الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
فهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن جندب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي، أصله من مدينة حمص، فدخل به أبوه مع جندها بلاد المغرب فأقام بها، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك هنالك، وكان قد تفقه على ابن القاسم، وسببه أنه قدم أسد بن الفرات صاحب الإمام مالك من بلاد العرب إلى بلاد مصر فسأل عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك عن أسئلة كثيرة فأجابه عنها، فعقلها عنه ودخل بها بلاد المغرب فانتسخها منه سحنون، ثم قدم على ابن القاسم مصر فأعاد أسئلته عليه فزاد فيها ونقص، ورجع عن أشياء منها، فرتبها سحنون ورجع بها إلى بلاد المغرب، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن يعرض نسخته على نسخة سحنون ويصلحها بها فلم يقبل، فدعى عليه ابن القاسم فلم ينتفع به ولا بكتابه، وصارت الرحلة إلى سحنون، وانتشرت عنه المدونة، وساد أهل ذلك الزمان، وتولى القضاء بالقيروان، وإلى أن توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، رحمه الله وإيانا. (ج/ص: 10/357) في جمادى الأولى أو الآخرة من هذه السنة، وثب أهل حمص أيضاً على عاملهم محمد بن عبدويه فأرادوا قتله، وساعدهم نصارى أهلها أيضاً عليه، فكتب إلى الخليفة يعلمه بذلك، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وكتب إلى متولي دمشق أن يمده بجيش من عنده ليساعده على أهل حمص، وكتب إليه أن يضرب ثلاثة منهم معروفين بالشر بالسياط حتى يموتوا، ثم يصلبهم على أبواب البلد، وأن يضرب عشرين آخرين منهم كل واحد ثلاثمائة، وأن يرسلهم إلى سامرا مقيدين في الحديد، وأن يخرج كل نصراني بها، ويهدم كنيستها العظمى التي إلى جانب المسجد الجامع، وأن يضيفها إليه، وأمر بخمسين ألف درهم، وللأمراء الذين ساعدوه بصلات سنية. فامتثل ما أمره به الخليفة فيهم. وفيها: أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له: عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضرباً شديداً مبرحاً، يقال: إنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلاً عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت، ويلقى في دجلة ولا يصلى عليه، ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر، وإن كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفيمن قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان. والصحيح أنه يكفر أيضاً، لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن. قال ابن جرير: وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة. قال: وفيها: مطر الناس في آب مطراً شديداً جداً. قال: وفيها: مات من الدواب شيء كثير، ولا سيما البقر. قال: وفيها: أغارت الروم على عين زربة فأسروا من بها من الزط وأخذوا نساءهم وذراريهم ودوابهم. قال: وفيها: كان الفداء بين المسلمين والروم في بلاد طرسوس بحضرة قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد، عن إذن الخليفة له في ذلك، واستنابه ابن أبي الشوارب. وكانت عدة الأسرى من المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين رجلاً، ومن النساء مائة وخمساً وعشرين امرأة، وقد كانت أم الملك تدورة - لعنها الله - عرضت النصرانية على من كان في يدها من الأسارى، وكانوا نحواً من عشرين ألفاً، فمن أجابها إلى النصرانية وإلا قتلته، فقتلت اثني عشر ألفاً، وتنصر بعضهم، وبقي منهم هؤلاء الذين فودوا وهم قريب من التسعمائة رجالاً ونساءً. (ج/ص: 10/358) وفيها: أغارت البجة على جيش من أرض مصر، وقد كانت البجة لا يغزون المسلمين قبل ذلك، لهدنة كانت لهم من المسلمين، فنقضوا الهدنة، وصرحوا بالخلاف. والبجة طائفة من سودان بلاد المغرب، وكذا النوبة وشنون وزغرير ويكسوم وأمم كثيرة لا يعلمهم إلا الله. وفي بلاد هؤلاء معادن الذهب والجوهر، وكان عليهم حمل كل سنة إلى ديار مصر من هذه المعادن، فلما كانت دولة المتوكل امتنعوا من أداء ما عليهم سنين متعددة، فكتب إلى نائب مصر- وهو يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي وهو المعروف بقوصرة - بذلك كله إلى المتوكل، فغضب المتوكل من ذلك غضباً شديداً، وشاور في أمر البجة فقيل له: يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزودوا لمقامهم بها طعاماً وماء، فصده عن البعث إليهم، ثم بلغه أنهم يغيرون على أطراف الصعيد، ويخشى أهل مصر على أولادهم منهم، فجهز لحربهم محمد بن عبد الله القمي، وجعل إليه نيابة تلك البلاد كلها المتاخمة لأرضهم، وكتب إلى عمال مصر أن يعينوه بكل ما يحتاج إليه من الطعام وغير ذلك، فتخلص وتخلص معه من الجيوش الذين انضافوا إليه من تلك البلاد حتى دخل بلادهم في عشرين ألف فارس وراجل، وحمل معه الطعام الأدام في مراكب سبعة، وأمر الذين هم بها أن يلجوا بها في البحر فيوافوه بها إذا توسط بلاد البجة، ثم سار حتى دخل بلادهم وجاوز معادنهم، وأقبل إليه ملك البجة - واسمه علي بابا - في جمع عظيم أضعاف من مع محمد بن عبد الله القمي، وهم قوم مشركون يعبدون الأصنام، فجعل الملك يطاول المسلمين لعله تنفد أزوارهم فيأخذونهم بالأيدي، فلما نفد ما عند المسلمين طمع فيهم السودان فيسر الله وله الحمد بوصول تلك المراكب، وفيها من الطعام والتمر والزيت وغير ذلك مما يحتاجون إليه شيء كثير جداً، فقسمه الأمير بين المسلمين بحسب حاجاتهم، فيئس السودان من هلاك المسلمين جوعاً فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين، ومركبهم الإبل شبيهة بالهجن زعرة جداً كثيرة النفار، لا تكاد ترى شيئاً ولا تسمع شيئاً إلا جفلت منه. فلما كان يوم الحرب عمد أمير المسلمين إلى جميع الأجراس التي معهم في الجيش فجعلها في رقاب الخيول، فلما كانت الواقعة حمل المسلمون حملة رجل واحد، فنفرت بهم إبلهم من أصوات تلك الأجراس في كل وجه، وتفرقوا شذر مذر، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤا، لا يمتنع منهم أحد، فلا يعلم عدد من قتلوا منهم إلا الله عز وجل، ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة فكسبهم القمى من حيث لا يشعرون فقتل عامة من بقي منهم وأخذ ملكهم بالأمان، وأدى ما كان عليه من الحمل، وأخذه معه أسيراً إلى الخليفة. وكانت هذه الوقعة في أول يوم من هذه السنة، فولاه الخليفة على بلاده كما كان، وجعل إلى ابن القمي أمر تلك الناحية والنظر في أمرها، ولله الحمد والمنة. (ج/ص: 10/359) قال ابن جرير: ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة، قلت: وهذا الرجل كان نائباً على الديار المصرية من جهة المتوكل. وفيها: حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة، وأحداث الموسم ولم يتعرض ابن جرير لوفاة أحد من المحدثين في هذه السنة، وقد توفي من الأعيان الإمام أحمد بن حنبل، وجبارة بن المغسل الحماني، وأبو ثوبة الحلبي، وعيسى بن حماد سجادة، ويعقوب بن حميد بن كاسب، ولنذكر شيئاً من فنقول وبالله المستعان هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليهما السلام - أبو عبد الله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي، هكذا ساق نسبه الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي جمعه في مناقب أحمد عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك. وروى عن صالح بن الإمام أحمد قال: رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال: وما تصنع به؟ ولم ينكر النسب. قالوا: وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه في ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة. وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه. قال صالح: عن أبيه، فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين، فلما كبرت دفعتهما إلي بثلاثين درهماً. وتوفي أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله من العمر سبع وسبعون سنة، رحمه الله. وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك وأقبل على سماع الحديث، فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة سبع وثمانين ومائة، وقد بلغ من العمر ست عشر سنة، وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة، ثم سنة إحدى وتسعين. وفيها: حج الوليد بن مسلم، ثم سنة ست وتسعين، وجاور في سنة سبع وتسعين، ثم حج في سنة ثمان وتسعين، وجاور إلى سنة تسع وتسعين، سافر إلى عند عبد الرازق إلى اليمن، فكتب عنه هو ويحيى بن معين وإسحق بن راهويه. (ج/ص: 10/360) قال الإمام أحمد: حججت خمس حجج منها ثلاث راجلاً، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهماً. قال: وقد ضللت في بعضها الطريق وأنا ماش، فجعلت أقول: يا عباد الله دلوني على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق، قال: وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يمكن عندي شيء. وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه، عن حرملة سمعت الشافعي قال: وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم على مصر فلم يقدم. قال ابن أبي حاتم: يشبه أن تكون ذات اليد منعته أن يفي بالعدة، وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم، وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم، وكذلك الرواة عنه. قال البيهقي: بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الإمام أحمد: وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش، وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة. قلت: قد أفرد ما رواه أحمد عن الشافعي، وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثاً ومن أحسن ما رويناه عن الإمام أحمد، عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة يرجعه إلى جسده يوم البعث)) وقد قال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين ومائة - وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة - قال له: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازياً كان أو شامياً أو عراقياً أو يمنياً - يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب -. وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد، وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه، وقد كان الإمام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء، كما سيأتي ثناء الأئمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة في العلم والحديث، وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق. ثم حكى البيهقي كلام أحمد في الإيمان وأنه قول وعمل ويزيد وينقص، وكلامه في القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنكاره على من يقول: إن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن. قال: وفيها حكى أبو عمارة وأبو جعفر، أخبرنا أحمد شيخنا السراج، عن أحمد بن حنبل، أنه قال: اللفظ محدث، واستدل بقوله: قال: فاللفظ كلام الآدميين. وروى غيرهما عن أحمد أنه قال: القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق، وأما أفعالنا فهي مخلوقة، قلت: وقد قرر البخاري في هذا المعنى في أفعال العباد، وذكره أيضاً في الصحيح، واستدل بقوله عليه السلام: ((زينوا القرآن بأصواتكم)). ولهذا قال غير واحد من الأئمة: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، وقد قرر البيهقي ذلك أيضاً. وروى البيهقي، من طريق إسماعيل بن محمد بن إسماعيل السلمي، عن أحمد، أنه قال: من قال القرآن محدث فهو كافر. ومن طريق أبي الحسن الميموني، عن أحمد أنه أجاب الجهيمة حين احتجوا عليه بقوله تعالى: وعن حنبل، عن أحمد أنه قال: يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وعظه إياهم. ثم ذكر البيهقي كلام الإمام أحمد، وفي رؤية الله في الدار الآخرة، واحتج بحديث صهيب في الرؤية، وهي زيادة، وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. وروى البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل، أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أنه: جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله هو ابن مسعود - قال: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء، وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه، إسناد صحيح. قلت: وهذا الأثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق. والأمر كما قاله ابن مسعود، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة. وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة، ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له: ما تقول في الخلافة ؟ فقال: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن قدم علياً على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى، لأنهم قدموا عثمان رضي الله عنه. روى البيهقي، من طريق المزني، عن الشافعي أنه قال للرشيد: إن اليمن يحتاج إلى قاض. فقال له: اختر رجلاً نوله إياها. فقال الشافعي لأحمد بن حنبل - وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه - ألا تقبل قضاء اليمن؟ فامتنع من ذلك امتناعاً شديداً. وقال للشافعي: إني إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم. فاستحى الشافعي منه. (ج/ص: 10/362) وروي أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه، ولا يكلهم أيضاً، لأنهم أخذوا جائزة السلطان، ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقاً، فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعاً فقال: ما هذه العجلة ! كيف خبزتم ؟ فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجوراً فخبزنا لك فيه، فقال: ارفعوا ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح. قال البيهقي: لأن صالحاً أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله. وقال عبد الله ابنه: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوماً يأكل فيها إلا ربع مد سويقاً، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه، حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وقد رأيت موقيه دخلاً في حدقتيه. قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع، وكان أحمد لا يتناول منها شيئاً. قال: وبعث المأمون مرة ذهباً يقسم على أصحاب الحديث، فما بقي منهم أحداً إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى. وقال سليمان الشاذكوني: حضرت أحمد وقد رهن سطلاً له عند فامي اليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال: خذ متاعك منهما، فاشتبه أيهما له فقال: أنت في حل منه، ومن الفكك، وتركه وذهب. وحكى ابنه عبد الله قال: كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فيكتب رجل إلى أبي إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها. فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي: لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية، وجزاك الله عن قصدك خيراً. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه. ونفدت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير فقال: نحن في كفاية، ولم يقبلها، وسرقت ثيابه وهو في باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهباً فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا ديناراً واحداً ليكتب لهم به، فكتب لهم بالأجر رحمه الله. وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط. وروى البيهقي: أن أحمد سئل عن التوكل فقال: هو قطع الاستشراف باليأس من الناس. فقيل له: هل من حجة على هذا ؟ قال: نعم ! إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال: هل لك من حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. قال: فسل من لك إليه حاجة. فقال: أحب الأمرين ألي أحبهما إليه. وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال: كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا: ادع الله لنا فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائماً، ثم سكت فقلنا: زدنا ! (ج/ص: 10/363) فقال: اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تقل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغاً لنا في دنيانا، وغنى من فضلك. قال البيهقي: وفي حكاية أبي الفضل التميمي، عن أحمد وكان يدعو في السجود: اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق. وكان يقول: اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فداء فاجعلني فداء لهم. وقال صالح بن أحمد: كان أبي لا يدع أحداً يستقي له الماء للوضوء، بل كان يلي ذلك بنفسه، فإذا خرج الدلو ملآن قال: الحمد لله. فقلت: يا أبة ما الفائدة بذلك ؟ فقال: يا بني أما سمعت قول الله عز وجل: وقال إسماعيل بن إسحاق السراج: قال لي أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك ؟ فقلت: نعم ! وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك. فقال: إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب. فلما كان بين العشاءين جاؤوا، وكان الإمام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئاً، بل جاؤوا فجلسوا بين يدي الحارث سكوتاً مطرقي الرؤوس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريباً من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق. قال: فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ؟ فقال: ما رأيت أحداً يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم. قال البيهقي: يحتمل أنه كره له صحبتهم لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهداً، فإنه كان عنده شيء من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك، أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع. قلت: بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى: بالرعاية، قال: هذا بدعة. ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب: عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة. وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب. وقال: الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر. وقال: الفقر أشرف من الغنى، فإن الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالاً من الشكر. وقال: لا أعدل بفضل الفقر شيئاً. وكان يقول: على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس، ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف. وكان يحب التقليل من الدنيا لأجل خفة الحساب. (ج/ص: 10/364) وقال إبراهيم: قال رجل لأحمد: هذا العلم تعلمته لله ؟ فقال له أحمد: هذا شرط شديد ولكن حبب إلي شيء فجمعته. وفي رواية أنه قال: أما الله فعزيز، ولكن حبب إلى شيء فجمعته. وروى البيهقي: أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد فقال: إن أمي زمنه مقعده منذ عشرين سنة، وقد بعثتني إليك لتدعو لها. فكأنه غضب من ذلك، وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها. ثم دعا الله عز وجل لها. فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب، فخرجت إليه على رجليها وقالت: قد وهبني الله العافية. وروي أن سائلاً سأل فأعطاه الإمام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال: هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوي درهماً. فأبى فرقاه إلى خمسين درهماً وهو يأبى وقال: إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها. ثم قال البيهقي رحمه الله: في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق بسبب القرآن العظيم، وما أصابه من الحبس الطويل، والضرب الشديد، والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه، وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم. وكان أحمد عالماً بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة، والأخبار المأثورة، وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيماناً واحتساباً، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، وألحق به محببيه فيما نال من كرامة الله تعالى إن شاء الله من غير بليه، وبالله التوفيق والعصمة. قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وقال الله تعالى: في سواها معنى ما كتبنا. وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلاً فيه: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عاصم بن بهدلة، سمعت مصعب بن سعد، يحدث عن سعد، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء ؟ فقال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما زال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)). وقد روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه)). أخرجاه في الصحيحين. (ج/ص: 10/365) وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان بن عمر السكسكي، ثنا عمرو بن قيس السكوني، ثنا عاصم بن حميد، قال: سمعت معاذ بن جبل، يقول: إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولا الأنفس إلا شحاً. وبه قال معاذ: لن تروا من الأئمة إلا غلطة، ولن تروا أمراً يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه. قال البغوي: سمعت أحمد، يقول: اللهم رضنا. وروى البيهقي، عن الربيع، قال: بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب فقال: أقرأته ؟ فقلت: لا ! فأخذه فقرأه فدمعت عيناه، فقلت: يا أبا عبد الله ! وما فيه ؟ فقال: يذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: ((اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأقرأ عليه السلام مني وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، ويرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة)). قال الربيع: فقلت: حلاوة البشارة. فخلع قميصه الذي يلي جلده فأعطانيه، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته فقال: إني لست أفجعك فيه، ولكن بله بالماء وأعطينيه حتى أتبرك به. قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل. قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين. فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له: جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا ! إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً. (ج/ص: 10/366) قال أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه. فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعزُّ عليَّ أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف. قال: فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن لم يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته. قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل. قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني منهم أذىً كثير. وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، وقيل: نيفاً وثلاثين شهراً، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم. وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه. لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ أنا على القبلة و لله الحمد. ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله. قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 10/367) قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من قبلي لم أتعرض إليك. ثم قال: يا عبد الرحمن ! ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج المسلمين. ثم قال ناظره: يا عبد الرحمن، كلمه. فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه. فقال المعتصم: أجبه. فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت. فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فسكت. فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين ! كفَّرك وكفَّرنا. فلم يلتفت إلى ذلك. فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن. فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت. فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به. فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما. وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: وبقوله: وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم. فقال لهم: ما تقولون ؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضاً، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم. قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس كمثله شيء، فسكت عني. وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاماً يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي. فأقول: يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها. واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى: وبقوله: وبقوله: وبقوله: ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! هذا كافر ضال مضل. (ج/ص: 10/368) وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ! ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين. فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء. قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني. ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين. فقلت: يا أمير المؤمنين ! الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث)). وتلوت الحديث. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)): فبم تستحل دمي، ولم آت شيئاً من هذا؟ يا أمير المؤمنين ! اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك. ثم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ! إنه ضال مضل كافر. فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك. ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطاً فأغمي عليَّ وذهب عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك ! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل: ثمانين سوطاً، لكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً. وقد كان الإمام أحمد رجلاً رقيقاً أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله. ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك ! فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، فسكت. (ج/ص: 10/369) ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان. ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة. ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندماً كثيراً، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] الآية. ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: ( وينادي المنادي يوم القيامة: ((ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا))، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله)). وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة: أحمد بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ومات في الطريق، ونعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي، وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلاً بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي وقد ذكرنا كيفية مقتله. قال البخاري: لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة. وقال إسماعيل بن الخليل: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً. وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين. وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من العراق فما تركت رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل. وقال شيخ أحمد يحيى بن سعيد القطان: ما قدم على بغداد أحد أحب إلي من أحمد بن حنبل. وقال قتيبة: مات سفيان الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع. وقال: إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة. (ج/ص: 10/370) قال البيهقي: - يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله -. - وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يوماً - فقال: رحمه الله في الدين ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره، وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها. وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: أدخل أحمد الكير فخرج ذهباً أحمر. وقال الميموني: قال لي علي بن المديني بعد ما امتحن أحمد، وقيل: قبل أن يمتحن: يا ميمون ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل. فعجبت من هذا عجباً شديداً وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له مقالة علي بن المديني فقال: صدق ! إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصاراً وأعواناً، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان. ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول: لست أعلم في الإسلام مثله. وقال إسحاق بن راهويه: أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه. وقال علي بن المديني: إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان. وقال أيضاً: إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، ثم قال: ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ؟ وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط: كان محدثاً، وكان حافظاً، وكان عالماً، وكان ورعاً، وكان زاهداً، وكان عاقلاً. وقال يحيى بن معين أيضاً: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه. وقال الذهلي: اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله. وقال هلال بن المعلى الرقي: منَّ الله على هذه الأمة بأربعة: بالشافعي فهم الأحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ. وبأبي عبيد بين غريبها. وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الأحاديث. وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، لولا هؤلاء الأربعة لهلك الناس. وقال أبو بكر بن أبي داود: أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً ومحبرة - يعني: في عصره -. وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأيت من رأى مثله. وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه. وروى البيهقي، عن الحاكم، عن يحيى بن محمد العنبري قال: أنشدنا أبو عبد الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله: إن ابن حنبل إن سألت إمامنا * وبه الأئمة في الأنام تمسكوا خلف النبي محمداً بعد الألى * خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا حذو الشراك على الشراك وإنما * يحذو المثال مثاله المستمسك وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)). (ج/ص: 10/371) وروى البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن أبي القاسم البغوي، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معاذ بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح. قال البغوي: وحدثني زياد بن أيوب، حدثنا مبشر، عن معاذ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح. قال البغوي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)). وهذا الحديث مرسل، وإسناده فيه ضعف، والعجب أن ابن عبد البر صححه، واحتج به على عدالة كل من حمل العلم، والإمام أحمد من أئمة أهل العلم، رحمه الله، وأكرم مثواه. حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووي حتى برأ، ولله الحمد، ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث، وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهماً ينفقها على عياله ويتقنع بذلك، رحمه الله، صابراً محتسباً. ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق، فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محباً للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق: لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد - وهو: إسحاق بن إبراهيم - أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه فأكرمه وعظمه، لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن فقال له أحمد: سؤالك هذا سؤال تعنت، أو استرشاد ؟ فقال: بل سؤال استرشاد. فقال: هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة إلى سر من رأى ثم سبقه إليه. وبلغه أن أحمد اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة فقال المتوكل: يرد إن كان قد وطئ بساطي، فرجع الإمام أحمد من الطريق إلى بغداد. وقد كان الإمام أحمد كارهاً لمجيئه إليهم، ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس، وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه. ثم إن رجلاً من المبتدعة يقال له: ابن البلخي وشى إلى الخليفة شيئاً فقال: إن رجلاً من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن. فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام أحمد جالساً في داره مع عياله فسألوه عما ذكر عنه. (ج/ص: 10/372) فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء، ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثره عليَّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، في كلام كثير. ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها، فلم يروا شيئاً. فلما بلغ المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه، علم أنهم يكذبون عليه كثيراً. فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة - وهو: أحد الحجبة - بعشرة آلاف درهم من الخليفة. وقال: هو يقرأ عليك السلام ويقول: استنفق هذه، فامتنع من قبولها. فقال: يا أبا عبد الله ! إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهماً وأعطى منها لأبي أيوب وأبي سعيد الأشج، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه، ولم يعط منها لأهله شيئاً وهم في غاية الفقر والجهد، وجاء بنوا ابنه فقال: أعطني درهماً. فنظر أحمد إلى ابنه صالح فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي فسكت أحمد. وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فقال علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك، وتصدق بها عنك، وماذا يصنع أحمد بالمال؟ إنما يكفيه رغيف. فقال: صدقت. فلما مات إسحاق بن إبراهيم، وابنه محمد ولم يكن بينهما إلا القريب، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الإمام أحمد، فقال لأحمد في ذلك، فقال: إني شيخ كبير وضعيف، فرد الجواب على الخليفة بذلك، فأرسل يعزم عليه لتأتيني، وكتب إلى أحمد: إني أحب أن آنس بقربك، وبالنظر إليك، ويحصل لي بركة دعائك. فسار إليه الإمام أحمد - وهو عليل - في بنيه، وبعض أهله، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم، فسلم وصيف على الإمام أحمد فرد السلام. وقال له وصيف: قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي داؤد، فلم يرد عليه جواباً، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف، فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى، أنزل أحمد في دار إيتاخ، فلما علم بذلك ارتحل منها، وأمر أن يستكري له دار غيرها، وكان رؤوس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ويبلغونه عن الخليفة السلام، ولا يدخلون عليه حتى يقلعون ما عليهم من الزينة والسلاح. وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة، وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضاً عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بأنه عليل وأسنانه تتحرك، وهو ضعيف. وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة، والفاكهة والثلج، مما يقاوم مائة وعشرين درهماً في كل يوم، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك، ولم يكن أحمد يأكل شيئاً من ذلك بالكلية، بل كان صائماً يطوي، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام، ومع ذلك هو مريض، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلاً من السويق بعد ثمانية أيام. وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له فامتنع من قبوله، فألح عليه الأمير فلم يقبل. فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله، وقال: إنه لا يمكن ردها على الخليفة. (ج/ص: 10/373) وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم، فمانع أبو عبد الله الخليفة، فقال الخليفة: لا بد من ذلك، وما هذا إلا لولدك. فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته، ثم أخذ يلوم أهله وعمه، وقال لهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا قد نزل بنا الموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء. في كلام طويل يعظهم به. فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح: ((ما جاءك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه)). وأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان. فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال. ولما استمر ضعفه جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه، فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين ! إن أحمد ليس به علة في بدنه، وإنما علته من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة. فسكت المتوكل ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الإمام أحمد، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له، وليكن في حجره. فتمنع من ذلك، ثم أجاب إليه رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد. وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكبه، فامتنع من ركوبه لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه وجاء إلى مجلس المعتز، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس، من وراء ستر رقيق، فلما جاء أحمد قال: سلام عليكم. وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة، فقالت أم الخليفة: الله الله يا بني ! في هذا الرجل ترده إلى أهله، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه. وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه: يا أمه قد تأنست الدار. وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان فألبسها أحمد بيده، وأحمد لا يتحرك بالكلية. قال الإمام أحمد: ولما جلست إلى المعتز قال مؤدبه: أصلح الله الأمير، هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك ! فقال: إن علمني شيئاً تعلمته. قال أحمد: فتعجبت من ذكائه في صغره لأنه كان صغيراً جداً، فخرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ويستعيذ بالله من مقته وغضبه. ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف وهيأ له حزاقة فلم يقبل أن ينحدر فيها، بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفياً، وأمر أن تباع تلك الخلعة، وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين. وجعل أياماً يتألم من اجتماعه بهم، ويقول: سلمت منهم طول عمري، ثم ابتليت بهم في آخره. وكان قد جاع عندهم جوعاً عظيماً كثيراً حتى كاد أن يقتله الجوع. وقد قال بعض الأمراء للمتوكل: إن أحمد لا يأكل لك طعاماً، ولا يشرب لك شراباً، ولا يجلس على فرشك، ويحرم ما تشربه. فقال: والله لو نشر المعتصم وكلمني في أحمد ما قبلت منه. وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم تستعلم أخباره وكيف حاله، وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد فلا يجيب بشيء، ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي داؤد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها. قال عبد الله بن أحمد: وحين رجع أبي من سامرا وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتاً هم فيه أو ينتفع بشيء مما هم فيه لأجل قبولهم أموال السلطان. (ج/ص: 10/374) وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره في أشياء تقع له. ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى، فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها. وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين ! إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة. فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه. ثم أمر أن يضرب الرجل لذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط. فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال: مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل. وقد كتب الخليفة إلى أحمد يسأله عن القول في القرآن سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة فيها آثار عن الصحابة وغيرهم، وأحاديث مرفوعة. وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها، وهي مروية عنه وقد نقلها غير واحد من الحفاظ. قال ابنه صالح: كان مرضه في أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف، فقلت: يا أبت ! ما كان غداؤك ؟ فقال: ماء الباقلا. ثم إن صالحاً ذكر كثرة مجيء الناس من الأكابر وعموم الناس لعيادته، وكثرة حرج الناس عليه، وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها، وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين، فأخذ شيئاً من الأجرة فاشترى تمراً وكفَّر عن أبيه، وفضل من ذلك ثلاثة دراهم. وكتب الإمام أحمد وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين. وأوصي أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. وأوصي لعبد الله بن محمد المعروف ببوران عليَّ نحواً من خمسين ديناراً وهو مصدق فيها، فيقضي ماله عليَّ من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استوفى أعطى ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم. (ج/ص: 10/375) ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوماً فسماه: سعيداً، وكان له ولد آخر اسمه: محمد قد مشى حين مرض فدعاه فالتزمه وقبله ثم قال: ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ؟ فقيل له: ذرية تكون بعدك يدعون لك. قال: وذاك إن حصل. وجعل يحمد الله تعالى، وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها أنَّ، وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة، فأنَّ حين اشتد به الوجع. وقد روي عن ابنه عبد الله، ويروي عن صالح أيضاً أنه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر أن يقول: لا بعد لا بعد. فقلت: يا أبت ! ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة ؟ فقال: يا بني ! إن إبليس واقف في زواية البيت وهو عاض على إصبعه وهو يقول: فتَّني يا أحمد ؟ فأقول: لا بعد، لا بعد - يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد - كما جاء في بعض الأحاديث قال إبليس: يا رب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني. وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه. وقد كانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فاجتمع الناس في الشوارع، وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان، وأرسل يقول: هذا نيابة عن الخليفة، فإنه لو كان حاضراً لبعث بهذا. فأرسل أولاده يقولون: إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره، وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان. وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطاً واشتروا له راوية ماء، وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئاً، وكان لا يزال متغضباً عليهم لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم، وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء. وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله. وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزَّى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر، وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق. (ج/ص: 10/376) وقد روى البيهقي وغير واحد: أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف. وفي رواية: وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف. قال البيهقي، عن الحاكم، سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي، يقول: سمعت محمد بن يحيى الزنجاني، سمعت عبد الوهاب الوراق، يقول: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل. فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي، يقول: حدثني محمد بن العباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس. وفي بعض النسخ: أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفاً، فالله أعلم. وقال الدارقطني: سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: سمعت أبي، يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر. وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان. وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس. وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جداً فلله الأمر من قبل ومن بعد. وقد روى البيهقي، عن حجاج بن محمد الشاعر، أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد. وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد: دفن اليوم سادس خمسة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد. وكان عمره يوم مات سبعاً وسبعين سنة وأياماً أقل من شهر، رحمه الله تعالى. وقد صح في الحديث لم يبق من النبوة إلا المبشرات. وفي رواية: إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له. وروى البيهقي، عن الحاكم، سمعت علي بن حمشاد، سمعت جعفر بن محمد بن الحسين، سمعت سلمة بن شبيب، يقول: كنا عند أحمد بن حنبل وجاءه شيخ ومعه عكازة فسلم وجلس فقال: من منكم أحمد بن حنبل ؟ (ج/ص: 10/377) فقال أحمد: أنا ما حاجتك ؟ فقال: ضربت إليك من أربعمائة فرسخ أريت الخضر في المنام فقال لي: سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه وقل له: إنَّ ساكن العرش والملائكة راضون بما صبرت نفسك لله عز وجل. وعن أبي عبد الله محمد بن خزيمة الإسكندراني، قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت له: يا أبا عبد الله ! أي مشية هذه ؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: أغفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال لي: يا أحمد ! هذا بقولك القرآن كلامي، ثم قال لي: يا أحمد ! ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري، وكنت تدعو بهن في دار الدنيا، فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء اغفر لي كل شيء، حتى لا تسألني عن شيء. فقال لي: يا أحمد ! هذه الجنة قم فادخلها. فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة وهو يقول: قال فقلت له: ما فعل بشر الحافي ؟ فقال: بخ بخ، ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم. أو كما قال. وقال أبو محمد بن أبي حاتم: عن محمد بن مسلم بن وارة، قال: لما مات أبو زرعة رأيته في المنام فقلت له: ما فعل الله بك ؟ فقال: قال الجبار: ألحقوه بأبي عبد الله، وأبي عبد الله، وأبي عبد الله، مالك والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال أحمد بن خرّزاد الأنطاكي: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وقد برز الرب جل جلاله، لفصل القضاء، وكأن منادياً ينادي من تحت العرش: أدخلوا أبا عبد الله، وأبا عبد الله، وأبا عبد الله الجنة. قال: فقلت لملك إلى جنبي: من هؤلاء ؟ فقال: مالك، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل. وروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب المقدسي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو نائم وعليه ثوب مغطى به وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين يذبان عنه. وقد تقدم في ترجمة أحمد بن أبي دؤاد، عن يحيى الجلاء أنه رأى كأن أحمد بن حنبل في حلقة بالمسجد الجامع، وأحمد بن أبي داؤد في حلقة أخرى، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين الحلقتين وهو يتلو هذه الآية:
|