فصل: مسك منجك وصفة الظهور و عليه وكان مختفياً بدمشق حوالي سنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب ولا وزير بمصر، وإنما يرجع تدبير المملكة إلى الأمير سيف الدين شيخون، ثم الأمير سيف الدين صرغتمش، ثم الأمير عز الدين مغلطاي الدوايدار‏.‏

وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها سوى الشافعي فإنه ابن المتوفي قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز، وطرابلس الأمير سيف الدين منجك، وبصغد الأمير شهاب الدين بن صبح، وبحماة يدمر العمري، وبحمص علاء الدين بن المعظم، وببعلبك الأمير ناصر الدين الأقوس‏.‏

وفي العشر الأول من ربيع الأول تكامل إصلاح بلاط الجامع الأموي، وغسل فصوص المقصورة والقبة، وبسط بسطاً حسناً، وبيضت أطباق القناديل، وأضاء حاله جداً، وكان المستحث على ذلك الأمير علاء الدين أيدغمش أحد أمراء الطبلخانات، بمرسوم نائب السلطنة له في ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/291‏)‏

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة صلّي على الأمير سيف الدين براق أمير أرجو بجامع تنكز، ودفن بمقابر الصوفية، وكان مشكور السيرة كثير الصلاة والصدقة محباً للخير وأهله، من أكبر أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى‏.‏

وقد رسم لولديه ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر كل منهما بعشرة أرماح، ولناصر الدين بمكان أبيه في الوظيفة بإسطبل السلطان‏.‏

وفي يوم الخميس رابع شهر جمادى الأولى خلع على الأميرين الأخوين ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر ولدي الأمير سيف الدين براق رحمه الله تعالى، بأميرين عشرتين‏.‏

ووقع في هذا الشهر نزاع بين الحنابلة في مسألة المناقلة، وكان ابن قاضي الجبل الحنبلي يحكم بالمناقلة في قرار دار الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي حاجب الحجاب إلى أرض أخرى يجعلها وقفاً على ما كانت قرار داره عليه، ففعل ذلك بطريقة ونفذه القضاة الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي‏.‏

فغضب القاضي الحنبلي وهو قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي من ذلك، وعقد بسبب ذلك مجالس، وتطاول الكلام فيه، وادّعى كثير منهم أن مذهب الإمام أحمد في المناقلة إنما هو في حال الضرورة، وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف، فأما المناقلة لمجرد المصلحة والمنفعة الراجحة فلا، وامتنعوا من قبول ما قرره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ذلك‏.‏

ونقله عن الإمام أحمد من وجوه كثيرة من طريق ابنيه صالح وحرب وأبي داود وغيرهم، أنها تجوز للمصلحة الراجحة، وصنف في ذلك مسألة مفردة وقفت عليها - يعني الشيخ عماد الدين بن كثير - فرأيتها في غاية الحسن والإفادة، بحيث لا يتخالج من اطلع عليها ممن يذوق طعم الفقه أنها مذهب الإمام أحمد رحمه الله‏.‏

فقد احتج أحمد في ذلك في رواية ابنه صالح بما رواه عن يزيد بن عوف، عن المسعودي، عن القاسم بن محمد‏:‏ أن عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق، ففعل ذلك‏.‏

فهذا فيه أوضح دلالة على ما استدل به فيها من النقل بمجرد المصلحة فإنه لا ضرورة إلى جعل المسجد العتيق سوقاً، على أن الإسناد فيه انقطاع بين القاسم وبين عمر وبين القاسم وابن مسعود، ولكن قد جزم به صاحب المذهب، واحتج به وهو ظاهر واضح في ذلك، فعقد المجلس في يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر‏.‏

وفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى وقع حريق عظيم ظاهر باب الفرج احترق فيه بسببه قياسير كثيرة لطاز ويلبغا، وقيسرية الطوشاي لبنت تكز، وأخر كثيرة ودور ودكاكين، وذهب للناس شيء كثير من الأمتعة والنحاس والبضائع وغير ذلك، مما يقاوم ألف ألف وأكثر خارجاً عن الأموال، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/292‏)‏

وقد ذكر كثير من الناس أنه كان في هذه القياسير شر كثير من الفسق والربا والزغل وغير ذلك‏.‏

وفي السابع والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بأن الفرنج لعنهم الله استحوذوا على مدينة صفد‏:‏ قدموا في سبعة مراكب وقتلوا طائفة من أهلها ونهبوا شيئاً كثيراً وأسروا أيضاً، وهجموا على الناس وقت الفجر يوم الجمعة، وقد قتل منهم المسلمون خلقاً كثيراً، وكسروا مركباً من مراكبهم، وجاء الفرنج في عشية السبت قبل العصر، وقدم الوالي وهو جريح مثقل، وأمر نائب السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية فساروا تلك الليلة ولله الحمد‏.‏

وتقدمهم حاجب الحجاب وتحدر إليهم نائب صفد الأمير شهب الدين بن صبح، فسبق الجيش الدمشقي، ووجد الفرنج قد برزوا بما غنموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرة تلقاء صيدا في البحر، وقد أسر المسلمون منهم في المعركة شيخاً وشاباً من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذهاب، فراسلهم الجيش في إنفكاك الأساري من أيديهم فبادرهم عن كل رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفاً، ولم يبق معهم ولله الحمد أحد‏.‏

واستمر الصبي من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفع إليهم الشيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشاً شديداً، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدة، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرين بما معهم من الغنائم، وبعثت رؤوس جماعة من الفرنج ممن قتل في المعركة فنصبت على القلعة بدمشق‏.‏

وجاء الخبر في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيض وهم محاصرون القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقاً كثيراً من أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وذهب صاحب حلب في جيش كثيف نحوهم والله المسئول أن يظفرهم بحوله وقوته، وشاع بين العامة أيضاً أن الإسكندرية محاصرة ولم يتحقق ذلك إلى الآن، وبالله المستعان‏.‏

وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قدم رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضع وثلاثون رأساً، فنصبت على شرفات القلعة ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد‏.‏

وفي ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وقع حريق عظيم داخل باب الصغير من مطبخ السكر الذي عند السويقة الملاصقة لمسجد الشناشين، فاحترق المطبخ وما حوله إلى حمام أبي نصر، واتصل بالسويقة المذكورة وما هنالك من الأماكن، فكان قريباً أو أكثر من الحريق ظاهر باب الفرج فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحضر نائب السلطنة وذلك أنه كان وقت صلاة العشاء ولكن كان الريح قوياً، وذلك بتقدير العزيز العليم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/293‏)‏

وتوفي الشيخ عز الدين محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي أحد مشايخ الرواة في ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، وصلّي عليه من الغد بالجامع الأموي بعد الظهر ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وكان مولده في ثاني ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة، فجمع الكثير وتفرد بالرواية عن جماعة في آخر عمره، وانقطع بموته سماع السنن الكبير للبيهقي، رحمه الله‏.‏

ووقع حريق عظيم ليلة الجمعة خامس عشر رجب بمحلة الصالحية من سفح قاسيون، فاحترق السوق القبلي من جامع الحنابلة بكماله شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً‏.‏فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة خامس شهر رمضان خطب بالجامع الذي أنشأه سيف الدين يلبغا الناصري غربي سوق الخيل، وفتح في هذا اليوم وجاء في غاية الحسن والبهاء، وخطب الشيخ ناصر الدين بن الربوة الحنفي‏.‏

وكان قد نازعه فيه الشيخ شمس الدين الشافعي الموصلي، وأظهر ولاية من واقفه يلبغا المذكور، ومراسيم شريفة سلطانية، ولكن قد قوي عليه ابن الربوة بسبب أنه نائب عن الشيخ قوام الدين الأتقاني الحنفي، وهو مقيم بمصر، ومعه ولاية من السلطان متأخرة عن ولاية الموصلي، فرسم لابن الربوة، فلبس يومئذ الخلعة السوداء من دار السعادة وجاؤوا بين يديه بالسناجق السود الخليفية‏.‏

والمؤذنون يكبرون على العادة، وخطب يومئذ خطبة حسنة أكثرها في فضائل القرآن، وقرأ في المحراب بأول سورة طه، وحضر كثير من الأمراء والعامة والخاصة، وبعض القضاة، وكان يوماً مشهوداً، وكنت ممن حضر قريباً منه‏.‏

والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس وفيه‏:‏ والمخدوم يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبال كلها ومات الوحوش كلها مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوش موضع يهربون فيه، وبقي الحريق عليه أياماً وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى - يعني الذي وقع في تشرين وذلك في ذي القعدة من هذه السنة - قال‏:‏ ومن العجب أن ورقة من شجرة وقعت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدرزية والرافضة‏.‏

نقلته من خط كاتبه محمد بن يلبان إلى صاحبه، وهما عندي بقبان فيالله العجب‏.‏

وفي هذا الشهر - يعني ذي القعدة - وقع بين الشيخ إسماعيل بن العز الحنفي وبين أصحابه من الحنفية مناقشة سبب اعتدائه على بعض الناس في محاكمة، فاقتضى ذلك إحضاره إلى مجلس الحكم ثلاثة أيام كمثل المتمرد عندهم، فلما لم يحضر فيها حكم عليه القاضي شهاب الدين الكفري نائب الحنفي بإسقاط عدالته، ثم ظهر خبره بأنه قصد بلاد مصر، فأرسل النائب في أثره من يرده فعنفه، ثم أطلقه إلى منزله، وشفع فيه قاضي القضاة الحنفي فاستحسن ذلك ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/294‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة والخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي، وسلطان الإسلام بالديار المصرية وما يتبعها وبالبلاد الشامية وما والاها والحرمين الشريفين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي ولي له بمصر نائب ولا وزير‏.‏

وإنما ترجع الأمور إصداراً وإيراداً إلى الأميرين الكبيرين سيف الدين شيخون وصرغتمش الناصريين، وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها انتهى‏.‏

 كائنة غريبة جداً

لما كان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة نهدت جماعة من مجاوري الجامع بدمشق من مشهد علي وغيره، واتبعهم جماعة من الفقراء والمغاربة، وجاؤوا إلى أماكن متهمة بالخمر وبيع الحشيش فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها وأتلفوا شيئاً كثيراً من الحشيش وغيره، ثم انتقلوا إلى حكر السماق وغيرهم فثار عليهم من البارذارية والكلابرية وغيرهم من الرعاع فتناوشوا‏.‏

وضربت عليهم ضرابات بالأيدي وغيرهم، وربما سل بعض الفساق السيوف عليهم كما ذكر، وقد رسم ملك الأمراء لوالي المدينة ووالي البر أن يكونوا عضداً لهم وعوناً على الخمارين والحشاشة، فنصروهم عليهم‏.‏

غير أنه كثر معهم الضجيج ونصبوا راية واجتمع عليهم خلق كثير، ولما كان في أواخر النهار تقدم جماعة من النقباء والخزاندارية ومعهم جنازير فأخذوا جماعة من مجاوري الجامع وضربوا بالمقارع وطيف بهم في البلد ونادوا عليهم‏:‏ هذا جزاء من يتعرض لما لا يعنيه تحت علم السلطان‏.‏

فتعجب الناس من ذلك وأنكروه حتى أنه أنكر اثنان من العامة على المنادية فضرب بعض الجند أحدهم بدبوس فقتله وضرب الآخر فيقال إنه مات أيضاً فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي شعبان من هذه السنة حكي عن جارية من عتيقات الأمير سيف الدين تمر المهمندار أنها حملت قريباً من سبعين يوماً ثم شرعت تطرح ما في بطنها فوضعت في قرب من أربعين يوماً في أيام متتالية ومتفرقة أربع عشرة بنتاً وصبياً بعدهن قل من يعرف شكل الذكر من الأنثى‏.‏

وجاء الخبر بأن الأمير سيف الدين شيخون مدبر الممالك بالديار المصرية والشامية ظفر عليه مملوك من مماليك السلطان فضربه بالسيف ضربات فجرحه في أماكن في جسده‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/295‏)‏

منها‏:‏ ما هو في وجهه، ومنها‏:‏ ما هو في يده، فحمل إلى منزله صريعاً طريحاً جريحاً، وغضب لذلك طوائف من الأمراء حتى قيل إنهم ركبوا ودعوا إلى المبارزة فلم يجيء إليهم وعظم الخطب بذلك جداً واتهمو به الأمير سيف الدين صرغتمش وغيره، وأن هذا إنما فعل عن ممالأة منهم فالله أعلم‏.‏

وفاة أرغون الكاملي باني البيمارستان بحلب

كانت وفاته بالقدس الشريف في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، ودفن بتربة أنشأها غربي المسجد بشماله، وقد ناب بدمشق مدة بعد حلب، ثم جرت الكائنة التي أصلها بيبغا قبحه الله في أيامه، ثم صار إلى نيابة حلب ثم سجن بالإسكندرية مدة، ثم أفرج عنه فأقام بالقدس الشريف إلى أن كانت وفاته كما ذكرنا في التاريخ المذكور عزّره الشريف ابن زريك، والله أعلم‏.‏

 وفاة الأمير شيخون

ورد الخبر من الديار المصرية بوفاة الأمير شيخون ليلة الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة ودفن من الغد بتربته، وقد ابتنى مدرسة هائلة وجعل فيها المذاهب الأربعة ودار للحديث وخانقاه للصوفية، ووقف عليها شيئاً كثيراً، وقرر فيها معاليم وقراءة دارة، وترك أموالاً جزيلة وحواصل كثيرة ودواوين في سائر البلاد المصرية والشامية، وخلّف بنات وزوجة، وورث البقية أولاد السلطان المذكور بالولاء، ومسك بعد وفاته أمراء كثيرون بمصر كانوا من حزبه، من أشهرهم عز الدين بقطاي والدوادار وابن قوصون وأمه أخت السلطان خلف عليها شيخون بعد قوصون انتهى والله أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/296‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالبلاد المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي، وقد قوي جانبه وحاشيته بموت الأمير شيخون كما ذكرنا في سادس عشرين ذي القعدة من السنة الماضية‏.‏

وصار إليه من ميراثه من زهرة الحياة شيء كثير من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وكذلك من المماليك والأسلحة والعدة والبرك والمتاجر ما يشق حصره ويتعذر إحصاؤه ها هنا، وليس في الديار المصرية فيما بلغنا إلى الآن نائب ولا وزير، والقضاة هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وأما دمشق فنائبها وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي فإنه قاضي القضاة شرف الدين الكفري، عوضاً عن نجم الدين الطوسي‏.‏

توفي في شعبان من السنة الماضية، ونائب حلب سيف الدين طاز، وطرابلس منجك، وحماة استدمر العمري، وصفد شهاب الدين بن صبح، وبحمص صلاح الدين خليل بن خاض برك، وببعلبك ناصر الدين الأقوس‏.‏

وفي صبيحة يوم الاثنين رابع عشر المحرم خرجت أربعة آلاف مع أربع مقدمين إلى ناحية حلب نصرة لجيش حلب على مسك طاز إن امتنع من السلطنة كما أمر‏.‏

ولما كان يوم الحادي والعشرين من المحرم نادى المنادي من جهة نائب السلطنة أن يركب من بقي من الجند في الحديد ويوافوه إلى سوق الخيل، فركب معهم قاصداً ناحية ثنية العقاب ليمنع الأمير طاز من دخول البلد، لما تحقق مجيئه في جيشه قاصداً إلى الديار المصرية‏.‏

فانزعج الناس لذلك وأخليت دار السعادة من الحواصل والحريم إلى القلعة، وتحصن كثير من الأمراء بدورهم داخل البلد، وأغلق باب النصر، فاستوحش الناس من ذلك بعض الشيء، ثم غلقت أبواب البلد كلها إلا بأبي الفراديس والفرج، وباب الجابية أيضاً لأجل دخول الحجاج، ودخل المحمل صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم ولم يشعر به كثير من الناس لشغلهم بما هم فيه من أمر طاز، وأمر العشير بحوران، وجاء الخبر بمسك الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب الكبير بأرض حوران‏.‏

وسجنه بقلعة صرخد، وجاء سيفه صحبة الأمير جمال الدين الحاجب، فذهب به إلى الوطاق عند الثنية، وقد وصل طاز بجنوده إلى باب القطيفة وتلاقى شاليشه بشاليش نائب الشام، ولم يكن منهم قتال ولله الحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/297‏)‏

ثم تراسل هو والنائب في الصلح على أن يسلم طاز نفسه ويركب في عشرة سروج إلى السلطان وينسلخ مما هو فيه، ويكاتب فيه النائب وتلطفوا بأمره عند السلطان وبكل ما يقدر عليه‏.‏

فأجاب إلى ذلك وأرسل يطلب من يشهده على وصيته، فأرسل إليه نائب السلطنة القاضي شهاب الدين قاضي العسكر، فذهب إليه فأوصى لولده وأم ولده ولوالده نفسه، وجعل الناظر على وصيته الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة، وللأمير صرغتمش، ورجع النائب من الثنية عشية يوم السبت بين العشاءين الرابع والعشرين منه وتضاعفت الأدعية له وفرح الناس بذلك فرحاً شديداً‏.‏

ودعوا إلى الأمير طاز بسبب إجابته إلى السمع والطاعة، وعدم مقاتلته مع كثرة من كان معه من الجيوش، وقوة من كان يحرضه على ذلك من أخوته وذويه، وقد اجتمعت بنائب السلطنة الأمير علاء الدين أمير علي المارداني فأخبرني بملخص ما وقع منذ خرج إلى أن رجع‏.‏

ومضمون كلامه أن الله لطف بالمسلمين لطفاً عظيماً، إذ لم يقع بينهم قتال، فإنه قال‏:‏ لما وصل طاز إلى القطيفة وقد نزلنا نحن بالقرب من خان لاجين أرسلت إليه مملوكاً من مماليكي أقول له‏:‏ إن المرسوم الشريف قد ورد بذهابك إلى الديار المصرية في عشرة سروج فقط، فإذا جئت هكذا فأهلاً وسهلاً، وإن لم تفعل فأنت أصل الفتنة‏.‏

وركبت ليلة الجمعة طول الليل في الجيش وهو ملبس، فرجع مملوكي ومعه مملوكه سريعاً يقول‏:‏ إنه يسأل أن يدخل بطلبه كما خرج يطلبه من مصر، فقلت‏:‏ لا سبيل إلى ذلك إلا في عشرة سروج كما رسم السلطان، فرجع وجاءني الأمير الذي جاء من مصر بطلبه فقال‏:‏ إنه يطلب منك أن يدخل في مماليكه فإذا جاوز دمشق إلى الكسوة نزل جيشه هناك وركب هو في عشرة سروج كما رسم‏.‏

فقلت‏:‏ لا سبيل إلى أن يدخل دمشق ويتجاوز بطلبه أصلاً، وإن كان عنده خيل ورجال وعدة فعندي أضعاف ذلك، فقال لي الأمير‏:‏ يا خوند لا يكون تنسى قيمته، فقلت‏:‏ لا يقع إلا ما تسمع، فرجع فما هو إلا أن ساق مقدار رمية سهم وجاء بعض الجواسيس الذين لنا عندهم فقال‏:‏ ياخوندها قد وصل جيش حماة وطرابلس، ومن معهم من جيش دمشق الذين كانوا قد خرجوا بسببه، وقد اتفقوا هم وهو‏.‏

قال‏:‏ فحينئذ ركبت في الجيش وأرسلت طليعتين أمامي وقلت تراءوا للجيوش الذين جاؤوا حتى يروكم فيعلموا أنا قد أحطنا بهم من كل جانب‏.‏

فحينئذ جاءت البرد من جهته بطلب الأمان ويجهرون بالإجابة إلى أن يركب في عشرة سروج، ويترك طلبه بالقطيفة، وذلك يوم الجمعة، فلما كان الليل ركبت أنا والجيش في السلاح طول الليل وخشيت أن تكون مكيدة وخديعة، فجاءتنا الجواسيس فأخبرونا أنهم قد أوقدوا نشابهم ورماحهم وكثيراً من سلاحهم، فتحققنا عند ذلك طاعته وإجابته، لكل ما رسم به، فلما أصبح يوم السبت وصى وركب في عشرة سروج وسار نحو الديار المصرية ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/298‏)‏

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر دخل حاجب الحجاب الذي كان سجن في قلعة صرخد مع البريدي الذي قدم بسبه من الديار المصرية، وتلقاه جماعة من الأمراء والكبراء، وتصدق بصدقات كثيرة في داره، وفرحوا به فرحاً شديداً، وهو والناس يقولون إنه ذاهب إلى الديار المصرية معظماً مكرماً على تقدمة ألف ووظائف هناك، فلما كان يوم الخميس السابع والعشرين منه لم يفجأ الناس إلا وقد دخل القلعة المنصورة معتقلاً بها مضيقاً عليه، فتعجب الناس من هذه الترحة من تلك الفرحة فما شاء الله كان‏.‏

وفي يوم الأربعاء رابع ربيع الأول عقد مجلس بسبب الحاجب بالمشهد من الجامع‏.‏

وفي يوم الخميس أحضر الحاجب من القلعة إلى دار الحديث، واجتمع القضاة هناك بسبب دعاوى يطلبون منه حق بعضهم‏.‏

ثم لما كان يوم الاثنين تاسعه قدم من الديار المصرية مقدم البريدية بطلب الحاجب المذكور فأخرج من القلعة السلطانية وجاء إلى نائب السلطنة فقبّل قدمه، ثم خرج إلى منزله وركب من يومه قاصداً إلى الديار المصرية مكرماً، وخرج بين يديه خلق من العوام والحرافيش يدعون له، وهذا أغرب ما أرّخ، فهذا الرجل نالته شدة عظيمة بسبب سجنه بصرخد، ثم أفرج عنه، ثم حبس في قلعة دمشق ثم أفرج عنه، وذلك كله في نحو شهر‏.‏

ثم جاءت الأخبار في يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى بعزل نائب السلطنة عن دمشق فلم يركب في الموكب يوم الاثنين، ولا حضر في دار العدل، ثم تحققت الأخبار بذلك وبذهابه إلى نيابة حلب، ومجيء نائب حلب إلى دمشق، فتأسف كثير من الناس عليه لديانته وجوده وحسن معاملته لأهل العلم، ولكن حاشيته لا ينفذون أوامره، فتولد بسبب ذلك فساد عريض وحموا كثيراً من البلاد‏.‏

فوقعت الحروب بين أهلها بسبب ذلك، وهاجت العشيرات فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين خرج الأمير علي المارداني من دمشق في طلبه مستعجلاً في أبهة النيابة، قاصداً إلى حلب المحروسة، وقد ضرب وطاقه بوطأة برزة، فخرج الناس للتفرج على طلبه‏.‏

وفي هذا اليوم بعد خروج النائب بقليل دخل الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب من الديار المصرية عائداً إلى وظيفة الحجوبية في أبهة عظيمة، وتلقاه الناس بالشموع، ودعوا له، ثم ركب من يومه إلى خدمة ملك الأمراء إلى وطأة برزة، فقبّل يده وخلع عليه الأمراء، واصطلحا‏.‏انتهى والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/299‏)‏

 دخول نائب السلطنة منجك إلى دمشق

كان ذلك في صبيحة يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من ناحية حلب وبين يديه الأمراء والجيش على العادة، وأوقدت الشموع وخرج الناس ومنهم من باب على الأسطحة وكان يوماً هائلاً‏.‏

وفي أواخر شهر رجب برز نائب السلطنة إلى الربوة وأحضر القضاة وولاة الأمور ورسم بإحضار المفتيين - وكنت فيمن طلب يومئذ إلى الربوة فركبت إليها - وكان نائب السلطنة عزم يومئذ على تخريب المنازل المبنية بالربوة وغلق الحمام من أجل هذه فيما ذكر أنها بنيت ليقضي فيها، وهذا الحمام أوساخه صائرة إلى النهر الذي يشرب منه الناس، فاتفق الحال في آخر الأمر على إبقاء المساكن ورد المرتفعات المسلطة على توره وناس، ويترك ما هو مسلط على بردى، فانكف الناس عن الذهاب إلى الربوة بالكلية، ورسم يومئذ بتضييق أكمام النساء وأن تزال الأجراس والركب عن الحمير التي للمكارية‏.‏

وفي أوائل شهر شعبان ركب نائب السلطنة يوم الجمعة بعد العصر ليقف على الحائط الرومي الذي بالرحبية، فخاف أهل الأسواق وغلقوا دكاكينهم عن آخرهم، واعتقدوا أن نائب السلطنة أمر بذلك، فغضب من ذلك وتنصل منه، ثم إنه أمر بهدم الحائط المذكور، وأن ينقل إلى العمارة التي استجدها خارج باب النصر في دار الصناعة التي إلى جانب دار العدل، أمر ببنائها خاناً ونقلت تلك الأحجار إليها، انتهى والله أعلم‏.‏

 عزل القضاة الثلاثة بدمشق

ولما كان يوم الثلاثاء تاسع شعبان قدم من الديار المصرية بريدي ومعه تذكرة - ورقة - فيها السلام على القضاة المستجدين، وأخبر بعزل القاضي الشافعي والحنفي والمالكي، وأنه ولى قضاة الشافعية القاضي بهاء الدين أبو البقا السبكي، وقضاء الحنفية الشيخ جمال الدين بن السراج الحنفي، وذهب الناس إلى السلام عليهم والتهنئة لهم واحتفلوا بذلك، وأخبروا أن القاضي المالكي سيقدم من الديار المصرية، ولما كان يوم السبت السابع والعشرين من شعبان وصل البريد من الديار المصرية ومعه تقليدان وخلعتان للقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، فلبسا الخلعتين وجاءا من دار السعادة إلى الجامع الأموي، وجلسا في محراب المقصورة، وقرأ تقليد قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء الشافعي، الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث على السدة تجاه المحراب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/300‏)‏

وقرأ تقليد قاضي القضاة جمال الدين بن السراج الحنفي الشيخ عماد الدين بن السراج المحدث أيضاً على السدة، ثم حكما هنالك، ثم جاء أيضاً إلى الغزالية فدرس بها قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء، وجلس الحنفي إلى جانبه عن يمينه، وحضرت عنده فأخذ في صيام يوم الشك، ثم جاء معه إلى المدرسة النورية فدرس بها قاضي القضاة جمال الدين المذكور، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، وذكروا أنه أخذ في قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏}‏الآية ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

ثم انصرف بهاء الدين إلى المدرسة العادلية الكبيرة فدرس بها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء ثامن شهر رمضان دخل القاضي المالكي من الديار المصرية فلبس الخلعة يومئذ ودخل المقصورة من الجامع الأموي وقرئ تقليده هنالك بحضرة القضاة والأعيان، قرأه الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث، وهو قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن الشيخ شمس الدين محمد بن عسكر العراقي البغدادي‏.‏

قدم الشام مراراً ثم استوطن الديار المصرية بعد ما حكم ببغداد نيابة عن قطب الدين الأخوي، ودرّس بالمستنصرية بعد أبيه، وحكم بدمياط أيضاً ثم نقل إلى قضاء المالكية بدمشق، وهو شيخ حسن كثير التودد ومسدد العبارة حسن البشر عند اللقاء، مشكور في مباشرته عفة ونزاهة وكرم، الله يوفقه ويسدده‏.‏

 مسك الأمير طرغتمش أتابك الأمراء بالديار المصرية

ورد الخبر إلينا بمسكه يوم السبت الخامس والعشرين من رمضان هذا، وأنه قبض عليه بحضرة السلطان يوم الاثنين العشرين منه، ثم اختلفت الرواية عن قتله غير أنه احتيط على حواصله وأمواله، وصودر أصحابه وأتباعه، فكان فيمن ضرب وعصر تحت المصادرة القاضي ضياء الدين ابن خطيب بيت الأبار، واشتهر أنه مات تحت العقوبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/301‏)‏

وقد كان مقصداً للواردين إلى الديار المصرية، لا سيما أهل بلدة دمشق، وقد باشر عدة وظائف، وكان في آخر عمره قد فوّض إليه نظر جميع الأوقاف ببلاد السلطان، وتكلم في أمر الجامع الأموي، وغيره فحصل بسبب ذلك قطع أرزاق جماعات من الكتبة وغيرهم، ومالأ الأمير صرغتمش في أمور كثيرة خاصة وعامة، فهلك بسببه، وقد قارب الثمانين، انتهى‏.‏

 إعادة القضاة

وقد كان صرغتمش عزل القضاة الثلاثة بدمشق، وهم الشافعي والحنفي والمالكي كما تقدم، وعزل قبلهم ابن جماعة وولى ابن عقيل، فلما مسك صرغتمش رسم السلطان بإعادة القضاة على ما كانوا عليه‏.‏

ولما ورد الخبر بذلك إلى دمشق امتنع القضاة الثلاثة من الحكم، غير أنهم حضروا ليلة العيد لرؤية الهلال بالجامع الأموي، وركبوا مع النائب صبيحة العيد إلى المصلّى على عادة القضاة، وهم على وجل، وقد انتقلوا من مدارس الحكم فرجع قاضي القضاة أبو البقاء الشافعي إلى بستانه بالزعيفرية، ورجع قاضي القضاة ابن السراج إلى داره بالتعديل، وارتحل قاضي القضاة شرف الدين المالكي إلى الصالحية داخل الصمصامية، وتألم كثير من الناس بسببه، لأنه قد قدم غريباً من الديار المصرية وهو فقير ومتدين، وقد باشر الحكم جيداً‏.‏

ثم تبين بآخرة أنه لم يعزل وأنه مستمر كما سنذكره، ففرح أصحابه وأحبابه، وكثير من الناس بذلك‏.‏

فلما كان يوم الأحد رابع شوال قدم البريد وصحبته تقليد الشافعي قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي وتقليد الحنفي قاضي القضاة شرف الدين الكفري واستمر قاضي القضاة شرف الدين المالكي العراقي على قضاء المالكية، لأن السلطان تذكر أنه كان شافهه بولاية القضاء بالشام، وسيره بين يديه إلى دمشق، فحمدت سيرته كما حسنت سريرته‏.‏إن شاء الله، وفرح الناس له بذلك‏.‏

وفي ذي القعدة توفي المحدث شمس الدين محمد بن سعد الحنبلي يوم الاثنين ثالثه، ودفن من الغد بالسفح، وقد قارب الستين، وكتب كثيراً وخرّج، وكانت له معرفة جيدة بأسماء الأحرار، ورواتها من الشيوخ المتأخرين، وقد كتب للحافظ البرزالي قطعة كبيرة من مشايخه، وخرج له عن كل حديثاً أو أكثر، وأثبت له ما سمعه عن كل منهم، ولم يتم حتى توفي البرزالي رحمه الله‏.‏

وتوفي بهاء الدين بن المرجاني باني جامع الفوقاني، وكان مسجداً في الأصل فبناه جامعاً، وجعل فيه خطبة، وكنت أول من خطب فيه سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وسمع شيئاً من الحديث‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/302‏)‏

وبلغنا مقتل الأمير سيف الدين بن فضل بن عيسى بن مهنا أحد أمراء الأعراب الأجواد الأنجاد وقد ولي إمرة آل مهنا غير مرة كما وليها أبوه من قبله‏:‏ عدا عليه بعض بني عمه فقتله من غير قصد بقتله، كما ذكر، لكن لما حمل عليه السيف أراد أن يدفع عن نفسه وبنفسه فضربه بالسيف برأسه ففلقه فلم يعش بعده إلا أياماً قلائل ومات رحمه الله انتهى‏.‏

 عزل منجك عن دمشق

ولما كان يوم الأحد ثاني ذي الحجة قدم أمير من الديار المصرية ومعه تقليد نائب دمشق، وهو الأمير سيف الدين منجك بنيابة صفد المحروسة، فأصبح من الغد - وهو يوم عرفة - وقد انتقل من دار السعادة إلى سطح المزة قاصداً إلى صفد المحروسة فعمل العيد بسطح المزة‏.‏

ثم ترحل نحو صفد، وطمع كثير من المفسدين والخمارين وغيرهم وفرحوا بزواله عنهم‏.‏

وفي يوم العيد قرئ كتاب السلطان بدار السعادة على الأمراء وفيه التصريح باستنابة أميره علي المارداني عليهم، وعوده إليه والأمر بطاعته وتعظيمه واحترامه والشكر له والثناء عليه، وقدم الأمير شهاب الدين بن صبح من نيابة صفد ونزل بداره بظاهر البلد بالقرب من الشامية البرانية‏.‏

ووصل البريد يوم السبت الحادي والعشرين من ذي الحجة بنفي صاحب الحجاب طيدمر الإسماعيلي إلى مدينة حماة بطالاً من سرجين لا غير والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وملك الديار المصرية والشامية وما يتبع ذلك من الممالك الإسلامية الملك الناصر حسن بن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، وقضاته بمصرهم المذكورون في السنة التي قبلها، ونائبه بدمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها غير المالكي‏.‏

فإنه عزل جمال الدين المسلاتي بشرف الدين العراقي، وحاجب الحجاب الأمير شهاب الدين بن صبح، وخطباء البلد كانت أكثرها المذكورون‏.‏

وفي صبيحة يوم الأربعاء ثالث المحرم دخل الأمير علاء الدين أمير علي نائب السلطنة إلى دمشق من نيابة حلب، ففرح الناس به وتلقوه إلى أثناء الطريق، وحملت له العمامة الشجوع في طرقات البلد، وليس الأمير شهاب الدين بن صبح خلعة الحجابة الكبيرة بدمشق عوضاً عن نيابة صفد‏.‏

ووردت كتب الحجاج يوم السبت الثالث عشر منه مؤرخة سابع عشرين ذي الحجة من العلا وذكروا أن صاحب المدينة النبوية عدا عليه فداويان عند لبسه خلعة السلطان، وقت دخول المحمل إلى المدينة الشريفة فقتلاه، فعدت عبيده على الحجيج الذين هم داخل المدينة فنهبوا من أموالهم وقتلوا بعضهم وخرجوا، وكانوا قد أغلقوا أبواب المدينة دون الجيش فأحرق بعضها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/303‏)‏

ودخل الجيش السلطاني فاستنقذوا الناس من أيدي الظالمين‏.‏

ودخل المحمل السلطاني إلى دمشق يوم السبت العشرين من هذا الشهر على عادته، وبين يدي المحمل الفداويان اللذان قتلا صاحب المدينة، وقد ذكرت عنه أمور شنيعة بشعة من غلوه في الرفض المفرط، ومن قوله إنه لو تمكن لأخرج الشيخين من الحجرة، وغير ذلك من عبارات مؤدية لعدم إيمانه إن صح عنه والله أعلم‏.‏

وفي صبيحة يوم الثلاثاء سادس صفر مسك الأمير شهاب الدين بن صبح حاجب الحجاب وولداه الأميران وحبسوا في القلعة المنصورة، ثم سافر به الأمير ناصر الدين بن خاربك بعد أيام إلى الديار المصرية، وفي رجل ابن صبح قيد، وذكر أنه فك من رجله في أثناء الطريق‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث عشر صفر قدم نائب طرابلس الأمير سيف الدين عبد الغني فأدخل القلعة ثم سافر به الأمير علاء الدين بن أبي بكر إلى الديار المصرية محتفظاً به مضيقاً عليه، وجاء الخبر بأن منجك سافر من صفد على البريد مطلوباً إلى السلطان، فلما كان بينه وبين غزة بريد واحد دخل بمن معه من خدمه التيه فاراً من السلطان، وحين وصل الخبر إلى نائب غزة اجتهد في طلبه فأعجزه وتفارط الأمر، انتهى والله أعلم‏.‏

 مسك الأمير علي المارداني نائب الشام

وأصل ذلك أنه في صبيحة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رجب، ركب الجيش إلى تحت القلعة ملبسين وضربت البشائر في القلعة في ناحية الطارمة، وجاء الأمراء بالطبلخانات من كل جانب والقائم بأعباء الأمر الأمير سيف الدين بيدمر الحاجب، ونائب السلطنة داخل دار السعادة والرسل مرددة بينه وبين الجيش‏.‏

ثم خرج فحمل على سروج يسيرة محتاطاً عليه إلى ناحية الديار المصرية، واستوحش من أهل الشام عند باب النصر، فتباكى الناس رحمة له وأسفة عليه، لديانته وقلة أذيته وأذية الرعية وإحسانه إلى العلماء والفقراء والقضاة‏.‏

ثم في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين منه احتيط على الأمراء الثلاثة، وهم‏:‏ الأمير سيف الدين طيبفاحجي أحد مقدمي الألوف، والأمير سيف الدين فطليخا الدوادار أحد المقدمين أيضاً، والأمير علاء الدين أيدغمش المارداني أحد أمراء الطبلخانات‏.‏

وكان هؤلاء مممن حضر نائب السلطنة المذكور وهم جلساؤه وسماره، والذين بسفارته أعطوا الأجناد والطبلخانات والتقادم، فرفعوا إلى القلعة المنصورة معتقلين بها مع من بها من الأمراء، ثم ورد الخبر بأن الأمير علي رد من الطريق بعد مجاوزته غزة وأرسل إليه بتقليد نيابة صفد المحروسة، فتماثل الحال وفرح بذلك أصحابه وأحبابه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/304‏)‏

وقدم متسلم دمشق الذي خلع عليه بنيابتها بالديار المصرية في يوم الخميس سادس عشر شهر رجب بعد أن استعفى من ذلك مراراً، وباس الأرض مراراً فلم يعفه السلطان، وهو الأمير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، الذي كان نائب الشام، وبنته اليوم زوجة السلطان‏.‏

قدم متسلمه إلى دمشق يوم الخميس سلخ الشهر فنزل في دار السعادة، وراح القضاة والأعيان للسلام عليه والتودد إليه، وحملت إليه الضيافات والتقادم، انتهى والله أعلم‏.‏

كائنة وقعت بقرية حوران فأوقع الله بهم بأساً شديداً في هذا الشهر الشريف

وذلك أنهم أشهر أهل قرية بحوران وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن ويقال لهم بنو لبسه وبني ناشى وهي حصينة منيعة يضوي إليها كل مفسد وقاطع ومارق ولجأ إليهم أحد شياطين رويمن العشير وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عدداً كثيرة ونهبوا ليغنموا العشير، وفي هذا الحين بدرهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليردهم ويهديهم، وطلب منهم عمر الدنيط فأبوا عليه وراموا مقاتلته‏.‏

وهم جمع كثير وجم غفير، فتأخر عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمده بجيش عوناً له عليهم وعلى أمثالهم، فجهز له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلما بغتهم في بلدهم تجمعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحجزوا بينهم وبين البلد‏.‏

فعند ذلك رمتهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، ففروا على أعقابهم، وأسر منهم والي الولاة نحواً من ستين رجلاً، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأسرى، ونهبت بيوت الفلاحين كلهم، وسلمت إلى مماليك نائب السلطنة لم يفقد منها ما يساوي ثلاثمائة درهم‏.‏

وكر راجعاً إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملة أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصه وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحه وتعليق رأسه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غير مرة حتى أنه قطع رأس شاب منهم وعلق رأسه على أبيه، شيخ كبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

حتى قدم بهم بصرى فشنكل طائفة من أولئك المأسورين وشنكل آخرين ووسط الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلق الرؤوس على أخشاب نصبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيل شديد لم يقع مثله في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كله سلط عليهم بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏انتهى‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/305‏)‏

 دخول نائب السلطة الأمير سيف الدين استدمر اليحياوي

في صبيحة يوم الاثنين حادي عشر شعبان من هذه السنة كان دخول الأمير سيف الدين استدمر اليحياوي نائباً على دمشق من جهة الديار المصرية، وتلقاه الناس واحتفلوا له احتفالاً زائداً وشاهدته حين ترجل لتقبيل العتبة، وبعضده الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان حاجب الحجاب وعين لنيابة حلب المحروسة‏.‏

فاستقبل القبلة وسجد عند القبلة، وقد بسط له عندها مفارش وصمدة هائلة، ثم إنه ركب فتعضده بيدمر أيضاً وسار نحو الموكب فأركب ثم عاد إلى دار السعادة على عادة من تقدمه من النواب‏.‏

وجاء تقليد الأمير سيف الدين بيدمر من آخر النهار لنيابة حلب المحروسة‏.‏

وفي آخر نهار الثلاثاء بعد العصر ورد البريد البشيري وعلى يديه مرسوم شريف بنفي القاضي بهاء الدين أبو البقاء وأولاده وأهله إلى طرابلس بلا وظيفة، فشق ذلك عليه وعلى أهليه ومن يليه، وتغمم له كثير من الناس، وسافر ليلة الجمعة وقد أذن له في الاستنابة في جهاته، فاستناب ولده الكبير عز الدين، واشتهر في شوال أن الأمير سيف الدين منجك الذي كان نائب السلطنة بالشام وهرب ولم يطلع له خبر‏.‏

فلما كان في هذا الوقت ذكر أنه مسك ببلد بحران من مقاطعة ماردين في زي فقير، وأنه احتفظ عليه وأرسل السلطان قراره، وعجب كثير من الناس من ذلك، ثم لم يظهر لذلك حقيقة وكان الذين رأوه ظنوا أنه هو، فإذا هو فقير من جملة الفقراء يشبهه من بعض الوجوه‏.‏

واشتهر في ذي القعدة أن الأمير عز الدين فياض بن مهنا ملك العرب، خرج عن طاعة السلطان وتوجه نحو العراق فوردت المراسيم السلطانية لمن بأرض الرحبة من العساكر الدمشقية وهم أربعة مقدمين في أربعة آلاف، وكذلك جيش حلب وغيره بتطلبه وإحضاره إلى بين يدي السلطان، فسعوا في ذلك بكل ما يقدرون عليه فعجزوا عن لحاقه والدخول وراءه إلى البراري، وتفارط الحال وخلص إلى أرض العراق فضاق النطاق وتعذر اللحاق‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستين وسبعمائة

استهلت وسلطان المسلمين الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الأمير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي‏.‏

وفي مستهل المحرم جاء الخبر بموت الشيخ صلاح الدين العلائي بالقدس الشريف ليلة الاثنين ثالث المحرم، وصلّي عليه من الغد بالمسجد الأقصى بعد صلاة الظهر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/306‏)‏

ودفن بمقبرة نائب الرحبة، وله من العمر ست وستون سنة، وكان مدة مقامه بالقدس مدرساً المدرسة الصلاحية، وشيخاً بدار الحديث السكرية ثلاثين سنة، وقد صنّف وألف وجمع وخرج، وكانت له يد طولى بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الأجزاء والفوائد، وله مشاركة قوية في الفقه واللغة والعربية والأدب، وفي كتابته ضعف لكن مع صحة وضبط لما يشكل، وله عدة مصنفات، وبلغني أنه وقفها على الخانقاه السمساطية بدمشق، وقد ولى بعده التدريس بالصرخصية الخطيب برهان الدين بن جماعة والنظر بها، وكان معه تفويض منه متقدم التاريخ‏.‏

وفي يوم الخميس السادس من محرم احتيط على متولي البر ابن بهادر الشيرجي ورسم عليه بالعذراوية بسبب أنه اتهم بأخذ مطلب من نعمان البلقاء هو وكحلن الحاجب، وقاضي حسان، والظاهر أن هذه مرافعة من خصم عدو لهم، وأنه لم يكن من هذا شيء والله أعلم‏.‏

ثم ظهر على رجل يزور المراسيم الشريفة وأخذ بسببه مدرس الصارمية لأنه كان عنده في المدرسة المذكورة، وضرب بين يدي ملك الأمراء، وكذلك على الشيخ زين الدين زيد المغربي الشافعي، وذكر عنه أن يطلب مرسوماً لمدرسة الأكرية، وضرب أيضاً ورسم عليه في حبس السد، وكذلك حبس الأمير شهاب الدين الذي كان متولي البلد، لأنه كان قد كتب له مرسوماً شريفاً بالولاية، فلما فهم ذلك كاتب السر أطلع عليه نائب السلطنة فانفتح عليه الباب وحبسوا كلهم بالسد، وجاءت كتب الحجاج ليلة السبت الخامس عشر من المحرم وأخبرت بالخصب والرخص والأمن ولله الحمد والمنة‏.‏

ودخل المحمل بعد المغرب ليلة السبت الحادي والعشرين منه، ثم دخل الحجيج بعده في الطين والرمض وقد لقوا من ذلك من بلاد حوران عناء وشدة، ووقعت جمالات كثيرة وسبيت نساء كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحصل للناس تعب شديد‏.‏

ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين قطعت يد الذي زور المراسيم واسمه السراج عمر القفطي المصري، وهو شاب كاتب مطيق على ما ذكر، وحمل في قفص على جمل وهو مقطوع اليد، ولم يحسم بعد و الدم ينصب منها، وأركب معه الشيخ زين الدين زيد على جمل وهو منكوس وجهه، إلى ناحية دبر الجمل، وهو عريان مكشوف الرأس، وكذلك البدر الحمصي على جمل آخر، وأركب الوالي شهاب الدين على جمل آخر وعليه تخفيفه صغيرة، وخف وقباء، وطيف بهم في محال البلد، ونودي عليهم‏:‏ هذا جزاء من يزور على السلطان، ثم أودعوا حبس الباب الصغير وكانوا قبل هذا التعزير في حبس السد، ومنه أخذوا وأشهروا، فإنا لله وإنا إليه راجعون انتهى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/307‏)‏

 مسك منجك وصفة الظهور و عليه وكان مختفياً بدمشق حوالي سنة

لما كان يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم جاء ناصح إلى نائب السلطنة الأمير سيف الدين استدمر فأخبره بأن منجك في دار الشرف الأعلى، فأرسل من فوره إلى ذلك المنزل الذي هو فيه بعض الحجبة ومن عنده من خواصه، فأحضر إلى بين يديه محتفظاً عليه جداً، بحيث إن بعضهم رزفه من ورائه واحتضنه، فلما واجهه نائب السلطنة أكرمه وتلقاه وأجلسه معه على مقعدته، وتلطف به وسقاه وأضافه، وقد قيل إنه كان صائماً فأفطر عنده، وأعطاه من ملابسه وقيده وأرسله إلى السلطان في ليلته - ليلة الجمعة - مع جماعة من الجند وبعض الأمراء، منهم‏:‏ حسام الدين أمير حاجب‏.‏

وقد كان أرسل نائب السلطنة ولده بسيف منجك من أوائل النهار، وتعجب الناس من هذه القضية جداً، وما كان يظن كثير من الناس إلا أنه قد عدم باعتبار أنه في بعض البلاد النائية، ولم يشعر الناس أنه في وسط دمشق وأنه يمشي بينهم متنكراً، وقد ذكر أنه كان يحضر الجمعات بجامع دمشق ويمشي بين الناس متنكراً في لبسه وهيئته‏.‏

ومع هذا لن يغني حذر من قدر، ولكل أجل كتاب، وأرسل ملك الأمراء بالسيف وبملابسه التي كان يتنكر بها، وبعث هو مع جماعة من الأمراء الحجبة وغيرهم وجيش كثيف إلى الديار المصرية مقيداً محتفظاً عليه، ورجع ابن ملك الأمراء بالتحف والهدايا والخلع والأنعام لوالده، ولحاجب الحجاب، ولبس ذلك الأمراء يوم الجمعة واحتفل الناس بالشموع وغيرها، ثم تواترت الأخبار بدخول منجك إلى السلطان وعفوه عفه وخلعته الكاملة عليه وإطلاقه له الحسام والخيول المسومة والألبسة المفتخرة، والأموال والأمان‏.‏

وتقديم الأمراء والأكابر له من سائر صنوف التحف وقدوم الأمير علي من صفد، قاصداً إلى حماة لنيابتها، فنزل القصر الأبلق ليلة الخميس رابع صفر وتوجه ليلة الأحد سابعه‏.‏

وفي يوم الخميس الثامن عشر من صفر قدم القاضي بهاء الدين أبو البقاء من طرابلس بمرسوم شريف أن يعود إلى دمشق على وظائفه المبقاة عليه، وقد كان ولده ولي الدين ينوب عنه فيها، فتلقاه كثير من الناس إلى أثناء الطريق، وبرز إليه قاضي القضاة تاج الدين إلى حرستا، وراح الناس إلى تهنئته إلى داره، وفرحوا برجوعه إلى وطنه‏.‏

ووقع مطر عظيم في أول هذا الشهر، وهو أثناء شهر شباط، وثلج عظيم، فرويت البساتين التي كانت لها عن الماء عدة شهور، ولا يحصل لأحد من الناس سقي إلا بكلفة عظيمة ومشقة، ومبلغ كثير، حتى كاد الناس يقتتلون عليه بالأيدي والدبابيس وغير ذلك من البذل الكثير، وذلك في شهور كانون الأول والثاني، وأول شباط، وذلك لقلة مياه الأنهار وضعفها‏.‏

وكذلك بلاد حوران أكثرهم يروون من أماكن بعيدة في هذه الشهور، ثم منّ الله تعالى فجرت الأودية وكثرت الأمطار والثلوج، وغزرت الأنهار ولله الحمد والمنة‏.‏

وتوالت الأمطار، فكأنه حصل السيل في هذه السنة من كانون إلى شباط فكان شباط هو كانون وكانون لم يسل فيه ميزاب واحد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/308‏)‏

ووصل في هذا الشهر الأمير سيف الدين منجك إلى القدس الشريف ليبتني للسلطان مدرسة وخانقاه غربي المسجد الشريف، وأحضر الفرمان الذي كتب له بماء الذهب إلى دمشق وشاهده الناس ووقعت على نسخته وفيها تعظيم رائد ومدح وثناء له وشكر على متقدم، خدمة لهذه الدولة والعفو عما مضى من زلاته، وذكر سيرته بعبارة حسنة‏.‏

وفي أوائل شهر ربيع الآخر رسم على المعلم سنجر مملوك ابن هلال صاحب الأموال الجزيلة بمرسوم شريف قدم مع البريد وطلب منه ستمائة ألف درهم واحتيط على العمارة التي أنشاها عند باب النطافيين ليجعلها مدرسة، ورسم بأن يعمر مكانها مكتب للأيتام، وأن يوقف عليهم كتابتهم جارية عليهم، وكذلك رسم بأن يجعل في كل مدرسة من مدارس المملكة الكبار، وهذا مقصد جيد‏.‏

وسلم المعلم سنجر إلى شاد الدواوين يستخلص منه المبلغ المذكور سريعاً، فعاجل بحمل مائتي ألف، وسيرت مع أمير عشرة إلى الديار المصرية‏.‏

 الاحتياط على الكتبة والدواوين

وفي يوم الأربعاء خامس عشر ربيع الآخر ورد من الديار المصرية أمير معه مرسوم بالاحتياط على دواوين السلطان، بسبب ما أكلوا من الأموال المرتبة للناس من الصدقات السلطانية وغير ذلك فرسم عليهم بدار العدل البرانية وألزموا بأموال جزيلة كثيرة، بحيث احتاجوا إلى بيع أثاثهم وأقمشتهم وفرشهم وأمتعتهم وغيرها، حتى ذكر أن منهم من لم يكن له شيء يعطيه فأحضر بناته إلى الدكة ليبيعهن فتباكى الناس وانتحبوا رحمة ورقة لأبيهن، ثم أطلق بعضهم وهم الضعفاء منهم والفقراء الذين لا شيء معهم، وبقيت الغرامة على الكبراء منهم، كالصاحب والمستوفيين، ثم شددت عليهم المطالبة وضربوا ضرباً مبرحاً، وألزموا الصاحب بمال كثير بحيث إنه احتاج إلى أن سأل من الأمراء والأكابر والتجار بنفسه وبأوراقه، فأسعفوه بمبلغ كثير يقارب ما ألزم به، بعد أن عري ليضرب، ولكن ترك واشتهر أنه قد عين عوضه من الديار المصرية، انتهى‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/309‏)‏

 موت فياض بن مهنا

ورد الخبر بذلك يوم السبت الثامن عشر منه، فاستبشر بذلك كثير من الناس، وأرسل إلى السلطان مبشرين بذلك، لأنه كان قد خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات موتة جاهلية بأرض الشقاق والنفاق، وقد ذكرت عن هذا أشياء صدرت عنه من ظلم الناس، والإفطار في شهر رمضان بلا عذر، وأمره أصحابه وذويه بذلك في هذا الشهر الماضي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، جاوز السبعين انتهى‏.‏والله أعلم‏.‏

 كائنة عجيبة جداً هي المعلم سنجر مملوك بن هلال

في اليوم الرابع والعشرين من ربيع الآخر أطلق المعلم الهلالي بعد أن استوفوا منه تكميل ستمائة ألف درهم، فبات في منزله عند باب النطافيين سروراً بالخلاص، ولما أصبح ذهب إلى الحمام وقد ورد البريد من جهة السلطان من الديار المصرية بالاحتياط على أمواله وحواصله‏.‏

فأقبلت الحجبة ونقباء النقبة والأعوان من كل مكان، فقصدوا داره فاحتاطوا بها وعليها بما فيها ورسم عليه وعلى ولديه، وأخرجت نساؤه من المنزل في حالة صعبة، وفتشوا النساء وانتزعوا عنهن الحلي والجواهر والنفائس، واجتمعت العامة والغوغاء، وحضر بعض القضاة ومعه الشهود بضبط الأموال والحجج والرهون، وأحضروا المعلم ليستعلموا منه جلية ذلك، فوجدوا من حاصل الفضة أول يوم بإسطبل ألف وسبعين ألفاً، ثم صناديق أخرى لم تفتح، وحواصل لم يصلوا إليها لضيق الوقت‏.‏

ثم أصبحوا يوم الأحد في مثل ذلك، وقد بات الحرس على الأبواب والأسطحة لئلا يعدى عليها في الليل وبات هو وأولاده بالقلعة المنصورة محتفظاً عليهم، وقد رق له كثير من الناس لما أصابه من المصيبة العظيمة بعد التي قبلها سريعاً‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر توفي الأمير ناصر الدين محمد بن الدوادار السكري، كان ذا مكانة عند أستاذه، ومنزلة عالية، ونال من السعادة في وظيفته أقصاها، ثم قلب الله قلب أستاذه عليه فضربه وصادره وعزله وسجنه، ونزل قدره عند الناس، وآل به الحال إلى أنه كان يقف على أتباعه بفرسه ويشتري منهم ويحاككهم، ويحمل حاجته معه في سرجه، وصار مثلة بين الناس، بعد أن كان في غاية ما يكون فيه الدويدارية من العز والجاه والمال والرفعة في الدنيا، وحق على الله تعالى أن لا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد سابع عشره أفرج عن المعلم الهلالي وعن ولديه، وكانوا معتقلين بالقلعة المنصورة، وسلمت إليهم دورهم وحواصلهم، ولكن أخذ ما كان حاصلاً في داره، وهو ثلاثمائة ألف وعشرون ألفاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/310‏)‏

وختم على حججه ليعقد لذلك مجلس ليرجع رأس ماله منها عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 279‏]‏ ونودي عليه في البلد إنما فعل به ذلك لأنه لا يؤدي الزكاة ويعامل بالربا، وحاجب السلطان ومتولي البلد، وبقية المتعممين والمشاعلية تنادي عيه في أسواق البلد وأرجائها‏.‏

وفي اليوم الثامن والعشرين منه ورد المرسوم السلطاني الشريف بإطلاق الدواوين إلى ديارهم وأهاليهم، ففرح الناس بسبب ذلك لخلاصهم مما كانوا فيه من العقوبة والمصادرة البليغة، ولكن لم يستمر بهم في مباشراتهم‏.‏

وفي أواخر الشهر تكلم الشيخ شهاب الدين المقدسي الواعظ قدم من الديار المصرية تجاه محراب الصحابة، واجتمع الناس إليه وحضر من قضاة القضاة الشافعي والمالكي، فتكلم على تفسير آيات من القرآن‏.‏

وأشار إلى أشياء من إشارات الصوفية بعبارات طلقة معربة حلوة صادعة للقلوب فأفاد وأجاد، وودع الناس بعوده إلى بلده، ولما دعا استنهض الناس للقيام، فقاموا في حال الدعاء، وقد اجتمعت به بالمجلس فرايته حسن الهيئة والكلام والتأدب، فالله يصلحه وإيانا آمين‏.‏

وفي مستهل جمادى الآخرة ركب الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب القصد غزو بلاد سيس في جيش، لقاه الله النصر والتأييد‏.‏

وفي مستهل هذا الشهر أصبح أهل القلعة وقد نزل جماعة من أمراء الأعراب من أعالي مجلسهم في عمائم وحبال إلى الخندق وخاضوه وخرجوا من عند جسر الزلابية فانطلق اثنان وأمسك الثالث الذي تبقى في السجن، وكأنه كان يمسك لهم الحبال حتى تدلوا فيها‏.‏

فاشتد نكير نائب السلطنة على نائب القلعة، وضرب ابنيه النقيب وأخاه وسجنهما، وكاتب في هذه الكائنة إلى السلطان، فرود المرسوم بعزل نائب القلعة وإخراجه منها، وطلبه لمحاسبة ما قبض من الأموال السلطانية في مدة ست سني مباشرته، وعزل ابنه عن النقابة ابنه الآخر عن استدرائه السلطان، فنزلوا من عزهم إلى عزلهم‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع عشره جاء الأمير تاج الدين جبريل من عند الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب، وقد فتح بلدين من بلاد سيس، وهما طرسوس وأذنة، وأرسل مفاتيحهما صحبة جبريل المذكور إلى السلطان أيده الله، ثم افتتح حصوناً أخر كثيرة في أسرع مدة، وأيسر كلفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/311‏)‏

وخطب القاضي ناصر الدين كاتب السر خطبة بليغة حسنة، وبلغني في كتاب أن أبواب كنيسة أذنة حملت إلى الديار المصرية في المراكب‏.‏

قلت‏:‏ وهذه هي أبواب الناصرية التي بالسفح، أخذها سيس عام قازان، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة، فاستنفذت ولله الحمد في هذه السنة‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر بلغنا أن الشيخ قطب الدين هرماس الذي كان شيخ السلطان طرد عن جناب مخدومه، وضرب وصودر، وخربت داره إلى الأساس، ونفي إلى مصياف، فاجتاز بدمشق ونزل بالمدرسة الجليلة ظاهر باب الفرج، وزرته فيمن سلم عليه، فإذا هو شيخ حسن عنده ما يقال ويتلفظ معرباً جيداً، ولديه فضيلة، وعنده تواضع وتصوف، فالله يحسن عاقبته‏.‏ثم تحول إلى العذراوية‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت سابع شهر رجب توجه الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن قاضي الجبل الحنبلي إلى الديار المصرية مطلوباً على البريد إلى السلطان لتدريس الطائفة الحنبلية بالمدرسة التي أنشاها السلطان بالقاهرة المعزية، وخرج لتوديعه القضاة والأعيان إلى أثناء الطريق، كتب الله سلامته، انتهى والله تعالى أعلم‏.‏

 مسك نائب السلطنة استدمر اليحياوي

وفي صبيحة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رجب قبض على نائب السلطنة الأمير سيف الدين استدمر، أخي يلبغا اليحياوي، عن كتاب ورد من السلطان صحبة الدوادار الصغير، وكان يومئذ راكباً بناحية ميدان ابن بابك، فلما رجع إلى عند مقابر اليهود والنصارى احتاط عليه الحاجب الكبير ومن معه من الجيش وألزموه بالذهاب إلى ناحية طرابلس‏.‏

فذهب من على طريق الشيخ رسلان، ولم يمكن من المسير، إلى دار السعادة، ورسم عليه من الجند من أوصله إلى طرابلس مقيماً بها بطالاً، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، يفعل ما يشاء‏.‏

وبقي البلد بلا نائب يحكم فيه الحاجب الكبير عن مرسوم السلطان، وعين للنيابة الأمير سيف الدين بيدمر النائب بحلب‏.‏

وفي شعبان وصل تقليد الأمير سيف الدين بيدمر بنيابة دمشق، ورسم له أن يركب في طائفة من جيش حلب ويقصد الأمير خيار بن مهنا ليحضره إلى خدمة السلطان، وكذلك رسم لنائب حماة وحمص أن يكونا عوناً للأمير سيف الدين بيدمر في ذلك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/312‏)‏

فلما كان يوم الجمعة رابعه التقوا مع خيار عند سلمية، فكانت بينهم مناوشات، فأخبرني الأمير تاج الدين الدودار - وكان مشاهد الوقعة - أن الأعراب أحاطوا بهم من كل جانب، وذلك لكثرة العرب وكانوا نحو الثمانمائة‏.‏

وكانت الترك من حماة وحمص وحلب مائة وخمسين، فرموا الأعراب بالنشاب فقتلوا منهم طائفة كثيرة، ولم يقتل من الترك سوى رجل واحد، رماه بعض الترك ظاناً أنه من العرب بناشج فقتله‏.‏

ثم حجز بينهم الليل، وخرجت الترك من الدائرة، ونهبت أموال من الترك ومن العرب، وجرت فتنة وجردت أمراء عدة من دمشق لتدارك الحال، وأقام نائب السلطنة هناك ينتظر ورودهم‏.‏

وقدم الأمير عمر الملقب بمصمع بن موسى بن مهنا من الديار المصرية أميراً على الأعراب، وفي صحبته الأمير بدر الدين بن جماز أميران على الأعراب، فنزل مصمع بالقصر الأبلق، ونزل الأمير رملة بالتوزية على عادته ثم توجها إلى ناحية خيار بمن معها من عرب الطاعة ممن أضيف إليهم من تجريدة دمشق ومن يكون معهم من جيش حماة وحمص لتحصيل الأمير خيار، وإحضاره إلى الخدمة الشريفة فالله تعالى يحسن العاقبة‏.‏

دخول نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى دمشق

وذلك صبيحة يوم السبت التاسع عشر من شعبان، أقبل بجيشه من ناحية حلب وقد بات بوطأة برزة ليلة السبت، وتلقاه الناس إلى حماة ودونها، وجرت له وقعة مع العرب كما ذكرنا، فلما كان هذا اليوم دخل في أبهة عظيمة، وتجمل حافل، فقبّل العتبة على العادة، ومشى إلى دار السعادة‏.‏

ثم أقبلت جنائبه في لبوس هائلة باهرة، وعدد كثير وعدد ثمينة، وفرح المسلمون به لشهامته وصرامته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، والله تعالى يؤيده ويسدده‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان خطبت الحنابلة بجامع القبيبات وعزل عنه القاضي شهاب الدين قاضي العسكر الحنبلي، بمرسوم نائب السلطان لأنه كان يعرف أنه كان مختصراً بالحنابلة منذ عُين إلى هذا الحين‏.‏

وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان بن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول صلى الله عليه وسلم، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه‏.‏

وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه قتل محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي صلى الله عليه وسلم، ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي صلى الله عليه وسلم، فضربت عنقه أيضاً في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/313‏)‏

وفي ثالث عشر شوال خرج المحمل السلطاني وأميره الأمير ناصر الدين بن قراسنقر وقاضي الحجيج الشيخ شمس الدين محمد بن سند المحدث، أحد المفتيين‏.‏

وفي أواخر شهر شوال أخذ رجل يقال له حسن، كان خياطاً بمحلة الشاغور، ومن شأنه أن ينتصر لفرعون لعنه الله، ويزعم أنه مات على الإسلام ويحتج بأنه في سورة يونس حين أدركه الغرق قال‏:‏ ‏{‏آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ ولا يفهم معنى قوله‏:‏ ‏{‏آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ ولا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏ ولا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 16‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على أن فرعون أكفر الكافرين كما هو مجمع عليه بين اليهود والنصارى والمسلمين‏.‏

وفي صبيحة يوم الجمعة سادس القعدة قدم البريد بطلب نائب السلطنة إلى الديار المصرية في تكريم وتعظيم، على عادة تنكز، فتوجه النائب إلى الديار المصرية وقد استصحب معه تحفاً سنية وهدايا معظمة تصلح للإيوان الشريف‏.‏

في صبيحة السبت رابع عشره، خرج ومعه القضاة والأعيان من الحجبة والأمراء لتوديعه‏.‏

وفي أوائل ذي الحجة ورد كتاب من نائب السلطنة بخطه إلى قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يستدعيه إلى القدس الشريف، وزيارة قبر الخليل، ويذكر فيه ما عامله به السلطان من الإحسان والإكرام والاحترام والإطلاق والأنعام من الخيل والتحف والمال والغلات، فتوجه نحوه قاضي القضاة يوم الجمعة بعد الصلاة رابعه على ستة من خيل البريد، ومعه تحف وما يناسب من الهدايا، وعاد عشية يوم الجمعة ثامن عشره إلى بستانه‏.‏

ووقع في هذا الشهر والذي قبله سيول كثيرة جداً في أماكن متعددة، من ذلك ما شاهدنا آثاره في مدينة بعلبك، أتلف شيئاً كثيراً من الأشجار، واخترق أماكن كثيرة متعددة عندهم، وبقي آثار سيحه على أماكن كثيرة‏.‏

من ذلك سيل وقع بأرض جعلوص أتلف شيئاً كثيراً جداً، وغرق فيه قاضي تلك الناحية، ومع بعض الأخيار، كانوا وقوفاً على أكمة فدهمهم أمر عظيم، ولم يستطيعوا دفعه ولا منعه، فهلكوا‏.‏

ومن ذلك سيل وقع بناحية حسة جمال فهلك به شيء كثير من الأشجار والأغنام والأعناب وغيرها‏.‏

ومن ذلك سيل بأرض حلب هلك به خلق كثير من التركمان وغيرهم، رجالاً ونساء وأطفالاً وغنماً وإبلاً‏.‏

قرأته من كتاب من شاهد ذلك عياناً، وذكر أنه سقط عليهم برد وزنت الواحدة منه فبلغت زنتها سبعمائة درهم وفيه ما هو أكبر من ذلك وأصغر، انتهى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/314‏)‏

الأمر بإلزام القلندرية بترك حلق لحاهم وحواجبهم وشواربهم وذلك محرم بالإجماع حسب ما حكاه ابن حازم وإنما ذكره بعض الفقهاء بالكراهية‏.‏

ورد كتاب من السلطان أيده الله إلى دمشق في يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، بإلزامهم بزي المسلمين وترك زي الأعاجم والمجوس، فلا يمكن أحد منهم من الدخول إلى بلاد السلطان حتى يترك هذا الزي المبتدع، واللباس المستشنع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعاً، ويقلع قراره قلعاً، وكان اللائق أن يؤمروا بترك أكل الحشيشة الخسيسة، وإقامة الحد عليهم بأكلها وسكرها، كما أفتى بذلك بعض الفقهاء‏.‏

والمقصود أنهم نودي عليهم بذلك في جميع أرجاء البلد ونواحيه في صبيحة يوم الأربعاء ولله الحمد والمنة‏.‏

وبلغنا في هذا الشهر وفاة الشيخ الصالح الشيخ أحمد بن موسى الزرعي بمدينة جبراص يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة، وكان من المبتلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في مصالح الناس عند السلطان والدولة، وله وجاهة عند الخاص والعام، رحمه الله‏.‏

والأمير سيف الدين كحلن بن الأقوس، الذي كان حاجباً بدمشق وأميراً، ثم عزل عن ذلك كله، ونفاه السلطان إلى طرابلس فمات هناك‏.‏

وقدم نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر عائداً من الديار المصرية، وقد لقي من السلطان إكراماً وإحساناً زائداً، فاجتاز في طريقه بالقدس الشريف فأقام به يوم عرفة والنحر، ثم سلك على طريق غابة أرصوف يصطاد بها فأصابه وعك منعه عن ذلك، فأسرع السير فدخل دمشق من صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه في أبهة هائلة، ورياسة طائلة، وتزايد وخرج العامة للتفرج عليه والنظر إليه في مجيئه هذا، فدخل وعليه قباء معظم ومطرز، وبين يديه ما جرت به العادة من الحوفية والشاليشية وغيرهم، ومن نيته الإحسان إلى الرعية والنظر في أحوال الأوقاف وإصلاحها على طريقة تنكز رحمه الله، انتهى والله أعلم‏.‏