الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (117- 118): {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}{بَدِيعُ السموات والارض} أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يُطلقُ على المبتدِع يُطلق على المبتدَع نصَّ عليه أساطينُ أهل اللغة وقد جاء: بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذُكر في القاموس وغيره، ونظيره السميع بمعنى المسمِع في قوله:وقيل: هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه من بَدَع إذا كان على شكل فائقٍ وحُسْنٍ رائق، وهو حجة أخرى لإبطال مقالتِهم الشنعاءِ تقريرُها أن الوالدَ عنصرُ الولدِ المنفصلِ بانفصال مادته عنه والله سبحانه مُبدعُ الأشياء كلِّها على الإطلاق منزَّه عن الانفصال فلا يكون والداً، ورفعُه على أنه خبر لمبتدإٍ محذوف أي هو بديعُ الخ، وقرئ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدل من الضمير في {له} على رأي من يجوز الإبدالَ من الضمير المجرور كما في قوله: {وَإِذَا قضى أَمْرًا} أي أراد شيئاً كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} وأصلُ القضاءِ الإحكامُ أُطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه اْلبتةَ وقيل: الأمر، ومنه قولُه تعالى: {وقضى رَبُّكَ} إلخ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} كلاهما من الكون التام أي أحْدَثَ وليس المرادُ به حقيقةَ الأمرِ والامتثال، وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حُدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القويِّ المطاعِ، وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ من يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مبادئ يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ، وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} حكاية لنوعٍ آخرَ من قبائحهم وهو قدحُهم في أمر النبوة بعد حكاية قدحِهم في شأن التوحيد بنسبة الولدِ إليه سبحانه وتعالى، واختُلف في هؤلاء القائلين: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهودُ وقال مجاهد: هم النصارى ووصفُهم بعدم العلم لعدم علمِهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي، أو لعدم علمِهم بموجب عمَلِهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدرُ عمن له شائبةُ علمٍ أصلاً. وقال قتادةُ: وأكثرُ أهل التفسير هم مشركو العربِ لقوله تعالى: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وقالوا: لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا {لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} أي هلا يكلمُنا بلا واسطة أمراً ونهياً كما يكلم الملائكةَ أو هلا يكلمنا تنصيصاً على نُبوَّتِك {أو تأتينا آية} حجةٌ تدل على صدقك. بلغوا من العُتوِّ والاستكبار إلى حيث أمّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسولِ والملَك، ومن العنادِ والمكابرة إلى حيث لم يعُدّوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات، قاتلهم الله أنى يؤفكون.{كذلك} مثلَ ذلك القولِ الشنيعِ الصادرِ عن العِناد والفساد {قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم} من الأمم الماضية {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} هذا الباطلِ الشنيعِ فقالوا: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} وقالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} الآية وقالوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} إلخ وقالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا إلخ {تشابهت قُلُوبُهُمْ} أي قلوبُ هؤلاءِ وأولئك في العمى والعِناد وإلا لما تشابهت أقاويلُهم الباطلة {قَدْ بَيَّنَّا الآيات} أي نزلناها بينةً بأن جعلناها كذلك في أنفسِها كما في قولهم: سُبحان مَنْ صغّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينةً {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي يطلُبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شُبهةٌ ولا رِيبة، وهذا ردٌّ لطلبهم الآيةَ، وفي تعريف الآياتِ وجمعِها وإيرادِ النبيين المُفصِح عن كمال التوضيح مكانَ الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آيةً فذَّةً ونحن قد بينا الآياتِ العظامَ لقوم يطلُبون الحقَّ واليقين، وإنما لم يُتعرَّضْ لرد قولِهم: {لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب. .تفسير الآيات (119- 120): {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي ملتبساً بالقرآن كما في قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} أو بالصدق كما في قوله تعالى: أَحَق هو. وقولُه تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً} حال من المفعول باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أي أُرْسلناك ملتبساً بالقرآن حالَ كونك بشيراً لمن آمن بما أُنزِل عليك وعمِل به ونذيراً لمن كفَر به أو أرسلناك صادقاً حال كونِك بشيراً لمن صدّقك بالثواب ونذيراً لمن كذّبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبّوا لا قاسرَ لهم على الإيمان فلا عليك إنْ أصرُّوا وكابروا {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم} ما لهم لم يؤمنوا بعدما بلّغْتَ ما أُرسلتَ به وقرئ {لن تُسأل} وقرئ {لا تَسْألْ} على صيغة النهي إيذاناً بكمال شدةِ عقوبةِ الكفار وتهويلاً لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدِرُ المخبِرُ على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامعُ أن يسمع خبرَها، وحملُه على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعدُه النظمُ الكريمُ والجحيمُ: المتأججُ من النار، وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيدٌ شديد لهم وإيذانٌ بأنهم مطبوعٌ عليهم لا يرجى منهم الإيمانُ قطعاً.وقوله تعالى: {وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} بيانٌ لكمال شدةِ شكيمةِ هاتين الطائفتين خاصة إثْرَ بيانِ ما يعُمُّهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت، وإيرادُ لا النافية بين المعطوفَيْن لتأكيد النفي لما مر من أن تصلُّبُ اليهودِ في أمثال هذه العظائم أشدُّ من النصارى والإشعارِ بأن رضى كلَ منهما مباينٌ لرضى الأخرى أي لن ترضى عنك اليهودُ ولو خلَّيتَهم وشأنَهم حتى تتبعَ ملّتهم ولا النصارى ولو تركتهم ودينَهم حتى تتبع مِلَّتَهم فأُوجِزَ النظمُ ثقةً بظهور المراد، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غايةَ وراءه فإنهم حيث لم يرضَوْا عنه عليه السلام ولو خلاّهم يفعلون ما يفعلون بل أملّوا منه صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يدخُل تحت الإمكان من اتباعه عليه السلام لمِلّتهم فكيف يُتوهم اتباعُهم لملته عليه السلام؟ وهذه حالتُهم في أنفسهم ومقالتُهم فيما بينهم، وأما أنهم أظهروها للنبي صلى الله عليه وسلم وشافهوه بذلك وقالوا: لن نرضى عنك وإن بالغْتَ في طلب رضانا حتى تتبعَ مِلَّتنا كما قيل فلا يساعده النظمُ الكريم بل فيه ما يدل على خلافه، فإن قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} صريحٌ في أن ما وقع هذا جواباً عنه ليس عينَ تلك العبارةِ بل ما يستلزم مضمونَها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية والنصرانية وأداءٌ أن الاهتداءَ فيهما كقوله عز وجل حكايةً عنهم: {كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} أي قل رداً عليهم إن هدى الله الذي هو الإسلامُ هو الهدى بالحق والذي يحِقُّ ويصح أن يُسمَّى هُدىً. وهو الهدى كلُّه ليس وراءه هُدىً وما تدْعون إليه ليس بهُدىً بل هو هوىً كما يعرب عنه قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} أي آراءَهم الزائغةَ الصادرةَ عنهم بقضية شهواتِ أنفسِهم وهي التي عُبّر عنها فيما قبلُ بملتهم إذ هي التي ينتمون إليها، وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقيُّ للملة فقد غيّروها تغييراً {بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي الوحي أو الدين المعلومِ صحتُه {مَا لَكَ مِنَ الله} من جهته العزيزة {مِن وَلِىّ} يلي أمرَك عموماً {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعُ عنك عقابَه. وحيث لم يستلزم نفيُ الوليِّ نفيَ النصيرِ وُسِّط (لا) بين المعطوفين لتأكيد النفي وهذا من باب التهييج والإلهابِ وإلا فأنى يُتوهم إمكانُ اتباعِه عليه السلام لمِلّتهم. وهو جوابٌ للقسم الذي وطّأه اللامُ واكتُفي به عن جواب الشرط..تفسير الآيات (121- 122): {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}{الَّذِينَ ءاتيناهم الكتاب} وهم مؤمنو أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} بمراعاة لفظِه عن التحريف وبالتدبّر في معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرةٌ والخبرُ ما بعده أو خبرٌ وما بعده مقرِّرٌ له {أولئك} إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوتِه كما هو حقُّه، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِهم في الفضل {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بكتابهم دون المحرِّفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامِعُ الكفرَ ببعضٍ منه {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} بالتحريف والكفرِ بما يصدِّقه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيث اشترَوُا الكفر بالإيمان {خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ومن جملتها التوراةُ، وذكرُ النعمة إنما يكون بشكرها، وشكرُها الإيمانُ بجميع ما فيها ومن جملته نعتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن ضرورة الإيمان بها الإيمانُ به عليه الصلاة والسلام {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} أفرِدَتْ هذه النعمةُ بالذكر مع كونها مندرجةً تحت النعمة السالفةِ لإنافتها فيما بين فنونِ النعم..تفسير الآيات (123- 124): {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}{واتقوا} إن لم تؤمنوا {يَوْمًا لاَّ تَجْزِى} في ذلك اليوم {نَفْسٌ} من النفوس {عَن نَّفْسٍ} أخرى {شَيْئاً} من الأشياء أو شيئاً من الجزاء {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فدية {وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} وتخصيصُهم بتكرير التذكيرِ وإعادةِ التحذير للمبالغة في النُصحِ، وللإيذان بأن ذلك فذلكةُ القضية والمقصودُ من القصة لِما أن نعمَ الله عز وجل عليهم أعظمُ وكفرَهم بها أشدُّ وأقبحُ.{وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} شروع في تحقيق أن هُدى الله هو ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد والإسلام الذي هو ملةُ إبراهيمَ عليه السلام، وأن ما عليه أهلُ الكتابين أهواءٌ زائغةٌ وأن ما يدّعونه من أنهم على ملة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام فريةٌ بلا مريةٍ ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياءِ عليهم السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيدِ والإسلام وبُطلان الشركِ وبصحة نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وبكونه ذلك النبيِّ الذي استدعاه إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما الصلاة والسلام بقولهما: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} الآية فإذْ منصوب على المفعولية بمضمر مقدرٍ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ أيْ واذكر لهم وقت ابتلائِه عليه السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعةِ عن الشرك فيقبلوا الحقَّ ويتركوا ما هم فيه من الباطل، وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات قد مر وجهُه في أثناء تفسير قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِي الارض خَلِيفَةً} وقيل: على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ أي وإذ ابتلاه كان كيت وكيت وقيل: بما سيجيء من قوله تعالى: {قَالَ} الخ، والأول هو اللائق بجزالة التنزيل، ولا يبعُد أن ينتصِبَ بمضمرٍ معطوف على اذكُروا خُوطب به بنو إسرائيلَ ليتأملوا فيما يُحْكى عمن ينتمون إلى ملة إبراهيمَ وأبنائه عليهم السلام من الأفعال والأقوال ليقتدوا بهم ويسيروا سيرتَهم.والابتلاءُ في الأصل الاختبارُ أي تطلُب الخِبرة بحال المختَبَر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً فِعلُه أو تركُه، وذلك إنما يُتصور حقيقة ممن لا وقوفَ له على عواقبِ الأمور، وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مَجازاً من تمكينه للعبد من اختيار أحدِ الأمرين قبل أن يُرتِّب عليه شيئاً هو من مباديه العادية، كمن يختبرُ عبدَه ليتعرَّف حاله من الكِياسة فيأمُره بما يليق بحاله من مَصالحه. وإبراهيمُ اسمٌ أعجميٌّ قال السُهيلي: كثيراً ما يقع الاتفاقُ أو التقاربُ بين السريانيِّ والعربي، ألا ترى أن إبراهيمَ تفسيره أبْ رَاحِم، ولذلك جُعل هو وزوجتُه سارةُ كافِلَيْن لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً يوم القيامة على ما رَوى البُخاريُّ في حديث الرؤيا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيمَ عليه السلام وحوله أولادُ الناس»، وهو مفعولٌ مقدَّم لإضافة فاعلِه إلى ضميره، والتعرُّضُ لعنوان الربوبية تشريفٌ له عليه السلام وإيذانٌ بأن ذلك الابتلأَ تربيةٌ له وترشيحٌ لأمر خطير، والمعنى عاملَه سبحانه معاملةَ المختبِرَ حيث كلّفه أوامرَ ونواهِيَ تُظهِرُ بحسن قيامِه بحقوقها قُدرتُه على الخروج عن عُهدة الإمامةِ العظمى وتحمّلِ أعباءِ الرسالة، د وهذه المقالةُ وتذكيرُها الناسَ لإرشادهم إلى طريق إتقانِ الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بِعثةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيضاً مبنيةٌ على تلك القاعدة الرصينة واقعةٌ بعد ظهور استحقاقِه عليه السلام للنبوة العامة، كيف لا وهي التي أُجيب بها دعوةُ إبراهيمَ عليه السلام كما سيأتي.واختُلف في الكلمات فقال مجاهد: هي المذكورة بعدَها، ورُدَّ بأنه يأباه الفاء في فأتمهن ثم الاستئناف، وقال طاوسُ عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي عشرُ خصال كانت فرضاً في شرعه وهُن سنةٌ في شرعنا خمسٌ في الرأس: المضمضةُ والاستنشاقُ وفرقُ الرأس وقصُّ الشارب والسواكُ، وخمس في البدن: الخِتانُ وحلقُ العانة ونتفُ الإبْطِ وتقليمُ الأظفار والاستنجاءُ بالماء.وفي الخبر أن إبراهيمَ عليه السلام أولُ من قص الشاربَ وأولُ من اختَتَن وأولُ من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس: لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم ابتلاه الله بثلاثين خَصلةً من خصال الإسلام، عشرٌ منها في سورة براءة: التائبون إلخ وعشر في الأحزاب: إن المسلمين والمسلمات إلخ وعشر في المؤمنون: وسأل سائل إلى قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقيل: ابتلاه الله سبحانه بسبعة أشياءَ بالشمس والقمرِ والنجوم والاختتان على الكِبَر والنار وذبحِ الولدِ والهِجْرة فوفى بالكل وقيل: هن مُحاجَّتُه قومَه والصلاةُ والزكاةُ والصوم والضيافة والصبرُ عليها وقيل: هي المناسكُ كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرِهن وقيل: هي قوله عليه السلام: {الذي خلقني فهو يهدين} الآيات ثم قيل: إنما وقع هذا الابتلاءُ قبل النبوة وهو الظاهرُ وقيل: بعدها لأنه يقتضي سابقةَ الوحي وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزمُ البعثةَ إلى الخلق. وقرئ برفع إبراهيمُ ونصبِ ربَّه أي دعاه بكلماتٍ من الدعاء فعل المختبِر هل يُجيبه إليهن أوْ لا {فَأَتَمَّهُنَّ} أي قام بهن حق القيام وأداهن أحسنَ التأديةِ من غير تفريط وتوانٍ كما في قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه الله تعالى ما سأله من غير نقص ويعضدُه ما رُوي عن مقاتل أنه فسَّر الكلماتِ بما سأل إبراهيمُ ربه بقوله: {رب اجعلني} الآيات. وقولُه عز وجل: {قَالَ} على تقدير انتصاب إذْ بمضمر جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلأَ تمهيدٌ لأمر معظَّم وظهورُ فضيلة المبتلى من دواعي الإحسان إليه فبعد حكايتها نترقب النفسُ إلى ما وقع بعدهما كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل قال: {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} أو بيانٌ لقوله تعالى وإذ ابتلي على رأي من يجعل الكلماتِ عبارةً عما ذُكر أثرُه من الإمامة وتطهيرِ البيت ورفعِ قواعدِه وغير ذلك وعلى تقدير انتصابِ إذْ يقال فالجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ القِصة على القصة، والواو في المعنى داخلةٌ على قال أي وقال إذ ابتلى إلخ والجعلُ بمعنى التصيير أحدُ مفعوليه الضميرُ والثاني إماماً واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل له اُلبتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطف يثنيه، وللناس متعلقٌ بجاعلك أي لأجل الناس أو بمحذوف وقع حالاً من (إماماً) إذ لو تأخر عنه لكان صفةً له والإمام اسم لمن يؤتم به وكلُّ نبي إمامٌ لأمته، وإمامته عليه السلام عامةٌ مؤبدةٌ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباع ملته.{قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم عليه السلام عنده؟ فقيل: قال: {وَمِن ذُرّيَتِى} عطْفٌ على الكاف و(من) تبعيضيةٌ متعلقة بجاعل أي وجاعل بعضَ ذريتي؟ كما تقول: وزيداً لمن يقول سأكرمك، أو بمحذوف أي واجعل فريقاً من ذريتي إماماً، وتخصيصُ البعض بذلك لبَداهة استحالة إمامةِ الكلِّ وإن كانوا على الحق وقيل: التقدير وماذا يكون من ذريتي؟ والذرية نسلُ الرجل فُعّولة من ذروت أو ذريت والأصل ذُرِّوَّة أو ذُرّوْية فاجتمع في الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية، فاجتمعت واوٌ وياء وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فُعيِّلة منهما والأصلُ في الأولى ذُرِّيوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسَبْقِ إحداهما بالسكون فصارت ذرّيْيَة كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرّية أو فُعيلة من الذرْء بمعنى الخلق والأصل ذُريئة فخففت الهمزةُ بإبدالها ياءً كهمزة خطيئة ثم أُدغمت الياء الزائدةُ في المبدلةِ أو فعيلة من الذرّ بمعنى التفريق والأصل ذُرّيرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال كما في تسري وتقضي وتظني فأدغمت الياء في الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذُرّورة فقلبت الراء الأخيرة ياءً فجاء الإدغام وقرئ بكسر الذال وهي لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدني بالفتح وهي أيضاً لغة فيها {قَالَ} استئناف مبني على سؤال ينساقُ إليه الذهنُ كما سبق {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} ليس هذا رداً لدعوتِه عليهِ السلامُ بلْ إجابةً خفيةً لها وعِدَةً إجماليةً منه تعالى بتشريف بعضِ ذريتِه عليه السلام بنيل عهدِ الإمامةِ حسبما وقع في استدعائه عليه الصلاة والسلام من غير تعيين لهم بوصفٍ مميزٍ لهم عن جميع مَنْ عداهم فإن التنصيصَ على حرمانِ الظالمين منه بمعزلٍ من ذلك التمييزِ إذ ليس معناه أنه ينالُ كلَّ من ليس بظالم منهم ضرورةَ استحالةِ ذلك كما أشير إليه ولعل إيثارَ هذه الطريقةِ على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالاً أو تفصيلاً وإرسالَ الباقين لئلا ينتظمَ المقتدون بالأئمةِ من الأمةِ في سلك المحرومين، وفي تفصيل كل فِرقةٍ من الإطناب ما لا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييبِ الكفرةِ الذين كانوا يتمنَّوْن النبوة، وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من نيلها.إنما أوثِرَ النيلُ على الجعلِ إيماءً إلى أن إمامة الأنبياءِ عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسليمانَ وأيوبَ ويونسَ وزكريا ويحيى وعيسى وسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيمَ عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدّره الله عز وجل، وقرئ {الظالمون} على أن {عهدي} مفعولٌ قُدم على الفاعل اهتماماً ورعايةً للفواصلِ وفيه دليلٌ على عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالمِ لِلإمامة.
|