فصل: ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 بيان طلب ذي القرنين عين الحياة

وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع، عن أبيه، عن معتمر بن سليمان، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين خبراً مطولاً جداً فيه‏:‏ أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل، فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عيناً يقال لها عين الحياة‏؟‏

فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها‏.‏

وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك، وأنه أعطاه حجراً، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه، فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها، حتى سأل الخضر فوضع قباله حجراً وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به‏.‏

وقال‏:‏ هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب، فسجد له العلماء تكريماً له وإعظاماً، والله أعلم‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية‏:‏ ‏{‏قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 86- 87‏]‏ أي‏:‏ فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة، وبدأ بعذاب الدنيا لأنه أزجر عند الكافر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 128‏)‏

{‏وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 89‏]‏ فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة، وعطف عليه الإحسان منه إليه، وهذا هو العدل والعلم والإيمان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ أي‏:‏ سلك طريقاً راجعاً من المغرب إلى المشرق، فيقال‏:‏ إنه رجع في ثنتي عشر سنة

{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس، قال كثير من العلماء‏:‏ ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى أسراب قد اتخذوها في الأرض شبه القبور‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً‏}‏ أي‏:‏ ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها‏.‏

وقد روي عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وغيرهما من السلف‏:‏ أن ذا القرنين حج ماشياً، فلما سمع إبراهيم الخليل بقدومه تلقاه، فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا، ويقال‏:‏ إنه جيء بفرس ليركبها فقال‏:‏ لا أركب في بلد فيه الخليل، فسخر الله له السحاب وبشره إبراهيم بذلك، فكانت تحمله إذا أراد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 92-93‏]‏ يعني غشماً‏.‏ يقال‏:‏ إنهم هم الترك أبناء عم يأجوج ومأجوج‏.‏ فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم، وقطعوا السبل عليهم، وبذلوا له حملاً وهو الخراج، على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزاً يمنعهم من الوصول إليهم، فامتنع من أخذ الخراج اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة‏.‏

{‏قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ‏}‏ ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالاً وآلات ليبني بينهم وبينهم سداً، وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما، وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة، فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب، وقيل‏:‏ الرصاص‏.‏ والصحيح‏:‏ الأول‏.‏

فجعل بدل اللبن حديداً، وبدل الطين نحاساً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ‏}‏ أي‏:‏ يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها ‏{‏وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ أي‏:‏ بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها‏.‏ فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد‏.‏

{‏قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 129‏)‏

{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان ‏{‏جَعَلَهُ دَكَّاءَ‏}‏ أي‏:‏ مساوياً للأرض ولا بد من كون هذا‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً‏}‏‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ يعني‏:‏ يوم فتح السد على الصحيح‏.‏

{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً‏}‏ وقد أوردنا الأحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير، وسنوردها إن شاء الله في كتاب الفتن والملاحم من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه، بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته‏.‏

قال أبو داود الطيالسي، عن الثوري‏:‏ بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين، وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية‏:‏ إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاماً وتجمع نساء أهل المدينة، وتضعه بين أيديهن، وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئاً، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه، فقالت لهن‏:‏ سبحان الله كلكن ثكلى‏؟‏ فقلن‏:‏ إي والله، ما منا إلا من أثكلت، فكان ذلك تسلية لأمه‏.‏

وذكر إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد، عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة، وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة، وهذا غريب‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستاً وثلاثين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ كان عمره ثنتين وثلاثين سنة، وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة، وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة وإحدى وثمانين سنة، وكان ملكه ست عشرة سنة‏.‏

وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الأول، وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما، والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ، والله أعلم‏.‏

وممن جعلهما واحداً الإمام عبد الملك بن هشام راوي السيرة، وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله إنكاراً بليغاً، ورد قوله رداً شنيعاً، وفرق بينهما تفريقاً جيداً كما قدمنا قال‏:‏ ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبهاً بالأول، والله أعلم‏.‏

 ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد

هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه، ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخبر في يديك، قم فابعث بعث النار من ذريتك‏.‏

فيقول‏:‏ يا رب وما بعث النار‏؟‏

فيقول‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏.‏

قال فاشتد ذلك عليهم‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أينا ذلك الواحد‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبشروا فإن منكم واحداً، ومن يأجوج ومأجوج ألفاً‏}‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 130‏)‏

‏(‏‏(‏فقال ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه‏)‏‏)‏‏.‏ أي‏:‏ غلبتاه كثرة، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم أضعاف الناس مراراً عديدة، ثم هم من ذرية نوح، لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً‏}‏‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن‏:‏ أن نوحاً ولد له ثلاثة، وهم‏:‏ سام، وحام، ويافث، فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك؛ فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك، وهم مغل المغول، وهم أشد بأساً وأكثر فساداً من هؤلاء، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم، فتركوا من ورائه، فلهذا قيل لهم‏:‏ الترك‏.‏

ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بتراب، فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن‏.‏

وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جداً؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو غاية في القصر، ومنهم من يفترش أذناً من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل، ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً‏)‏‏)‏ ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن‏.‏

وهذا فيصل في هذا الباب وغيره‏.‏ وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفاً‏.‏

فإن صح في خبر قلنا به، وإلا فلا نرده، إذ يحتمله العقل والنقل أيضاً قد يرشد إليه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 131‏)‏

بل قد ورد حديث مصرح بذلك أن صح، قال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من وارئهم ثلاث أمم‏:‏ تاويل، وتاريس، ومنسك‏)‏‏)‏‏.‏

وهو حديث غريب جداً، وإسناده ضعيف، وفيه نكارة شديدة‏.‏

وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ليلة الإسراء، فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك ‏(‏تاريس، وتاويل، ومنسك‏)‏ فأجابوه، فهو حديث موضوع، اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح، أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث، والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار ولم يبعث إليهم رسل، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والأعذار إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم قد أتتهم رسل منهم، فقد قامت على أولئك الحجة، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلاً فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة‏.‏

وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن من كان كذلك، يمتحن في عرصات القيامة، فمن أجاب الداعي دخل الجنة، ومن أبى دخل النار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أوردنا الحديث بطرق وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏.‏

وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعاً عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الأخبار عنهم بأنهم من أهل النار، لأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يشاء من أمر الغيب‏.‏

وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له، فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيباً للحق في الدنيا لو بلغهم فيها، لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذباً في الدنيا، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا، والله أعلم‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا‏)‏‏)‏‏.‏

فإنه حديث منكر بل موضوع، وضعه عمرو بن الصبح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 132‏)‏

وأما السد‏:‏ فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس، وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكيف رأيته‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ مثل البرد المحبر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيته هكذا‏)‏‏)‏‏.‏

ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وأره مسنداً من وجه متصل أرتضيه، غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلاً فقال‏:‏ حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انعته لي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيته‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلاً من جهته، وكتب لهم كتباً إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد، فيكشفوا عن خبره، وينظروا كيف بناه ذو القرنين، على أي صفة‏؟‏ فلما رجعوا أخبروا عن صفته، وأن فيه باباً عظيماً، وعليه أقفال، وأنه بناء محكم شاهق منيف جداً، وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك‏.‏

وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد، ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في زاوية الأرض الشرقية الشمالية، ويقال‏:‏ إن بلادهم متسعة جداً، وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الجمع بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت‏:‏ استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم محمراً وجهه وهو يقول‏:‏

‏(‏‏(‏لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه‏)‏‏)‏‏.‏

وحلق، تسعين‏.‏

قلت يا رسول الله‏:‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم إذا كثر الخبث‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وعقد تسعين‏)‏‏)‏‏.‏

فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة، وضرب مثل فلا إشكال‏.‏

وأما على قول من جعل ذلك إخباراً عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا إشكال أيضاً، لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 133‏)‏‏.‏

أي‏:‏ في ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدراً، وتسليطهم عليه بالتدريج قليلاً قليلاً، حتى يتم الأجل وينقضي الأمر المقدور، فيخرجون كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96‏]‏‏.‏

ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده قائلاً‏:‏ حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غداً إن شاء الله ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، وتتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم‏.‏

فيقولون‏:‏ قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في أقفائهم فيقتلهم بها‏)‏‏)‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أحمد أيضاً عن حسن بن موسى، عن سفيان، عن قتادة به‏.‏ وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد، عن قتادة، إلا أنه قال حديث أبو رافع‏.‏

ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة، عن قتادة به، ثم قال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظاً، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار، كما قاله بعضهم، فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظاً، فيكون محمولاً على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الأحبار‏.‏

أو يكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً‏}‏ أي‏:‏ نافذاً منه فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه، والله أعلم‏.‏

وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي هريرة‏:‏

‏(‏‏(‏فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين‏)‏‏)‏‏.‏

أي‏:‏ فتح فتحاً نافذاً فيه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 134‏)‏

 قصة أصحاب الكهف

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً * سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9-26‏]‏‏.‏

كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين، ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن قريشاً بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عنها ليختبروا ما يجيب به فيها، فقالوا‏:‏ سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض، وعن الروح، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ‏}‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً‏}‏ أي‏:‏ ليسوا بعجب عظيم بالنسبة إلى ما أطلعناك عليه من الأخبار العظيمة، والآيات الباهرة، والعجائب الغريبة‏.‏ والكهف‏:‏ هو الغار في الجبل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 135‏)‏

قال شعيب الجبائي‏:‏ واسم كهفهم حيزم، وأما الرقيم‏:‏ فعن ابن عباس أنه قال لا أدري ما المراد به‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكتاب المرقوم فيه أسماؤهم، وما جرى لهم كتب من بعدهم، اختاره ابن جرير وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم‏.‏ قال ابن عباس وشعيب الجبائي‏:‏ واسمه بناجلوس‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم واد عند كهفهم‏.‏ وقيل‏:‏ اسم قرية هنالك، والله أعلم‏.‏

قال شعيب الجبائي‏:‏ واسم كلبهم حمران، واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم، يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح، وأنهم كانوا نصارى‏.‏

والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام، قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم‏:‏ كانوا في زمن ملك يقال له‏:‏ دقيانوس، وكانوا من أبناء الأكابر‏.‏ وقيل‏:‏ من أبناء الملوك‏.‏

واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام، والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏

ويقال‏:‏ إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد انحاز عن الناس، واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد كما صح في ‏(‏البخاري‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف‏)‏‏)‏

فكل منهم سأل الآخر عن أمره، وعن شأنه، فأخبره ما هو عليه، واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم، والخروج من بين أظهرهم، والفرار بدينهم منهم، وهو المشروع حال الفتن، وظهور الشرور‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ‏}‏ أي‏:‏ بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه، وصاروا من الأمر عليه، ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏‏.‏

{‏وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ وإذ فارقتموهم في دينهم، وتبرأتم مما يعبدون من دون الله، وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم‏:‏ إذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بأبدانكم، لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شراً ‏{‏فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً‏}‏ أي‏:‏ يسبل عليكم ستره، وتكونوا تحت حفظه وكنفه، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، كما جاء في الحديث‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا إليه، وأن بابه موجه إلى نحو الشمال، وأعماقه إلى جهة القبلة، وذلك أنفع الأماكن أن يكون المكان قبلياً، وبابه نحو الشمال فقال‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ‏}‏ وقرىء‏:‏ تزور ‏{‏عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 136‏)‏‏.‏

فأخبر أن الشمس يعني في زمن الصيف وأشباهه تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي، ثم تشرع في الخروج منه قليلاً قليلاً، وهو ازورارها ذات اليمين، فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار، ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه، من جهته الشرقية قليلاً قليلاً إلى حين الغروب، كما هو المشاهد بمثل هذا المكان‏.‏ والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الأحيان أن لا يفسد هواؤه‏.‏

{‏وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بقاؤهم على هذه الصفة دهراً طويلاً من السنين، لا يأكلون ولا يشربون، ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله، وبرهان قدرته العظيمة‏.‏

{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً‏}‏ قال بعضهم‏:‏ لأن أعينهم مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ قيل في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب، ويحتمل أكثر من ذلك، فالله أعلم‏.‏

{‏وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ‏}‏ قال شعيب الجبائي‏:‏ اسم كلبهم حمران، وقال غيره‏:‏ الوصيد، اسكفة الباب، والمراد أن كلبهم الذي كان معهم، وصحبهم حال انفرادهم من قومهم، لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف، بل ربض على بابه، ووضع يديه على الوصيد، وهذا من جملة أدبه، ومن جملة ما أكرموا به، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب‏.‏

ولما كانت التبعية مؤثرة حتى كان في كلب هؤلاء صار باقياً معهم ببقائهم، لأن من أحب قوماً سعد بهم، فإذا كان هذا في حق كلب، فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للإكرام‏.‏

وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبراً طويلاً أكثره متلقى من الإسرائيليات، وكثير منها كذب، ومما لا فائدة فيه، كاختلافهم في اسمه ولونه‏.‏

وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف، فقال كثيرون‏:‏ هو بأرض أيلة، وقيل‏:‏ بأرض نينوى، وقيل‏:‏ بالبلقاء، وقيل‏:‏ ببلاد الروم وهو أشبه، والله أعلم‏.‏

ولما ذكر الله تعالى ما هو الأنفع من خبرهم، والأهم من أمرهم، ووصف حالهم، حتى كأن السامع راءٍ، والمخبر مشاهد لصفة كهفهم وكيفيتهم في ذلك الكهف، وتقلبهم من جنب إلى جنب، وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 137‏)‏

قال‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏ أي‏:‏ لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه، ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 7‏]‏ أي‏:‏ أيها الإنسان، وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالباً‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏ ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة، كما جاء في الحديث لأن الخبر قد حصل، ولم يحصل الفرار ولا الرعب‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين فلما استيقظوا، قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ‏}‏ أي‏:‏ بدراهمكم هذه، يعني التي معهم إلى المدينة، ويقال كان اسمها دفسوس‏.‏

{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً‏}‏ أي‏:‏ أطيب مالاً ‏{‏فليأتكم برزق منه‏}‏ أي‏:‏ بطعام تأكلونه، وهذا من زهدهم وورعهم ‏{‏وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ أي‏:‏ في دخوله إليها ‏{‏وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً‏}‏ أي‏:‏ إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها، وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوماً أو بعض يوم أو أكثر من ذلك، ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة‏.‏

وقد تبدلت الدول أطواراً عديدة وتغيرت البلاد ومن عليها، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم، وجاء غيرهم، وذهبوا وجاء غيرهم، ولهذا لما خرج أحدهم وهو تيذوسيس فيما قيل، وجاء إلى المدينة متنكراً لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه، تنكرت له البلاد، واستنكره من يراه من أهلها، واستغربوا شكله وصفته ودراهمه‏.‏

فيقال‏:‏ إنهم حملوه إلى متوليهم، وخافوا من أمره أن يكون جاسوساً، أو تكون له صولة يخشون من مضرتها، فيقال‏:‏ إنه هرب منهم، ويقال‏:‏ بل أخبرهم خبره ومن معه وما كان من أمرهم، فانطلقوا معه ليريهم مكانهم، فلما قربوا من الكهف دخل إلى إخوانه، فأخبرهم حقيقة أمرهم، ومقدار ما رقدوا، فعلموا أن هذا أمر قدره الله، فيقال‏:‏ إنهم استمروا راقدين، ويقال‏:‏ بل ماتوا بعد ذلك‏.‏

وأما أهل البلدة فيقال‏:‏ إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار، وعمي الله عليهم أمرهم، ويقال‏:‏ لم يستطيعوا دخوله حساً، ويقال‏:‏ مهابة لهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 138‏)‏

واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون‏:‏ ‏{‏ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً‏}‏ أي‏:‏ سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا‏:‏ ‏{‏لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً‏}‏ أي‏:‏ معبداً يكون مباركاً لمجاورته هؤلاء الصالحين، وهذا كان شائعاً فيمن كان قبلنا‏.‏

فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏)‏ يحذر ما فعلوا‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا‏}‏ فمعنى أعثرنا‏:‏ أطلعنا على أمرهم الناس، قال كثير من المفسرين‏:‏ ليعلم الناس أن المعاد حق، وأن الساعة لا ريب فيها، إذا علموا أن هؤلاء القوم رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة، ثم قاموا كما كانوا من غير تغير منهم، فإن من أبقاهم كما هم، قادر على إعادة الأبدان وإن أكلتها الديدان، وعلى إحياء الأموات وإن صارت أجسامهم وعظامهم رفاتا، وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

ويحتمل عود الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمُوا‏}‏ إلى أصحاب الكهف، إذ علمهم بذلك من أنفسهم أبلغ من علم غيرهم بهم، ويحتمل أن يعود على الجميع، والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ فذكر اختلاف الناس في كميتهم، فحكى ثلاثة أقوال، وضعف الأولين، وقرر الثالث، فدل على أنه الحق، إذ لو قيل غير ذلك لحكاه، ولو لم يكن هذا الثالث هو الصحيح لوهاه، فدل على ما قلناه‏.‏

ولما كان النزاع في مثل هذا لا طائل تحته ولا جدوى عنده، أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الأدب في مثل هذا الحال، إذا اختلف الناس فيه أن يقول الله أعلم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ من الناس ‏{‏فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً‏}‏ أي‏:‏ سهلاً ولا تتكلف أعمال الجدال في مثل هذا الحال ولا تستفت في أمرهم أحداً من الرجال‏.‏

ولهذا أبهم تعالى عدتهم في أول القصة فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ‏}‏ ولو كان في تعين عدتهم كبير فائدة لذكرها عالم الغيب والشهادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً‏}‏‏.‏

أدب عظيم أرشده الله تعالى إليه وحث خلقه عليه، وهو ما إذا قال أحدهم إني سأفعل في المستقبل كذا، فيشرع له أن يقول إن شاء الله، ليكون ذلك تحقيقاً لعزمه، لأن العبد لا يعلم ما في غد ولا يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 139‏)‏

وليس هذا الاستثناء تعليقاً وإنما هو الحقيقي، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ يصح إلى سنة، ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا، ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال‏:‏

‏(‏‏(‏لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله‏.‏

فقيل له‏:‏ قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته‏)‏‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ وذلك لأن النسيان قد يكون من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً‏}‏ أي‏:‏ إذا اشتبه أمر وأشكل حال والتبس أقوال الناس في شيء فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً‏}‏ لما كان في الأخبار بطول مدة لبثهم فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلاثمائة شمسية، فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين‏.‏

{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا‏}‏ أي‏:‏ إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل، فرد الأمر في ذلك إلى الله عز وجل ‏{‏لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا من شاء من خلقه ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ يعني أنه يضع الأشياء في محالها لعلمه التام بخلقه وبما يستحقونه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً‏}‏ أي‏:‏ ربك المنفرد بالملك والمتصرف وحده لا شريك له‏.‏

 قصة الرجلين المؤمن والكافر

قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف‏:‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً‏}‏ (1) ‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32-44‏]‏‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ هذا مثل مضروب ولا يلزم أن يكون واقعاً، والجمهور أنه أمر قد وقع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلا‏}‏ يعني‏:‏ لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم، وافتخارهم عليهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏‏.‏

كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام، والمشهور أن هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمناً والآخر كافراً، ويقال إنه كان لكل منهما مال فأنفق المؤمن ماله في طاعة الله ومرضاته ابتغاء وجهه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 140‏)‏

وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما الجنتان المذكورتان في الآية على الصفة والنعت المذكور، فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب والزروع في ذلك، والأنهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه، وقد استوثقت فيهما الثمار واضطربت فيهما الأنهار، وابتهجت الزروع والثمار، وافتخر مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير قائلاً له‏:‏ ‏{‏أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏ أي‏:‏ أوسع جناناً، ومراده أنه خير منه ومعناه ماذا أغنى عنك إنفاقك ما كنت تملكه في الوجه الذي صرفته فيه، كان الأولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون مثلي، فافتخر على صاحبه‏.‏

{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏}‏ أي‏:‏ وهو على غير طريقة مرضية ‏{‏قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً‏}‏ وذلك لما رأى من اتساع أرضها، وكثرة مائها، وحسن نبات أشجارها، ولو قد بادت كل واحدة من هذه الأشجار لاستخلف مكانها أحسن منها وزروعها دارة لكثرة مياهها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً‏}‏ فوثق بزهرة الحياة الدنيا الفانية، وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً‏}‏ أي‏:‏ ولئن كان ثم آخرة ومعاد، فلأجدن هناك خيرا من هذا وذلك، لأنه اغتر بدنياه واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها إلا لحبه له وحظوته عنده‏.‏

كما قال العاص بن وائل فيما قص الله من خبره، وخبر خباب بن الأرت في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77-78‏]‏‏.‏

وقال تعالى إخباراً عن الإنسان إذا أنعم الله عليه‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏‏.‏

وقال قارون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏}‏ أي‏:‏ لعلم الله بي أني أستحقه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ وقد قدمنا الكلام على قصته في أثناء قصة موسى‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا، فجحد الآخرة وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏ أي‏:‏ يجادله ‏{‏أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً‏}‏ أي‏:‏ أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم صورك أطوارا حتى صرت رجلاً سوياً سميعاً بصيراً تعلم وتبطش وتفهم، فكيف أنكرت المعاد والله قادر على البداءة‏؟‏

‏{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ لكن أنا أقول بخلاف ما قلت وأعتقد خلاف معتقدك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 141‏)‏

{‏هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً‏}‏ أي‏:‏ لا أعبد سواه، وأعتقد أنه يبعث الأجساد بعد فنائها، ويعيد الأموات، ويجمع العظام الرفات، وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا في ملكه ولا إله غيره، ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن يسلكه عند دخول جنته فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من ماله أو أهله أو حاله أن يقول كذلك‏.‏

وقد ورد فيه حديث مرفوع في صحته نظر‏.‏

قال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا جراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن يوسف، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله‏)‏‏)‏‏.‏

فيرى فيه أنه دون الموت، وكان يتأول هذه الآية ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

قال الحافظ أبو الفتح الأزدي عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس لا يصح‏.‏

ثم قال المؤمن للكافر‏:‏ ‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة ويرسل عليها حسباناً من السماء‏.‏

قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة‏:‏ أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي يقتلع زروعها وأشجارها ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً‏}‏ وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه، ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً‏}‏ وهو ضد المعين السارح ‏{‏فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً‏}‏ يعني‏:‏ فلا تقدر على استرجاعه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ أي‏:‏ جاءه أمر أحاط بجميع حواصله، وخرب جنته ودمرها ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ أي‏:‏ خربت بالكلية فلا عودة لها، وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث قال‏:‏ ‏{‏مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً‏}‏ وندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم فهو يقول‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن أحد يتدارك ما فرط من أمره وما كان له قدرة في نفسه على شيء من ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ‏}‏ ومنهم من يبتدئ بقوله ‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ‏}‏ وهو حسن أيضاً لقوله‏:‏ ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 142‏)‏‏.‏

فالحكم الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب في تلك الحال، وفي كل حال لله الحق‏.‏ ومنهم من رفع الحق جعله صفة للولاية وهما متلازمتان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏ أي‏:‏ معاملته خير لصاحبها ثواباً وهو الجزاء، ‏{‏وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏ وهو العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏

وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد أن يركن إلى الحياة الدنيا ولا يغتر بها، ولا يثق بها، بل يجعل طاعة الله والتوكل عليه في كل حال نصب عينيه، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه، وفيها أن من قدم شيئاً على طاعة الله والإنفاق في سبيله عذب به، وربما سلب منه معاملة له بنقيض قصده‏.‏

وفيها أن الواجب قبول نصيحة الأخ المشفق، وأن مخالفته وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة‏.‏ وفيها أن الندامة لا تنفع إذا حان القدر ونفذ الأمر الحتم، بالله المستعان وعليه التكلان‏.‏

 قصة أصحاب الجنة

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17-33‏]‏‏.‏

وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28-29‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هم كفار قريش، فضرب تعالى لهم مثلا بأصحاب الجنة المشتملة على أنواع الزروع والثمار التي قد انتهت، واستحقت أن تجد وهو الصرام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِذْ أَقْسَمُوا‏}‏ فيما بينهم ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا‏}‏ أي‏:‏ ليجدنها وهو الاستغلال ‏{‏مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ وقت الصبح حيث لا يراهم فقير ولا محتاج فيعطوه شيئاً، فحلفوا على ذلك ولم يستثنوا في يمينهم فعجزهم الله وسلط عليها الآفة التي أحرقتها، وهي السفعة التي اجتاحتها ولم تبق بها شيئاً ينتفع به‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏}‏ أي‏:‏ كالليل الأسود المنصرم من الضياء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 143‏)‏

وهذه معاملة بنقيض المقصود ‏{‏فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ فاستيقظوا من نومهم فنادى بعضهم بعضا قائلين ‏{‏اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ باكروا إلى بستانكم فاصرموه قبل أن يرتفع النهار ويكثر السؤال ‏{‏فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتحدثون فيما بينهم خفية قائلين ‏{‏لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ‏}‏ أي‏:‏ اتفقوا على هذا واشتوروا عليه‏.‏

{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْن‏}‏ أي‏:‏ انطلقوا مجدين في ذلك قادرين عليه مضمرين على هذه النية الفاسدة‏.‏

وقال عكرمة، والشعبي‏:‏ ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ‏}‏ أي‏:‏ غضب على المساكين، وأبعد السدي في قوله‏:‏ أن اسم حرثهم حرد ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا‏}‏ أي‏:‏ وصلوا إليها ونظروا ما حل بها، وما قد صارت إليه من الصفة المنكرة بعد تلك النضرة، والحسن والبهجة، فانقلبت بسبب النية الفاسدة فعند ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ أي‏:‏ قد نهينا عنها، وسلكنا غير طريقها‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ أي‏:‏ بل عوقبنا بسبب سوء قصدنا، وحرمنا بركة حرثنا‏.‏

‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ هو أعدلهم وخيرهم‏.‏

{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ‏}‏ قيل‏:‏ يستثنون، قاله‏:‏ مجاهد، والسدي، وابن جرير، وقيل‏:‏ تقولون خيراً بدل ما قلتم من الشر‏.‏ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ‏}‏ فندموا حيث لا ينفع الندم، واعترفوا بالذنب بعد العقوبة، وذلك حيث لا ينجع‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن هؤلاء كانوا أخوة وقد ورثوا هذه الجنة من أبيهم، وكان يتصدق منها كثيراً، فلما صار أمرها إليهم استهجنوا أمر أبيهم، وأرادوا استغلالها من غير أن يعطوا الفقراء شيئاً، فعاقبهم الله أشد العقوبة، ولهذا أمر الله تعالى بالصدقة من الثمار، وحث على ذلك يوم الجداد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏

ثم قيل‏:‏ كانوا من أهل اليمن من قرية يقال لها ضروان، وقيل من أهل الحبشة، والله أعلم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ الْعَذَابُ‏}‏ أي‏:‏ هكذا نعذب من خالف أمرنا، ولم يعطف على المحاويج من خلقنا‏.‏

{‏وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ‏}‏ أي‏:‏ أعظم وأحكم من عذاب الدنيا ‏{‏لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112-113‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 144‏)‏

قيل‏:‏ هذا مثل مضروب لأهل مكة، وقيل‏:‏ هم أهل مكة أنفسهم، ضربهم مثلا لأنفسهم، ولا ينافي ذلك، والله أعلم‏.‏ اهـ

 قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم

قال الله تعالى في سورة الأعراف‏:‏

{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163-166‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65-66‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً‏}‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏:‏ هم أهل أيلة‏.‏ زاد ابن عباس‏:‏ بين مدين والطور‏.‏

قالوا وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم، وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه، وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب، فكانت الحيتان في مثل يوم السبت يكثر غشيانها لمحلتهم من البحر، فتأتي من ههنا وههنا ظاهرة آمنة مسترسلة، فلا يهيجونها ولا يذعرونها‏.‏

{‏وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ‏}‏ وذلك لأنهم كانوا يصطادونها فيما عدا السبت‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ أي‏:‏ بسبب فسقهم المتقدم، فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها‏.‏

ففعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها، فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة‏.‏

فلما فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين‏:‏ فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا، واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان، وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ يقولون‏:‏ ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة، فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فنقوم به خوفاً من عذابه‏.‏

‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع، فيقيهم الله عذابه ويعفو عنهم إذا هم رجعوا واستمعوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 145‏)‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ لم يلتفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ‏}‏ وهم‏:‏ الفرقة الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر ‏{‏وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ وهم‏:‏ المرتكبون الفاحشة ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ وهو‏:‏ الشديد المؤلم الموجع ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}

ثم فسر العذاب الذي أصابهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك‏.‏

والمقصود هنا أن الله أخبر أنه أهلك الظالمين، ونجى المؤمنين المنكرين، وسكت عن الساكتين، وقد اختلف فيهم العلماء على قولين‏:‏ فقيل إنهم من الناجين، وقيل‏:‏ إنهم من الهالكين‏.‏ والصحيح الأول عند المحققين، وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام المفسرين، وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة، فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة‏.‏

قلت‏:‏ وإنما لم يذكروا مع الناجين لأنهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الإنكار القولي، الذي هو أوسط المراتب الثلاث، التي أعلاها‏:‏ الإنكار باليد ذات البنان، وبعدها الإنكار القولي باللسان، وثالثها الإنكار بالجنان‏.‏ فلما لم يذكروا نجوا مع الناجين، إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها‏.‏

وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، وحكى مالك، عن ابن رومان، وشيبان عن، قتادة، وعطاء الخراساني ما مضمونه‏:‏ أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم بقية أهل البلد، ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم، ويغلقون بينهم وبينهم أبواباً حاجزاً، لما كانوا يترقبون من هلاكهم‏.‏

فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها، وارتفع النهار واشتد الضحاء، فأمر بقية أهل البلد رجلاً أن يصعد على سلالم ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون‏.‏

ففتحوا عليهم الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم، ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقول لهم الناهون‏:‏ ألم ننهكم عن صنيعكم‏؟‏ فتشير القردة برؤوسها أن نعم‏.‏ ثم بكى عبد الله بن عباس وقال‏:‏ إنا لنرى منكرات كثيرة ولا ننكرها، ولا نقول فيها شيئا‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ صار شباب القرية قردة، وشيوخها خنازير‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، من طريق مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ أنهم لم يعيشوا إلا فواقاً، ثم هلكوا ما كان لهم نسل‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل هؤلاء، ولم يشربوا، ولم ينسلوا، وقد استقصينا الآثار في ذلك في تفسير سورة البقرة، والأعراف، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال‏:‏ مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة وخنازير، وإنما هو مثل ضربه الله ‏{‏كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ وهذا صحيح إليه وغريب منه جداً، ومخالف لظاهر القرآن، ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف، والله أعلم‏.‏

 قصة أصحاب القرية

{‏إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏‏.‏

تقدم ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 146‏)‏

قصة سبأ

سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏

قصة قارون وقصة بلعام‏.‏

تقدمتا في قصة موسى‏.‏

وهكذا قصة الخضر، وقصة فرعون والسحرة، كلها في ضمن قصة موسى‏.‏

وقصة البقرة تقدمت في قصة موسى‏.‏

وقصة ‏{‏الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏ في قصة حزقيل‏.‏

وقصة ‏{‏الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى‏}‏ في قصة شمويل ‏[‏البقرة‏:‏ 246‏]‏‏.‏

وقصة ‏{‏كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏ في قصة عزير‏.‏

 قصة لقمان

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12-19‏]‏‏.‏

هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال‏:‏ لقمان بن ثاران‏.‏ حكاه السهيلي، عن ابن جرير والقتيبي‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وكان نوبياً من أهل أيلة، قلت‏:‏ وكان رجلاً صالحاً ذا عبادة، وعبارة وحكمة عظيمة‏.‏

ويقال‏:‏ كان قاضياً في زمن داود عليه السلام، فالله أعلم‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان عبداً حبشياً نجاراً‏.‏

وقال قتادة، عن عبد الله بن الزبير قلت‏:‏ لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم في شأن لقمان‏؟‏ قال‏:‏ كان قصيراً أفطس من النوبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 147‏)‏

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان لقمان من سودان مصر، ذو مشافر أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوة‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال‏:‏ جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد‏:‏ لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان‏:‏ بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم‏.‏ كان أسود نوبياً ذا مشافر‏.‏

وقال الأعمش، عن مجاهد‏:‏ كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مشقق القدمين، وفي رواية‏:‏ مصفح القدمين‏.‏

وقال عمر بن قيس‏:‏ كان عبداً أسود، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له‏:‏ ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فما بلغ بك ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني‏.‏ رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي يزيد بن جابر قال‏:‏ إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال‏:‏ ألست عبد بن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالأمس‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فما بلغ بك ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني عبد الله بن عياش الفتياني، عن عمر مولى عفرة قال‏:‏ وقف رجل على لقمان الحكيم فقال‏:‏ أنت لقمان أنت عبد بني النحاس‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأنت راعي الغنم الأسود‏؟‏

قال‏:‏ أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري‏؟‏

قال‏:‏ وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك‏.‏

قال‏:‏ يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك‏.‏

قال‏:‏ ما هو‏؟‏

قال لقمان‏:‏ غضي بصري، وكفي لساني، وعفة مطمعي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن عبدة ابن رباح، عن ربيعة، عن أبي الدرداء أنه قال يوماً وذكر لقمان الحكيم فقال‏:‏

ما أوتي عن أهل، ولا مال، ولا حسب، ولا خصال، ولكنه كان رجلاً ضمضامة، سكيتاً طويل التفكر، عميق النظر، لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يتنحنح، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث، ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقاً نطقه، إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد‏.‏

وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا، فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر، فبذلك أوتي ما أوتي، ومنهم من زعم أنه عرضت عليه النبوة، فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة، لأنها أسهل عليه، وفي هذا نظر، والله أعلم‏.‏ وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 148‏)‏

وروى ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عكرمة أنه قال‏:‏ كان لقمان نبياً، وهذا ضعيف الحال الجعفي‏.‏

والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيماً ولياً ولم يكن نبياً‏.‏ وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه، فكان من أول ما وعظ به أن قال‏:‏ ‏{‏يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ فنهاه عنه، وحذره منه‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ أينا لم يلبس إيمانه بظلم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان‏:‏ ‏{‏يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به‏.‏

ثم اعترض تعالى بالوصية بالوالدين، وبيان حقهما على الولد وتأكده، وأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما، إلى أن قال مخبراً عن لقمان فيما وعظ به ولده‏:‏

‏{‏يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل، فإن الله يسأل عنها، ويحضرها حوزة الحساب، ويضعها في الميزان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏‏.‏‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة، ولو كان في جوف صخرة صماء لا باب لها ولا كوة، أو لو كانت ساقطة في شيء من ظلمات الأرض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما، لعلم الله مكانها‏.‏

{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ أي‏:‏ علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما تراءى للنواظر، أو توارى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 75‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة الصخرة التي تحت الأرضين السبع، وهكذا حكي عن عطية العوفي، وأبي مالك، والثوري، والمنهال بن عمر، وغيرهم، وفي صحة هذا القول من أصله نظر‏.‏

ثم إن في هذا المراد نظر آخر؛ فإن هذه الآية نكرة غير معرفة، فلو كان المراد بها ما قالوه لقال‏:‏ فتكن في الصخرة، وإنما المراد‏:‏ فتكن في صخرة، أي‏:‏ صخرة كانت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 149‏)‏

كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائناً ما كان‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ‏}‏ أي‏:‏ أدها بجميع واجباتها من حدودها، وأوقاتها، وركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها، وما شرع فيها، واجتنب ما ينهي عنه فيها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ أي‏:‏ بجهدك وطاقتك، أي‏:‏ إن استطعت باليد فباليد، وإلا فبلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، ثم أمره بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ‏}‏ وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه، ولكن له العاقبة، ولهذا أمره بالصبر على ذلك، ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ التي لا بد منها ولا محيد عنها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، ويزيد بن الأصم، وأبو الجوزاء، وغير واحد معناه‏:‏ لا تتكبر على الناس، وتميل خدك حال كلامك لهم، وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ وأصل الصعر داء يأخذه الإبل في أعناقها فتلتوي رؤوسها، فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم‏.‏

قال أبو طالب في شعره‏:‏

وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

وقال عمرو بن حيي التغلبي‏:‏

وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏‏.‏

يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه، ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الأرض بوطئك عليها، ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولاً، فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك‏.‏

وقد ثبت في الحديث‏:‏

‏(‏‏(‏بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 150‏)‏

‏(‏‏(‏إياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة لا يحبها الله‏)‏‏)‏‏.‏

كما قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏‏.‏

ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه، فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر وأمره بالخير، فقال‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏ أي‏:‏ لا تبتاطأ مفرطاً ولا تسرع إسراعا مفرطاً، ولكن بين ذلك قواماً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ‏}‏ يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع الأصوات وأنكرها صوت الحمير‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل، فإنها رأت شيطاناً‏.‏

ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت، وتخمير الوجه كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما رفع الصوت بالأذان، وعند الدعاء إلى الفئة للقتال، وعند الإهلاك ونحو ذلك، فذلك مشروع، فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن، من الحكم، والوصايا النافعة الجامعة للخير، المانعة من الشر، وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه، وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان، ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك بن يجمع الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر، قال‏:‏ أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن لقمان الحكيم كان يقول‏:‏ إن الله إذا استودع شيئاً حفظه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن موسى ابن سليمان، عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عمارة، حدثنا ضمرة، حدثنا السري بن يحيى، قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك‏.‏

وحدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي، عن عون بن عبد الله قال‏:‏

قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني إذا أتيت نادي قوم فأدمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 151‏)‏

وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال‏:‏ وضع لقمان جراباً من خردل إلى جانبه، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة، حتى نفد الخردل، فقال‏:‏ يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر، قال‏:‏ فتفطر ابنه‏.‏

وقال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، عن ابن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة‏:‏ لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن‏)‏‏)‏‏.‏

قال الطبراني‏:‏ يعني الحبشي، وهذا حديث غريب منكر‏.‏ وقد ذكر له الإمام أحمد في كتاب ‏(‏الزاهد‏)‏ ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة، فقال‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ‏}‏ قال‏:‏ الفقه، والإصابة في غير نبوة‏.‏ وكذا روي عن وهب بن منبه‏.‏

وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً‏.‏

وحدثنا أسود، حدثنا حماد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطاً‏.‏

وحدثنا سياد، حدثنا جعفر، حدثنا مالك - يعني بن دينار - قال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني اتخذ طاعة الله تجارة، تأتك الأرباح من غير بضاعة‏.‏

وحدثنا يزيد، حدثنا أبو الأشهب، عن محمد بن واسع قال‏:‏ كان لقمان يقول لابنه يا بني اتق الله، ولا تُري الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر‏.‏

وحدثنا يزيد بن هرون ووكيع قالا‏:‏ حدثنا أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً فقال له سيده‏:‏ اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال‏:‏ ائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب، فقال له‏:‏ أما كان فيها شيء أطيب من هذين‏؟‏

قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فسكت عنه ما سكت، ثم قال له‏:‏ اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال له‏:‏ وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب، فقال‏:‏ أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب، فقال له‏:‏ إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا‏.‏

وحدثنا داود بن رشيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن أبي عثمان - رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان - قال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده فيك‏.‏

وحدثنا داود بن أسيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن عبد الله بن زيد قال‏:‏ قال لقمان ألا أن يد الله على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 152‏)‏

وحدثنا عبد الرزاق، سمعت بن جريج قال‏:‏ كنت أقنّع رأسي بالليل‏.‏

فقال لي عمر‏:‏ أما علمت أن لقمان قال‏:‏ القناع بالنهار مذلة معذرة‏.‏

أو قال‏:‏ معجزة بالليل، فلم تقنع رأسك بالليل‏؟‏

قال‏:‏ قلت له‏:‏ إن لقمان لم يكن عليه دين‏.‏

وحدثني حسن بن الجنيد، حدثنا سفيان، قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني ما ندمت على السكوت قط، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب‏.‏

وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا‏:‏ حدثنا أبو الأشهب، عن قتادة أن لقمان قال لابنه‏:‏ يا بني اعتزل الشر يعتزلك، فإن الشر للشر خلق‏.‏

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ مكتوب في الحكمة يا بني إياك والرغب، فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب، ويزيل الحكم كما يزيل الطرب‏.‏ يا بني إياك وشدة الغضب، فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد بن عمير قال‏:‏ قال لقمان لابنه وهو يعظه‏:‏

يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك غبياً يعلموك، وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك معهم، يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه، فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك غبياً يزيدوك غبياً، وإن يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصيبك معهم

يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين، يسفك دماء المؤمنين، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت‏.‏

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ مكتوب في الحكمة‏:‏ بني لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في الحكمة أو في التوراة‏:‏ الرفق رأس الحكمة‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في التوراة‏:‏ كما تَرحمون تُرحمون‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في الحكمة‏:‏ كما تزرعون تحصدون‏.‏

وقال‏:‏ مكتوب في الحكمة‏:‏ أحب خليلك وخليل أبيك‏.‏

وحدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال‏:‏ قيل للقمان أي الناس أصبر‏؟‏

قال‏:‏ صبر لا يتبعه أذى‏.‏

قيل‏:‏ فأي الناس أعلم‏؟‏

قال‏:‏ من ازداد من علم الناس إلى علمه‏.‏

قيل‏:‏ فأي الناس خير‏؟‏

قال‏:‏ الغني‏.‏

قيل‏:‏ الغني من المال‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكن الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد، وإلا أغنى نفسه عن الناس‏.‏

وحدثنا سفيان - هو ابن عيينة - قال‏:‏ قيل للقمان‏:‏ أي الناس شر‏؟‏ قال‏:‏ الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً‏.‏

وحدثنا أبو الصمد، عن مالك بن دينار قال‏:‏ وجدت في بعض الحكمة يبدد الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس، ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولما تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ حدثنا الحكم بن أبي زهير وهو - الحكم بن موسى - حدثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 153‏)‏

وهذا مجموع ما ذكره الإمام أحمد في هذه المواضع، وقد قدمنا من الآثار كثيراً لم يروها، كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال‏:‏ خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، قال‏:‏ فأتاه جبريل وهو نائم فذرَّ عليه الحكمة، قال‏:‏ فأصبح ينطق بها‏.‏

قال سعد‏:‏ سمعت قتادة يقول‏:‏ قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك‏؟‏

فقال‏:‏ إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه، ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي‏.‏

وهذا فيه نظر، لأن سعيد بن بشير عن قتادة، قد تكلموا فيه، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ‏}‏ قال‏:‏ يعني الفقه والإسلام، ولم يكن نبياً ولم يوح إليه‏.‏

وهكذا نصَّ على هذا غير واحد من السلف منهم‏:‏ مجاهد، وسعيد بن المسيب، وابن عباس، والله أعلم‏.‏