمكن الخطيب من الوصول إلى المصلّى، ولا خرج نائب السلطنة، بل اجتمع الأمراء والقضاة بدار السعادة، وحضر الخطيب فصلّى بهم العيد بها، وكثير من الناس صلوا العيد في البيوت‏.‏

وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة درّس قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالشامية البرانية عن الشيخ شمس الدين ابن النقيب رحمه الله، وحضر عنده القضاة والأعيان والأمراء وخلق من الفضلاء، وأخذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ وما بعدها‏.‏

وفي ذي الحجة استفتي في قتل كلاب البلد فكتب جماعة من أهل البلد في ذلك، فرسم بإخراجهم يوم الجمعة من البلد الخامس والعشرين منه، لكن إلى الخندق ظاهر باب الصغير، وكان الأولى قتلهم بالكلية وإحراقهم لئلا تنتن بريحهم على ما أفتى به الإمام مالك بن أنس من جواز قتل الكلاب ببلدة معينة للمصلحة، إذا رأى الإمام ذلك، ولا يعارض ذلك النهي عن قتل الكلاب، ولهذا كان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين بالديار المصرية والشامية والحرمين والبلاد الحلبية وأعمال ذلك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون أيضاً‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس عشر محرم كملت عمارة الجامع الذي بالمزة الفوقانية الذي جدده وأنشأه الأمير بهاء الدين المرجاني، الذي بنى والده مسجد الخيف بمنى وهو جامع حسن متسع فيه روح وانشراح، تقبل الله من بانيه، وعقدت فيه الجمعة بجمع كثير وجم غفير من أهل المزة، ومن حضر من أهل البلد، وكنت أنا الخطيب - يعني الشيخ عماد الدين المصنف تغمده الله برحمته - ولله الحمد والمنة‏.‏

ووقع كلام وبحث في اشتراط المحلل في المسابقة، وكان سببه أن الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صنف فيه مصنفاً من قبل ذلك، ونصر فيه ما ذهب إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في ذلك‏.‏

ثم صار يفتى به جماعة من الترك ولا يعزوه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فاعتقد من اعتقد أنه قوله وهو مخالف للأئمة الأربعة، فحصل عليه إنكار في ذلك، وطلبه القاضي الشافعي، وحصل كلام في ذلك، وانفصل الحال على أن أظهر الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية الموافقة للجمهور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/250‏)‏

 وفاة الملك الصالح إسماعيل

في يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر من هذه السنة أظهر موت السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر بن المنصور آخر النهار، وكان قد عهد بالأمر إلى أخيه لأبويه الملك الكامل سيف الدين أبي الفتوح شعبان، فجلس على سرير المملكة يوم الخميس رابعه، وكان يوماً مشهوداً، ثم قدم الخبر إلى دمشق عشية الخميس ليلة الجمعة الثاني عشر منه‏.‏

وكان البريد قد انقطع عن الشام نحو عشرين يوماً للشغل بمرض السلطان، فقدم الأمير سيف الدين معزا للبيعة للملك الكامل، فركب عليه الجيش لتلقيه، فلما كان صبيحة الجمعة أخذت البيعة من النائب والمقدمين وبقية الأمراء والجند للسلطان الملك الكامل بدار السعادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب الخطباء يومئذ للملك الكامل، جعله الله وجهاً مباركاً على المسلمين‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الآخر درّس القاضي جمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالمدرسة الشامية البرانية، نزل له أبوه عنها، واستخرج له مرسوماً سلطانياً بذلك، فحضر عنده القضاة والأعيان وجماعة من الأمراء والفقهاء، وجلس بين أبيه والقاضي الحنفي، وأخذ في الدرس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الآيات ‏[‏النمل‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وتكلم الشريف مجد الدين المتكلم في الدرس بكلام فيه نكارة وبشاعة، فشنع عليه الحاضرون، فاستنيب بعد انقضاء الدرس وحكم بإسلامه، وقد طلب إلى الديار المصرية نائب دمشق الأمير سيف الدين تغردمر وهو متمرض، انقطع عن الجمعة بسبب المرض مرات، والبريد يذهب إلى حلب لمجيء نائبها الأمير سيف الدين يلبغا لنيابة دمشق، وذكر أن الحاج أرقطيه تعين لنيابة حلب‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى خرجت أثقال الأمير سيف الدين تغردمر النائب وخيوله وهجنه ومواليه وحواصله وطبلخاناته وأولاده في تجمل عظيم، وأبهة هائلة جداً، وخرجت المحافل والكحارات والمحفات لنسائه وبناته وأهله في هيبة عجيبة، هذا كله وهو بدار السعادة‏.‏

فلما كان من وقت السحر في يوم السبت خامسه خرج الأمير سيف الدين تغردمر بنفسه إلى الكسوة في محفة لمرضه مصحوباً بالسلامة، فلما طلعت الشمس من يومئذ قدم من حلب أستاذ دار الأمير سيف الدين يلبغا البحتاوي فتسلم دار السعادة، وفرح الناس بهم، وذهب الناس للتهنئة والتودد إليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/251‏)‏

ولما كان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى خرج الجيش بكماله لتلقي نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا فدخل في تجمل عظيم، ثم جاء فنزل عند باب السر، وقبل العتبه على العادة ثم مشى إلى دار السعادة‏.‏

وفي عشية يوم الاثنين رابع عشرة قطع نائب السلطنة ممن وجب قطعه في الحبس ثلاثة عشر رجلاً وأضاف إلى قطع اليد قطع الرجل من كل منهم، لما بلغه أنه تكرر من جناياتهم، وصلب ثلاثة بالمسامير ممن وجب قتله، ففرح الناس بذلك لقمعه المفسدين وأهل الشرور، والعيث والفساد‏.‏

واشتهر في العشر الأوسط من جمادى الآخرة وفاة الأمير سيف الدين تغردمر بعد وصلوه إلى الديار المصرية بأيام، وكان ذلك ليلة الخميس مستهل هذا الشهر، وذكر أنه رسم على ولده وأستاذ داره، وطلب منهم مال جزيل، فالله أعلم‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشره توفي القاضي علاء الدين بن العز الحنفي نائب الحكم ببستانه بالصالحية ودفن بها، وذلك بعد عود المدرسة الظاهرية إليه، وأخذه إياها من عمه القاضي عماد الدين إسماعيل، كما قدمنا، ولم يدرس فيها إلا يوماً واحداً، وهو متمرض، ثم عاد إلى الصالحية فتمادى به مرضه إلى أن مات رحمه الله‏.‏

وخرج الركب إلى الحجاز الشريف يوم السبت حادي عشر شوال، وخرج ناس كثير من البلد، ووقع مطر عظيم جداً، ففرح الناس به من جهة أن المطر كان قليلاً جداً في شهر رمضان، وهو كانون الأصم، فلما وقع هذا استبشروا به وخافوا على الحجاج ضرره، ثم تداول المطر وتتابع ولله الحمد والمنة، لكن ترحل الحجاج في أوحال كثيرة وزلق كثير، والله المسلم والمعين والحامي‏.‏

ولما استقل الحجيج ذاهبين وقع عليهم مطر شديد بين الصمين فعوقهم أياماً بها، ثم تحاملوا إلى زرع فلم يصلوها إلا بعد جهد جهيد وأمر شديد، ورجع كثير منهم وأكثرهم، وذكروا أشياء عظيمة حصلت لهم من الشدة وقوة الأمطار وكثرة الأوحال، ومنهم من كان تقدم إلى أرض بصرى، فحصل لهم رفق بذلك والله المستعان‏.‏

وقيل إن نساء كثيرة من المخدرات مشين حفاة فيما بين زرع والصميين وبعد ذلك، وكان أمير الحاج سيف الدين ملك آص وقاضيه شهاب الدين بن الشجرة الحاكم بمدينة بعلبك يومئذ والله المستعان، انتهى‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وليس له بمصر نائب، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائب دمشق الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

إلا أن قاضي القضاة عماد الدين بن إسماعيل الحنفي نزل عن القضاء لولده قاضي القضاة نجم الدين، واستقل بالولاية وتدريس النورية، وبقي والده على تدريس الريحانية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/252‏)‏

وفي يوم الجمعة السادس عشر من المحرم من هذه السنة توفي الشيخ تقي الدين الشيخ الصالح محمد بن الشيخ محمد بن قوام بزاويتهم بالسفح، وصُلّي عليه الجمعة بجامع الأفرم، ثم دفن بالزاوية وحضره القضاة والأعيان وخلق كثير، وكان بينه وبين أخيه ستة أشهر وعشرون يوماً، وهذا أشد من ذلك‏.‏

وفتحت في أول السنة القيسارية التي أنشأها الأمير سيف الدين يلبغا نائب السلطنة ظاهر باب الفرج وضمنت ضماناً باهراً بنحو من سبعة آلاف كل شهر، وداخلها قيسارية تجارة في وسطها بركة ومسجد، وظاهرها دكاكين وأعاليها بيوت للسكن‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول‏:‏ عقد مجلس بمشهد عثمان للنور الخراساني، وكان يقرأ القرآن في جامع تنكز، ويعلم الناس أشياء من فرائض الوضوء والصلاة، ادُّعي عليه فيه أنه تكلم في بعض الأئمة الأربعة، وأنه تكلم في شيء من العقائد ويطلق عبارات زائدة على ما ورد به الحديث، وشهد عليه ببعض أشياء متعددة، فاقتضى الحال أن عزّر في هذا اليوم، وطيف به في البلد، ثم رد إلى السجن معتقلاً‏.‏

فلما كان يوم الخميس الثاني عشرين منه شفع فيه الأمير أحمد بن مهنا ملك العرب عند نائب السلطنة فاستحضره بين يديه وأطلقه إلى أهله وعياله‏.‏

ولما كان تاريخ يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى صلّى نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي الناصري بجامع تنكز ظاهر دمشق برا باب النصر، وصلّى عنده القاضي الشافعي والمالكي وكبار الأمراء‏.‏

ولما أقيمت الصلاة صلّى وقعد بعض ممالكيه عن الصلاة ومعه السلاح حراسة له، ثم لما انصرف من الصلاة اجتمع بالأمراء المذكورين وتشاوروا طويلاً، ثم نهض النائب إلى دار السعادة‏.‏

فلما كان آخر النهار برز بخدمه ومماليكه وحشمه ووطاقه وسلاحه وحواصله، ونزل قبلي مسجد القدم وخرج الجند والأمراء في آخر النهار وانزعج الناس، واتفق طلوع القمر خاسفاً‏.‏

ثم خرج الجيش ملبساً تحت الثياب وعليه التراكيس بالنشاب والخيول والجنابات، ولا يدري الناس ما الخبر، وكان سبب ذلك أن نائب السلطنة بلغه أن نائب صفد قد ركب إليه ليقبض عليه، فانزعج لذلك وقال‏:‏ لا أموت إلا على ظهر أفراسي، لا على فراشي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/253‏)‏

وخرج الجند والأمراء خوفاً من أن يفوتهم بالفرار، فنزلوا يمنة ويسرة، فلم يذهب من تلك المنزلة بل استمر بها يعمل النيابة ويجتمع بالأمراء جماعة وفرادى، ويستميلهم إلى ما هو فيه من الرأي، وهو خلع الملك الكامل شعبان لأنه يكثر من مسك الأمراء بغير سبب، ويفعل أفعالاً لا تليق بمثله‏.‏

وذكروا أموراً كثيرة، وأن يولوا أخاه أمير حاجبي بن الناصر لحسن شكالته وجميل فعله، ولم يزل يفتلهم في الذروة والغارب حتى أجابوه إلى ذلك، ووافقوه عليه، وسلموا له ما يدعيه، وتابعوا على ما أشار إليه وبايعوه‏.‏

ثم شرع في البعث إلى نواب البلاد يستميلهم إلى ما مالأ عليه الدمشقيون وكثير من المصريين‏.‏

وشرع أيضاً في التصرف في الأمور العامة الكلية، وأخرج بعض من كان الملك الكامل اعتقله بالقلعة المنصورة، ورد إليه إقطاعه بعد ما بعث الملك الكامل إلى من أقلعه منشورة، وعزل وولىّ وأخذ وأعطى‏.‏

وطلب التجار يوم الأربعاء ثامن عشرة ليباع عليهم غلال الحواصل السلطانية فيدفعوا أثمانها في الحال، ثم يذهبوا فيتسلموها من البلاد البرانية، وحضر عنده القضاة على العادة والأمراء والسادة، وهذا كله وهو مخيم بالمكان المذكور، لا يحصره بلد ولا يحويه سور‏.‏

وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة خرجت تجريدة نحو عشرة طليعة لتلقي من يقدم من الديار المصرية من الأمراء وغيرهم، ببقاء الأمر على ما كان عليه، فلم يصدقهم النائب، وربما عاقب بعضهم، ثم رفعهم إلى القلعة، وأهل دمشق ما بين مصدق باختلاف المصريين وما بين قائل السلطان الكامل قائم الصورة مستمر على ما كان عليه، والتجاريد المصرية واصلة قريباً، ولا بد من وقوع خبطة عظيمة‏.‏

وتشوشت أذهان الناس وأحوالهم بسبب ذلك، والله المسؤول أن يحسن العاقبة‏.‏

وحاصل القضية أن العامة ما بين تصديق وتكذيب، ونائب السلطنة وخواصه من كبار الأمراء على ثقة من أنفسهم، وأن الأمراء على خلاف شديد في الديار المصرية بين السلطان الكامل شعبان وبين أخيه أمير حاجي، والجمهور مع أخيه أمير حاجي‏.‏

ثم جاءت الأخبار إلى النائب بأن التجاريد المصرية خرجت تقصد الشام ومن فيه من الجند لتوطد الأمر، ثم إنه تراجعت رؤوس الأمراء في الليل إلى مصر واجتمعوا إلى إخوانهم ممن هو ممالىء لهم على السلطان، فاجتمعوا ودعوا إلى سلطنة أمير حاجي وضربت الطبلخانات وصارت باقي النفوس متجاهرة على نية تأييده، ونابذوا السلطان الكامل، وعدّوا عليه مساويه، وقتل بعض الأمراء، وفر الكامل وأنصاره فاحتيط عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/254‏)‏

وخرج أرغون العلائي زوج ابنته واستظهر أيضاً أمير حاجي فأجلسوه على السرير ولقبوه بالملك المظفر، وجاءت الأخبار إلى النائب بذلك، فضربت البشائر عنده، وبعث إلى نائب القلعة فامتنع من ضربها‏.‏

وكان قد طلب إلى الوطاق فامتنع من الحضور، وأغلق باب القلعة، فانزعج الناس واختبط البلد، وتقلص وجود الخير، وحصنت القلعة ودعوا للكامل بكرة وعشية على العادة، وأرجف العامة بالجيش على عادتهم في كثرة فصولهم، فحصل لبعضهم أذية‏.‏

فلما كان يوم الاثنين ثامن الشهر قدم نائب حماه إلى دمشق مطيعاً لنائب السلطنة في تجمل وأبهة، ثم أجريت له عادة أمثاله‏.‏

وفي هذا اليوم‏:‏ وقعت بطاقة بقدوم الأمير سيف الدين بيغرا حاجب الحجاب بالديار المصرية لأجل البيعة للسلطان الملك المظفر، فدقت البشائر بالوطاق، وأمر بتزيين البلد، فزين الناس وليسوا منشرحين، وأكثرهم يظن أن هذا مكر وخديعة، وأن التجاريد المصرية واصلة قريباً‏.‏

وامتنع نائب القلعة من دق البشائر وبالغ في تحصين القلعة، وغلق بابها، فلا يفتح إلا الخوخة البرانية والجوانية، وهذا الصنيع هو الذي يشوش خواطر العامة، يقولون‏:‏ لو كان ثم شيء له صحة كان نائب القلعة يطلع على هذا قبل الوطاق‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء بعد الزوال، قدم الأمير سيف الدين بيغرا إلى الوطاق، وقد تلقوه وعظموه، ومعه تقليد النيابة من المظفر إلى الأمير سيف الدين يلبغا نائب السلطنة، وكتاب إلى الأمراء بالسلام‏.‏

ففرحوا بذلك وبايعوه وانضمت الكلمة ولله الحمد‏.‏

وركب بيغرا إلى القلعة فترجل وسل سيفه ودخل إلى نائب القلعة فبايعه سريعاً، ودقت البشائر في القلعة بعد المغرب، حين بلغه الخبر، وطابت أنفس الناس، ثم أصبحت القلعة في الزينة وزادت الزينة في البلد وفرح الناس‏.‏

فلما كان يوم الخميس حادي عشر الشهر دخل نائب السلطنة من الوطاق إلى البلد والأطلاب بين يديه في تجمل وطبلخانات على عادة العرض، وقد خرج أهل البلد إلى الفرجة، وخرج أهل الذمة بالتوراة، وأشعلت الشموع، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وقد صلى في شهر رمضان من هذه السنة بالشامية البرانية صبي عمره ست سنين، وقد رأيته وامتحنته فإذا هو يجيد الحفظ والأداء، وهذا من أغرب ما يكون‏.‏

وفي العشر الأول من هذا الشهر فرغ من بناء الحمامين الذي بناهما نائب السلطنة بالقرب من الثابتية في خان السلطان العتيق، وما حولها من الرباع والقرب وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الأحد حادي عشره اجتمع نائب السلطنة والقضاة الأربعة ووكيل بيت المال والدولة عند تل المستقين، من أجل أن نائب السلطنة قد عزم على بناء هذه البقعة جامعاً بقدر جامع تنكز‏.‏

فاشتوروا هنالك، ثم انفصل الحال على أن يعمل والله ولي التوفيق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/255‏)‏

وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة صلّي على الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن تيمية، أخو الشيخ تقي الدين رحمهما الله تعالى‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشرة توفي الشيخ علي القطناني بقطنا، وكان قد اشتهر أمره في هذه السنين، واتبعه جماعة من الفلاحين والشباب المنتمين إلى طريقة أحمد ابن الرفاعي، وعظم أمره وسار ذكره، وقصده الأكابر للزيارة مرات‏.‏

وكان يقيم السماعات على عادة أمثاله، وله أصحاب يظهرون إشارة باطلة، وأحوالاً مفتعلة، وهذا مما كان ينقم عليه بسببه، فإنه إن لم يكن يعلم بحالهم فجاهل، وإن كان يقرهم على ذلك فهو مثلهم، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر - أعني ذي الحجة من العيد وما بعده - اهتم ملك الأمراء في بناء الجامع الذي بناه تحت القلعة وكان تل المستقين، وهدم ما كان هناك من أبنية، وعملت العجل وأخذت أحجار كثيرة من أرجاء البلد‏.‏

وأكثر ما أخذت الأحجار من الرحبة التي للمصريين، من تحت المئذنة التي في رأس عقبة الكتاب، وتيسر منها أحجار كثيرة، والأحجار أيضاً من جبل قاسيون وحمل على الجمال وغيرها‏.‏

وكان سلخ هذه السنة - أعني سنة سبع وأربعين وسبعمائة - قد بلغت غرارة القمح إلى مائتين فما دونها، وربما بيعت بأكثر من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك المظفر أمير حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين أرقطية، وقضاة مصر هم الذين كانوا في الماضية بأعيانهم، ونائبه بالشام المحروسة سيف الدين يلبغا الناصري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها بأعيانهم، غير أن القاضي عماد الدين الحنفي نزل لولده قاضي القضاة نجم الدين، فباشر في حياة أبيه، وحاجب الحجاب فخر الدين إياس‏.‏

واستهلت هذه السنة ونائب السلطنة في همة عالية في عمارة الجامع الذي قد شرع في بنائه غربي سوق الخيل، بالمكان الذي كان يعرف بالتل المستقين‏.‏

وفي ثالث المحرم توفي قاضي القضاة شرف الدين محمد بن أبي بكر الهمداني المالكي، وصلّي عليه بالجامع، ودفن بتربته بميدان الحصا، وتأسف الناس عليه لرياسته وديانته وأخلاقه وإحسانه إلى كثير من الناس رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏ 14/ 256‏)‏

وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من المحرم وصل تقليد قضاء المالكية للقاضي جمال الدين المسلاتي الذي كان نائباً للقاضي شرف الدين قبله، وخلع عليه من آخر النهار‏.‏

وفي شهر ربيع الأول أخذوا لبناء الجامع المجدد بسوق الخيل، أعمدة كثيرة من البلد، فظاهر البلد يعلقون ما فوقه من البناء ثم يأخذونه ويقيمون بدله دعامة، وأخذوا من درب الصيقل وأخذوا العمود الذي كان بسوق العلبيين الذي في تلك الدخلة على رأسه مثل الكرة فيها حديد‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر‏:‏ أنه كان فيه طلسم لعسر بول الحيوان إذا داروا بالدابة ينحل أراقيها‏.‏

فلما كان يوم الأحد السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة قلعوه، من موضعه بعد ما كان له في هذا الموضع نحواً من أربعة آلاف سنة والله أعلم‏.‏

وقد رأيته في هذا اليوم وهو ممدود في سوق العلبيين على الأخشاب ليجروه إلى الجامع المذكور من السوق الكبير، ويخرجوا به من باب الجابية الكبير، فلا إله إلا الله‏.‏

وفي أواخر شهر ربيع الأخر ارتفع بناء الجامع الذي أنشأه النائب وجفت العين التي كانت تحت جداره حين أسسوه ولله الحمد‏.‏

وفي سلخ ربيع الآخر وردت الأخبار من الديار المصرية بمسك جماعة من أعيان الأمراء كالحجازي وآقسنقر الناصري، ومن لف لفهما، فتحرك الجند بالشام ووقعت خبطة، ثم استهل شهر جمادى الأولى والجند في حركة شديدة، ونائب السلطنة يستدعي الأمراء إلى دار السعادة بسبب ما وقع بالديار المصرية، وتعاهد هؤلاء على أن لا يؤذي أحد، وأن يكونوا يداً واحدة‏.‏

وفي هذا اليوم تحول ملك الأمراء من دار السعادة إلى القصر الأبلق واحترز لنفسه، وكذلك حاشيته‏.‏

وفي يوم الأربعاء الرابع عشر منه قدم أمير من الديار المصرية على البريد ومعه كتاب من السلطان فيه التصريح بعزل ملك الأمراء يلبغا نائب الشام، فقرئ عليه بحضرة الأمراء بالقصر الأبلق، فتغمم لذلك وساءه‏.‏

وفيه طلبه إلى الديار المصرية على البريد ليوليّ نيابة الديار المصرية، والظاهر أن ذلك خديعة له، فأظهر الامتناع، وأنه لا يذهب إلى الديار المصرية أبداً، وقال‏:‏ إن كان السلطان قد استكثر عليّ ولاية دمشق فيوليني أي البلاد شاء، فأنا راضٍ بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/257‏)‏

ورد الجواب بذلك، ولما أصبح من الغد وهو يوم الخميس وهو خامس عشره، ركب فخيم قريباً من الجسورة في الموضع الذي خيم فيه عام أول‏.‏

وفي الشهر أيضاً كما تقدم، فبات ليلة الجمعة وأمر الأمراء بنصب الخيام هنالك على عادتهم عام أول‏.‏

فلما كان يوم الجمعة سادس عشره بعد الصلاة ما شعر الناس إلا والأمراء، قد اجتمعوا تحت القلعة وأحضروا من القلعة سنجقين سلطانيين أصفرين، وضربوا الطبول حربياً، فاجتمعوا كلهم تحت السنجق السلطاني، ولم يتأخر منهم سوى النائب وذويه كابنيه وإخوته وحاشيته، والأمير سيف الدين قلاوون أحد مقدمي الألوف وخبره أكبر أخبار الأمراء بعد النيابة‏.‏

فبعث إليه الأمراء أن هلم إلى السمع والطاعة للسلطان، فامتنع من ذلك وتكررت الرسل بينهم وبينه فلم يقبل، فساروا إليه في الطبلخانات والبوقات ملبسين لأمة الحرب‏.‏

فلما انتهوا إليه وجدوه قد ركب خيوله ملبساً واستعد للهرب، فلما واجههم هرب هو ومن معه وفروا فرار رجل واحد، وساق الجند وراءه فلم يكتنفوا له غباراً، وأقبل العامة وتركمان القبيبات، فانتهبوا ما بقي في معسكره من الشعير والأغنام والخيام، حتى جعلوا يقطعون الخيام والأطناب قطعاً قطعاً، فعدم له ولأصحابه من الأمتعة ما يساوي ألف ألف درهم، وانتدب لطلبه والمسير وراءه الحاجب الكبير الذي قدم من الديار المصرية قريباً شهاب الدين بن صبح، أحد مقدمي الألوف فسار على طريق الأشرفية ثم عدل إلى ناحية القريتين‏.‏

ولما كان يوم الأحد، قدم الأمير فخر الدين إياس نائب صفد فيها فتلقاه الأمراء والمقدمون، ثم جاء فنزل القصر وركب من آخر النهار في الجحافل، ولم يترك أحداً من الجند بدمشق إلا ركب معه وساق وراء يلبغا فانبرا نحو البرية‏.‏

فجعلت الأعراب يعترضونه من كل جانب، وما زالوا يكفونه حتى سار نحو حماه، فخرج نائبها وقد ضعف أمره جداً، هو وكل ومن معه من كثرة السوق ومصاولة الأعداء من كل جانب، فأُلقيَ بيده وأخذ سيفه وسيوف من معه واعتقلوا بحماه، وبعث بالسيوف إلى الديار المصرية‏.‏

وجاء الخبر إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء رابع عشر هذا الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وعلى باب الميادين على العادة، وأحدقت العساكر بحماه من كل جانب ينتظرون ما رسم به السلطان من شأنه، وقام إياس بجيش دمشق على حمص، وكذلك جيش طرابلس، ثم دخلت العساكر راجعة إلى دمشق يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر‏.‏

وقدم يلبغا وهو مقيد على كديش هو وأبوه وحوله الأمراء الموكلون به ومن معه من الجنود، فدخلوا به بعد عشاء الآخرة فاجتازوا به فم السبعة بعد ما غلقت الأسواق، وطفئت السرج، وغلقت الطاقات، ثم مروا على الشيخ رسلان والباب الشرقي على باب الصغير، ثم من عند مسجد الديان على المصلّى، واستمروا ذاهبين نحو الديار المصرية‏.‏

وتواترت البريدية من السلطان بما رسم به في أمره وأصحابه الذين خرجوا معه من الاحتياط على حواصلهم وأموالهم وأملاكهم وغير ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/258‏)‏

وقدم البريد من الديار المصرية يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة، فأخبر بقتل يلبغا فيما بين قاقون وغبرة، وأخذت رؤوسهما إلى السلطان وكذلك قتل بغبرة الأمراء الثلاثة الذين خرجوا من مصر وحاكم الوزير ابن سرد ابن البغدادي، والدوادار طغيتمر وبيدمر البدري، أحد المقدمين، كان قد نقم عليه السلطان ممالأة يلبغا، فأخرجهم من مصر مسلوبين جميع أموالهم وسيرهم إلى الشام‏.‏

فلما كانوا بغزة لحقهم البريد بقتلهم حيث وجدهم، وكذلك رسم بقتل يلبغا حيث التقاه من الطريق، فلما انفصل البريد من غزة التقى يلبغا في طريق وادي فحمة فخنقه ثم احتز رأسه وذهب به إلى السلطان‏.‏

وقدم أميران من الديار المصرية بالحوطة على حوصال يلبغا وطواشي من بيت المملكة، فتسلم مصاغاً وجواهر نفيسة جداً، ورسم ببيع أملاكه وما كان وقفه على الجامع الذي كان قد شرع بعمارته بسوق الخيل، وكان قد اشتهر أنه وقف عليه القيسارية التي كان أنشأها ظاهر باب الفرج، والحمامين المتجاورين ظاهر باب الجابية غربي خان السلطان العتيق، وخصصا في قرايا أخرى كان قد استشهد على نفسه بذلك قبل ذلك فالله أعلم‏.‏

ثم طلب بقية أصحابه من حماه فحملوا إلى الديار المصرية وعدم خبرهم، فلا يدري على أي صفة هلكوا‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة دخل الأمير سيف الدين أرغون شاه دمشق المحروسة نائباً عليها، وكان قدومه من حلب، انفصل عنها وتوجه إليها الأمير فخر الدين إياس الحاجب، فدخلها أرغون شاه في أبهة وعليه خلعة وعمامة بطرفين، وهو قريب الشكل

من تنكز رحمه الله فنزل دار السعادة وحكم بها، وفيه صرامة وشهامة‏.‏

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين منه صلّي على الأمير قراسنقر بالجامع الأموي وظاهر باب النصر، وحضر القضاة والأعيان والأمراء، ودفن بتربته بميدان الحصا بالقرب من جامع الكريمي‏.‏

وعملت ليلة النصف على العادة من إشعال القناديل ولم يشعل الناس لما هم فيه من الغلاء وتأخر المطر وقلة الغلة، كل رطل إلا وقية بدرهم، وهو متغير، وسائر الأشياء غالية‏.‏ والزيت كل رطل بأربعة ونصف، ومثله الشيرج والصابون والأرز والعنبريس كل رطل بثلاثة، وسائر الأطعمات على هذا النحو، وليس شيء قريب الحال سوى اللحم بدرهمين وربع، ونحو ذلك‏.‏

وغالب أهل حوران يردون من الأماكن البعيدة ويجلبون القمح للمؤنة والبدار من دمشق، وبيع عندهم القمح المغربل كل مد بأربعة دراهم، وهم في جهد شديد، والله هو المأمول المسئول‏.‏

وإذا سافر أحد يشق عليه تحصيل الماء لنفسه ولفرسه ودابته، لأن المياه التي في الدرب كلها نفذت، وأما القدس فأشد حالاً وأبلغ في ذلك‏.‏

ولما كان العشر الأخير من شعبان من هذه السنة منّ الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على عباده بإرسال الغيث المتدارك الذي أحيى العباد والبلاد، وتراجع الناس إلى أوطانهم لوجود الماء في الأودية والغدران، وامتلأت بركة زرع بعد أن لم يكن فيها قطرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/259‏)‏

وجاءت بذلك البشائر إلى نائب السلطنة، وذكر أن الماء عم البلاد كلها، وأن الثلج على جبل بني هلال كثير، وأما الجبال التي حول دمشق فعليها ثلوج كثيرة جداً، واطمأنت القلوب وحصل فرج شديد ولله الحمد والمنة، وذلك في آخر يوم بقي من تشرين الثاني‏.‏

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رمضان توفي الشيخ عز الدين محمد الحنبلي بالصالحية، وهو خطيب الجامع المظفري، وكان من الصالحين المشهورين رحمه الله، وكان كثيراً ما يلقن الأموات بعد دفنهم، فلقنه الله حجته وثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏.‏

 مقتل المظفر وتولية الناصر حسن بن الناصر

وفي العشر الأخير من رمضان جاء البريد من نائب غزة إلى نائب دمشق بقتل السلطان الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد، وقع بينه وبين الأمراء فتحيزوا عنه إلى قبة النصر فخرج إليهم في طائفة قليلة فقتل في الحال وسحب إلى مقبرة هناك، ويقال‏:‏ قطع قطعاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما كان يوم الجمعة آخر النهار ورد من الديار المصرية أمير للبيعة لأخيه السلطان الناصر حسن بن السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فدقت البشائر في القلعة المنصورة، وزين البلد بكماله ولله الحمد في السعة الراهنة من أمكن من الناس، وما أصبح صباح يوم السبت إلا زين البلد بكماله ولله الحمد على انتظام الكلمة، واجتماع الألفة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال قدم الأمير فخر الدين إياس نائب حلب محتاطاً عليه، فاجتمع بالنائب في دار السعادة، ثم أُدخل القلعة مضيقاً عليه، ويقال‏:‏ إنه قد فوض أمره إلى نائب دمشق، فمهما فعل فيه فقد أمضى له، فأقام بالقلعة المنصورة نحواً من جمعة، ثم أركب على البريد ليسار به إلى الديار المصرية، فلم يدر ما فعل به‏.‏

وفي ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، توفي الشيخ الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام وشيخ المحدثين شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي بتربة أم الصالح، وصلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودفن بباب الصغير، وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏14/260‏)‏

وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة حضرت تربة أم الصالح رحم الله واقفها عوضاً عن الشيخ شمس الدين الذهبي، وحضر جماعة من أعيان الفقهاء وبعض القضاة، وكان درساً مشهوداً ولله الحمد والمنة‏.‏

أوردت فيه حديث أحمد‏:‏ عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إنما نسمة المؤمن طائر معلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره أمر نائب السلطنة بجماعة انتهبوا شيئاً من الباعة فقطعوا أحد عشر منهم، وسمر عشرة تسميراً تعزيراً وتأديباً انتهى والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة

استهلت وسلطان البلاد المصرية والشامية الملك الناصر ناصر الدين حسن بن الملك المنصور ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا، ووزيره منجك، وقضاته عز الدين بن جماعة الشافعي وتقي الدين الأخنائي المالكي، وعلاء الدين بن التركماني الحنفي، وموفق الدين المقدسي الحنبلي‏.‏

وكاتب سره القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله العمري، ونائب الشام المحروس بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وحاجب الحجاب الأمير طيردمر الإسماعيلي، والقضاة بدمشق قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، وقاضي القضاة نجم الدين الحنفي، وقاضي القضاة جلال الدين المسلاتي المالكي، وقاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي‏.‏

وكاتب سره القاضي ناصر الدين الحلبي الشافعي، وهو قاضي العساكر بحلب، ومدّرس الأسدية بها أيضاً، مع إقامته بدمشق المحروسة، وتواترت الأخبار بوقوع البلاء في أطراف البلاد، فذكر عن بلاد القرم أمر هائل وموتان فيهم كثير‏.‏

ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الفرنج حتى قيل‏:‏ إن أهل قبرص مات أكثرهم أو يقارب ذلك‏.‏

وكذلك وقع بغزة أمر عظيم، وقد جاءت مطالعة نائب غزة إلى نائب دمشق أنه مات من يوم عاشوراء إلى مثله من شهر صفر نحو من بضعة عشر ألفاً، وقرئ البخاري في يوم الجمعة بعد الصلاة سابع ربيع الأول في هذه السنة، وحضر القضاة وجماعة من الناس، وقر أربعة بعد ذلك المقرؤن، ودعا الناس برفع الوباء عن البلاد‏.‏

وذلك أن الناس لما بلغهم من حلول هذا المرض في السواحل، وغيرها من أرجاء البلاد يتوهمون ويخافون وقوعه بمدينة دمشق، حماها الله وسلمها مع أنه قد مات جماعة من أهلها بهذا الداء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/261‏)‏

وفي صبحية يوم تاسعه‏:‏ اجتمع الناس بمحراب الصحابة وقرأوا متوزعين سورة نوح ثلاثة آلاف مرة وثلاثمائة وثلاثة وستين مرة، عن رؤيا رجل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشده إلى قراءة ذلك كذلك‏.‏

وفي هذا الشهر أيضاً‏:‏ كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين وزاد الأموات كل يوم على المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم، ولكنه بالنظر إلى كثرة أهل البلد قليل‏.‏

وقد توفي في هذه الأيام من هذا الشهر خلقٌ كثير وجمٌ غفير، ولا سيما من النساء، فإن الموت فيهن أكثر من الرجال بكثير كثير، وشرع الخطيب في القنوت بسائر الصلوات والدعاء برفع الوباء من المغرب ليلة الجمعة سادس شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وحصل للناس بذلك خضوع وخشوع وتضرع وإنابة‏.‏

وكثرت الأموات في هذا الشهر جداً، وزادوا على المائتين في كل يوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وتضاعف عدد الموتى منهم، وتعطلت مصالح الناس، وتأخرت الموتى عن إخراجهم، وزاد ضمان الموتى جداً فتضرر الناس ولا سيما الصعاليك، فإنه يؤخذ على الميت شيءٌ كثير جداً، فرسم نائب السلطنة بإبطال ضمان النعوش والمغسلين والحمالين، ونودي بإبطال ذلك في يوم الاثنين سادس عشر ربيع الآخر، ووقف نعوش كثيرة في أرجاء البلد واتسع الناس بذلك، ولكن كثرت الموتى، فالله المستعان‏.‏

وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين منه نودي في البلد أن يصوم الناس ثلاثة أيام وأن يخرجوا في اليوم الرابع وهو يوم الجمعة إلى عند مسجد القدم يتضرعون إلى الله ويسألونه في رفع الوباء عنهم، فصام أكثر الناس ونام الناس في الجامع، وأحيوا الليل كما يفعلون في شهر رمضان‏.‏

فلما أصبح الناس يوم الجمعة السابع والعشرين منه خرج الناس يوم الجمعة من كل فجٍ عميق، واليهود والنصارى والسامرة، والشيوخ والعجائز والصبيان، والفقراء والأمراء والكبراء والقضاة من بعد صلاة الصبح، فما زالوا هنالك يدعون الله تعالى حتى تعالى النهار جداً، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى‏:‏ صلى الخطيب بعد صلاة الظهر على ستة عشر ميتاً جملة واحدة، فتهول الناس من ذلك وانذعروا، وكان الوباء يومئذٍ كثيراً، ربما يقارب الثلاثمائة بالبلد وحواضره، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وصلى بعد صلاة على خمسة عشر ميتاً بجامع دمشق، وصلى على إحدى عشر نفساً رحمهم الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/ 262‏)‏

وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه رسم نائب السلطنة بقتل الكلاب من البلد، وقد كانت كثيرة بأرجاء البلد وربما ضرت الناس وقطعت عليهم الطرقات في أثناء الليل، أما تنجيسها الأماكن فكثير، قد عم الابتلاء به وشق الاحتراز منه‏.‏

وقد جمعت جزءاً من الأحاديث الواردة في قتلهم، واختلاف الأئمة في نسخ ذلك‏.‏

وقد كان عمر رضي الله عنه يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب، ونص مالك في رواية ابن وهب‏:‏ على جواز قتل كلاب بلدة بعينها، إذا أذن الإمام في ذلك للمصلحة‏.‏

وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه توفي زين الدين عبد الرحمن بن شيخنا الحافظ المزي، بدار الحديث النورية وهو شيخها، ودفن بمقابر الصوفية على والده‏.‏

وفي منتصف شهر جمادى الآخرة قوي الموت وتزايد وبالله المستعان، ومات خلائق من الخاصة والعامة ممن نعرفهم وغيرهم رحمهم الله وأدخلهم جنته، وبالله المستعان‏.‏

وكان يصلي في أكثر الأيام في الجامع على أزيد من مائة ميت فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع، وأما حول البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله عز وجل رحمهم الله آمين‏.‏

وفي يوم الاثنين السابع والعشرين منه توفي الصدر شمس الدين بن الصباب التاجر السفّارباتي المدرسة الصابية، التي هي دار قرآن بالقرب من الظاهرية، وهي قبلي العادلية الكبيرة، وكانت هذه البقعة برهة من الزمان خربة شنيعة، فعمرها هذا الرجل وجعلها دار قرآن ودار حديث للحنابلة، ووقف هو وغيره عليها أوقافاً جيدة رحمه الله تعالى‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن شهر رجب صلّي بعد الجمعة بالجامع الأموي على غائب‏:‏ على القاضي علاء الدين ابن قاضي شهبة، ثم صلّي على إحدى وأربعين نفساً جملة واحدة، فلم يتسع داخل الجامع لصفهم بل خرجوا ببعض الموتى إلى ظاهر باب السر، وخرج الخطيب والنقيب فصلى عليهم كلهم هناك، وكان وقتاً مشهوداً، وعبرة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي هذا اليوم توفي التاجر المسمى‏:‏ بافريدون، الذي بنى المدرسة التي بظاهر باب الجابية تجاه تربة بهادرآص، حائطها من حجارة ملونة، وجعلها داراً للقرآن العظيم ووقف عليها أوقافاً جيدة، وكان مشهوراً مشكوراً رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي يوم السبت ثالث رجب صلّي على الشيخ علي المغربي أحد أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية بالجامع الأفرمي بسفح قاسيون، ودفن بالسفح رحمه الله، وكانت له عبادة وزهادة وتقشف وورع ولم يتول في هذه الدنيا وظيفة بالكلية ولم يكن له مال؛ بل كان يأتي بشيء من الفتوح يستنفقه قليلاً قليلاً، وكان يعاني التصوف، وترك زوجة وثلاثة أولاد رحمه الله‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع رجب صلّي على القاضي زين الدين بن النجيح نائب القاضي الحنبلي، بالجامع المظفري، ودفن بسفح قاسيون، وكان مشكوراً في القضاء، لديه فضائل كثيرة، وديانة وعبادة، وكان من أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان قد وقع بينه وبين القاضي الشافعي مشاجرات بسبب أمور، ثم اصطلحا فيما بعد ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/263‏)‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشره بعد أذان الظهر حصل بدمشق وما حولها ريح شديدة أثارت غباراً شديداً اصفر الجو منه ثم اسود حتى أظلمت الدنيا، وبقي الناس في ذلك نحواً من ربع ساعة يستجيرون الله ويستغفرون ويبكون، مع ما هم فيه من شدة الموت الذريع، ورجا الناس أن هذا الحال يكون ختام ما هم فيه من الطاعون، فلم يزدد الأمر إلا شدة، وبالله المستعان‏.‏

وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين، وأكثر من ذلك، خارجاً عمن لا يؤتى بهم إليه من أرجاء البلد وممن يموت من أهل الذمة، وأما حواضر البلد وما حولها فأمر كثير، يقال إنه بلغ ألفاً في كثير من الأيام، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وصلّي بعد الظهر من هذا اليوم بالجامع المظفري على الشيخ إبراهيم بن المحب، الذي كان يحدث في الجامع الأموي وجامع تنكز، وكان مجلسه كثير الجمع لصلاحه وحسن ما كان يؤديه من المواعيد النافعة، ودفن بسفح قاسيون، وكانت جنازته حافلة رحمه الله‏.‏

وعملت المواعيد بالجامع الأموي ليلة سبع وعشرين من رجب، يقولون ليلة المعراج، ولم يجتمع الناس فيه على العادة لكثرة من مات منهم، ولشغل كثير من الناس بمرضاهم وموتاهم‏.‏

واتفق في هذه الليلة أنه تأخر جماعة من الناس في الخيم ظاهر البلد فجاؤوا ليدخلوا من باب النصر على عادتهم في ذلك، فكأنه اجتمع خلق منهم بين البابين فهلك كثير منهم كنحو ما يهلك الناس في هذا الحين على الجنائز، فانزعج نائب السلطنة فخرج فوجدهم فأمر بجمعهم‏.‏

فلما أصبح الناس أمر بتسميرهم، ثم عفا عنهم وضرب متولي البلد ضرباً شديداً، وسمر نائبه في الليل، وسمر البواب بباب النصر، وأمر أن لا يمشي أحد بعد عشاء الآخرة، ثم تسمح لهم في ذلك‏.‏

واستهل شهر شعبان والفناء في الناس كثير جداً، وربما أنتنت البلد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وتوفي الشيخ شمس الدين بن الصلاح مدرّس القيمرية الكبيرة بالمطرزيين، يوم الخميس ثالث عشر شعبان‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان صُلّي بعد الصلاة على جماعة كثيرة، منهم القاضي عماد الدين بن الشيرازي، محتسب البلد، وكان من أكابر رؤساء دمشق، وولي نظر الجامع مدة، وفي بعض الأوقات نظر الأوقاف، وجمع له في وقت بينهما، ودفن بسفح قاسيون‏.‏

وفي العشر الأخير من شهر شوال توفي الأمير قرابغا دويدار النائب، بداره غربي حكر السماق، وقد أنشأ له إلى جانبها تربة ومسجداً، وهو الذي أنشأ السويقة المجددة عند داره، وعمل لها بابين شرقياً وغربياً، وضمنت بقيمة كثيرة بسبب جاهه، ثم بارت وهجرت لقلة الحاجة إليها‏.‏

وحضر الأمراء والقضاة والأكابر جنازته، ودفن بتربته هناك، وترك أموالاً جزيلة وحواصل كثيرة جداً، أخذه مخدومة نائب السلطنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/264‏)‏

وفي يوم الثلاثاء سابع شهر ذي القعدة توفي خطيب الجامع، الخطيب تاج الدين عبد الرحيم ابن القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحيم القزويني، بدار الخطابة، مرض يومين وأصابه ما أصاب الناس من الطاعون، وكذلك عامة أهل بيته من جواريه وأولاده، وتبعه أخوه بعد يومين صدر الدين عبد الكريم‏.‏

وصلّي على الخطيب تاج الدين بعد الظهر يومئذ عند باب الخطابة ودفن بتربتهم بالصوفية عند أبيه وأخويه بدر الدين محمد، وجمال الدين عبد الله رحمهم الله‏.‏

وفي يوم الخميس تاسعه اجتمع القضاة وكثير من الفقهاء المفتيين عند نائب السلطنة بسبب الخطابة، فطلب إلى المجلس الشيخ جمال الدين بن محمود بن جملة فولاه إياها نائب السلطنة، وانتزعت من يده وظائف كان يباشرها، ففرقت على الناس فولى القاضي بهاء الدين أبو البقاء تدريس الظاهرية البرانية، وتوزع الناس بقية جهاته، ولم يبق بيده سوى الخطابة، وصلى بالناس يومئذ الظهر، ثم خلع عليه في بكرة نهار الجمعة، وصلى بالناس يومئذ وخطبهم على قاعدة الخطباء‏.‏

وفي يوم عرفه، وكان يوم السبت، توفي القاضي شهاب الدين بن فضل الله كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية، والبلاد الشامية، ثم عزل عن ذلك ومات وليس يباشر شيئاً من ذلك من رياسة وسعادة وأموال جزيلة، وأملاك ومرتبات كثيرة، وعمَّر داراً هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية شرقيها ليس بالسفح مثلها‏.‏

وقد انتهت إليه رياسة الإنشاء، وكان يشبه بالقاضي الفاضل في زمانه، وله مصنفات عديدة بعبارات سعيدة، وكان حسن المذاكرة، سريع الاستحضار، جيد الحفظ، فصيح اللسان، جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء، ولم يجاوز الخمسين، توفي بدارهم داخل باب الفراديس، وصلّي عليه بالجامع الأموي، ودفن بالسفح مع أبيه وأخيه بالقرب من اليغمورية سامحه الله وغفر له‏.‏

وفي هذا اليوم توفي الشيخ عبد الله بن رشيق المغربي، كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية، كان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة لا بأس به، ديناً عابداً كثير التلاوة، حسن الصلاة، له عيال وعليه ديون رحمه الله وغفر له آمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/265‏)‏

 ثم دخلت سنة خمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك من البلاد الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائب الديار المصرية ومدير ممالكه، والأتابك سيف الدين يلبغا، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك أرباب الوظائف سوى الخطيب وسوى المحتسب‏.‏

وفي هذه السنة ولله الحمد تقصار أمر الطاعون جداً، ونزل ديوان المواريث إلى العشرين وما حولها بعد أن بلغ الخمسمائة في أثناء سنة تسع وأربعين، ثم تقدم ولكن لم يرتفع بالكلية‏.‏

فإن في يوم الأربعاء رابع شهر المحرم توفي الفقيه شهاب الدين أحمد بن الثقة هو وابنه وأخوه في ساعة واحدة بهذا المرض، وصُلّي عليهم جميعاً، ودفنوا في قبر واحد رحمهم الله تعالى‏.‏

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الناسك الخاشع ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر بن الصائغ الشافعي، مدرّس العمادية كان رحمه الله لديه فضائل كثيرة على طريقة السلف الصالح، وفيه عبادة كثيرة وتلاوة وقيام ليل وسكون حسن، وخلق حسن، جاوز الأربعين بنحو من ثلاث سنين، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث صفر باشر تقي الدين بن رافع المحدث مشيخة دار الحديث النورية، وحضر عنده جماعة من الفضلاء والقضاة والأعيان، انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

مسك نائب السلطنة أرغون شاه

وفي ليلة الخميس الثالث والعشرين من ربيع الأول مُسك نائب السلطنة بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه، وكان قد انتقل إلى القصر الأبلق بأهله، فما شعر بوسط الليل إلا ونائب طرابلس الأمير سيف الدين ألجي بغا المظفري الناصري، ركب إليه في طائفة من الأمراء الألوف وغيرهم، فأحاطوا به ودخل عليه من دخل وهو مع جواريه نائم، فخرج إليهم فقبضوا عليه وقيدوه ورسموا عليه‏.‏

وأصبح الناس أكثرهم لا يشعر بشيء مما وقع، فتحدث الناس بذلك واجتمعت الأتراك إلى الأمير سيف الدين ألجي بغا المذكور، ونزل بظاهر البلد، واحتيط على حواصل أرغون شاه، فبات عزيزاً وأصبح ذليلاً، وأمسى علينا نائب السلطنة فأصبح وقد أحاط به الفقر والمسكنة فسبحان من بيده الأمر مالك الملك‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏26‏]‏‏.‏

وهذا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏97 -99‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/ 266‏)‏

ثم لما كان ليلة الجمعة الرابع والعشرين من ربيع الأول أصبح مذبوحاً فأثبت محضر بأنه ذبح نفسه فالله تعالى أعلم‏.‏

 كائنة عجيبة غريبة جداً

ثم لما كان يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمسين وسبعمائة وقع اختلاف بين جيش دمشق وبين الأمير سيف الدين ألجي بغا، نائب طرابلس، الذي جاء فأمسك نائب دمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، ليلة الخميس وقتله ليلة الجمعة كما تقدم، وأقام بالميدان الأخضر يستخلص أمواله وحواصله، ويجمعها عنده فأنكر عليه الأمراء الكبار، وأمروه أن يحمل الأموال إلى قلعة السلطان فلم يقبل منهم، فاتهموه في أمره، وشكوا في الكتاب على يده من الأمر بمسكه وقتله‏.‏

وركبوا ملبسين تحت القلعة وأبواب الميادين، وركب هو في أصحابه وهم في دون المائة، وقائل يقول‏:‏ هم ما بين السبعين إلى الثمانين والتسعين، جعلوا يحملون على الجيش حمل المستقتلين، إنما يدافعهم مدافعة المتبرئين، وليس معهم مرسوم بقتلهم ولا قتالهم، فلهذا ولى أكثرهم منهزمين‏.‏

فخرج جماعة الجيش حتى بعض الأمراء المقدمين، وهو الأمير الكبير سيف الدين ألجي بغا العادلي، فقطعت يده اليمنى، وقد قارب التسعين، وقتل آخرون من أجناد الحلقة والمستخدمين‏.‏

ثم انفصل الحال على أن أخذ ألجي بغا المظفري من خيول أرغون شاه المرتبطة في إسطبله ما أراد، ثم انصرف من ناحية المزة صاغراً على عقبيه، ومعه الأموال التي جمعها من حواصل أرغون شاه، واستمر ذاهباً، ولم يتبعه أحد من الجيش، وصحبته الأمير فخر الدين إياس، الذي كان حاجباً، وناب في حلب في العام الماضي، فذهبا بمن معهما إلى طرابلس‏.‏

وكتب أمراء الشام إلى السلطان يعلمونه بما وقع، فجاء البريد بأنه ليس عند السلطان علم بما وقع بالكلية، وأن الكتاب الذي جاء على يديه مفتعل، وجاء الأمر لأربعة آلاف من الجيش الشامي أن يسيروا وراءه ليمسكوه، ثم أضيف نائب صفد مقدماً على الجميع، فخرجوا في العشر الأول من ربيع الآخر‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر خرجت العساكر في طلب سيف الدين ألجي بغا العادلي في المعركة وهو أحد أمراء الألوف المقدمين‏.‏

ولما كانت ليلة الخميس سابعه نودي بالبلد على من يقربها من الأجناد أن لا يتأخر أحد عن الخروج بالغد، فأصبحوا في سرعة عظيمة واستنيب في البلد نيابة عن النائب الراتب الأمير بدر الدين الخطير، فحكم بدار السعادة على عادة النواب‏.‏

وفي ليلة السبت بين العشاءين سادس عشره دخل الجيش الذين خرجوا في طلب ألجي بغا المظفري، وهو معهم أسير ذليل حقير، وكذلك الفخر إياس الحاجب مأسور معهم، فأودعا في القلعة مهانين من جسر باب النصر الذي تجاه دار السعادة، وذلك بحضور الأمير بدر الدين الخطير نائب الغيبة، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/267‏)‏

فلما كان يوم الاثنين الثامن عشر منه خرجا من القلعة إلى سوق الخيل فوسطا بحضرة الجيش، وعلقت جثتهما على الخشب ليراهما الناس، فمكثا أياماً ثم أُنزلا فدفنا بمقابر المسلمين‏.‏

وفي أوائل شهر جمادى الآخرة جاء الخبر بموت نائب حلب سيف الدين قطلبشاه ففرح كثير من الناس بموته، وذلك لسوء أعماله في مدينة حماه في زمن الطاعون، وذكر أنه كان يحتاط على التركة وإن كان فيها ولد ذكر أو غيره، ويأخذ من أموال الناس جهرة، حتى حصل له منها شيء كثير‏.‏

ثم نقل إلى حلب بعد نائبها الأمير سيف الدين أرقطيه الذي كان عين لنيابة دمشق بعد موت أرغون شاه، وخرج الناس لتلقيه فما هو إلا أن برز منزلة واحدة من حلب فمات بتلك المنزلة، فلما صار قطلبشاه إلى حلب لم يقم بها إلا يسيراً حتى مات، ولم ينتفع بتلك الأموال التي جمعها لا في دنياه ولا في أخراه‏.‏

ولما كان يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة دخل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري من الديار المصرية إلى دمشق نائباً عليها، وبين يديه الجيش على العادة، فقّبل العتبة ولبس الحياصة والسيف، وأُعطي تقليده ومنشوره هنالك‏.‏

ثم وقف في الموكب على عادة النواب، ورجع إلى دار السعادة وحكم، وفرح الناس به، وهو حسن الشكل تام الخلقة، وكان الشام بلا نائب مستقل قريباً من شهرين ونصف‏.‏

وفي يوم دخوله حبس أربعة أمراء من الطبلخانات، وهم‏:‏ القاسمي وأولاد آل أبو بكر اعتقلهم في القلعة لممالأتهم ألجي بغا المظفري، على أرغون شاه نائب الشام‏.‏

وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة حكم القاضي نجم الدين بن القاضي عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وذلك بتوقيع سلطاني وخلعة من الديار المصرية‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي وبين الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق‏.‏

وفي يوم الجمعة السادس والعشرين منه‏:‏ نقلت جثة الأمير سيف الدين أرغون شاه من مقابر الصوفية إلى تربته التي أنشأها تحت الطارمة، وشرع في تكميل التربة والمسجد الذي قبلها، وذلك أنه عاجلته المنية على يدي ألجي بغا المظفري قبل إتمامهما، وحين قتلوه ذبحاً ودفنوه ليلاً في مقابر الصوفية، قريباً من قبر الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، ثم حول إلى تربته في الليلة المذكورة‏.‏

‏(‏ج/ ص‏:‏ 14/268‏)‏

وفي يوم السبت تاسع عشر رجب أذن المؤذنون للفجر قبل الوقت بقريب من ساعة، فصلى الناس في الجامع الأموي على عادتهم في ترتيب الأئمة، ثم رأوا الوقت باقياً فأعاد الخطيب الفجر بعد صلاة الأئمة كلهم، وأقيمت الصلاة ثانياً وهذا شيء لم يتفق مثله‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن شهر شعبان توفي قاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي بالمسمارية، وصُلّي عليه الظهر بالجامع الأموي، ثم بظاهر باب النصر، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله‏.‏

وفي يوم الاثنين رمضان بكرة النهار استدعي الشيخ جمال الدين المرداوي من الصالحية إلى دار السعادة، وكان تقليد القضاء لمذهبه قد وصل إليه قبل ذلك بأيام، فأحضرت الخلعة بين يدي النائب والقضاة الباقين، وأريد على لبسها وقبول الولاية فامتنع فألحوا عليه فصمم وبالغ في الامتناع، وخرج وهو مغضب فراح إلى الصالحية فبالغ الناس في تعظيمه‏.‏

وبقي القضاة يوم ذلك في دار السعادة، ثم بعثوا إليه بعد الظهر فحضر من الصالحية فلم يزالوا به حتى قبل ولبس الخلعة وخرج إلى الجامع، فقرئ تقليده بعد العصر، واجتمع معه القضاة وهنأه الناس، وفرحوا به لديانته وصيانته وفضيلته وأمانته‏.‏

وبعد هذا اليوم بأيام حكم الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي، وابن مفلح زوج ابنته‏.‏

وفي العشر الأخير من ذي القعدة حضر الفقيه الإمام المحدث المفيد أمين الدين الأيجي الملكي مشيخة دار الحديث بالمدرسة الناصرية الجوانية، نزل له عنها الصدر أمين الدين بن القلانسي، وكيل بيت المال، وحضر عنده الأكابر والأعيان‏.‏

وفي أواخر هذه السنة تكامل بناء التربة التي تحت الطارمة المنسوبة إلى الأمير سيف الدين أرغون شاه، الذي كان نائب السلطنة بدمشق، وكذلك القبلي منها، وصلى فيها الناس، وكان قبل ذلك مسجداً صغيراً فعمره وكبره، وجاء كأنه جامع تقبل الله منه انتهى‏.‏