الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
تَارَةً يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا، فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (الْمَائِدَةِ: 48)، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَةِ: 43) {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 238) فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَقْتَضِي اللَّفْظُ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ بِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَبِالِاسْتِبَاقِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ كَمَا يُقَالُ: لَبِسَ الْقَوْمُ ثِيَابَهُمْ، وَرَكِبُوا دَوَابَّهُمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} (يُوسُفَ: 31) أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} (فَاطِرٍ: 37) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَذَكَّرَ جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي مُدَّةٍ وَعُمْرٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (الْمُرْسَلَاتِ: 32) أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْقَصْرِ، وَالْقَصْرُ الْبَيْتُ مِنْ أَدَمٍ، كَانَ يُضْرَبُ عَلَى الْمَاءِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرَرُ كُلُّهُ كَقَصْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْوَعِيدِ فَإِنَّ الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الشَّرَرِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْقَصْرِ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} (الْمُرْسَلَاتِ: 33) فَشُبِّهَ بِالْجَمَاعَةِ، أَيْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الشَّرَرِ كَالْجَمَلِ، فَجَمَاعَتِهِ، إِذِ الْجِمَالَاتُ الصُّفْرُ كَذَلِكَ الْأَوَّلُ، كُلُّ شَرَرَةٍ مِنْهُ كَالْقَصْرِ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي. وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} (نُوحٍ: 7) وَقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 285) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ. وَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ جَمِيعَ أُمَّهَاتِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمَّهُ وَبِنْتَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (النِّسَاءِ: 12) فَإِنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاجِ نِصْفُ مَا تَرَكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجُهُ فَقَطْ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11). وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطُّورِ: 21) إِنَّمَا مَعْنَاهُ: اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ ذُرِّيَّتُهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الذُّرِّيَّةِ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْآبَاءِ. وَقَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (الْبَقَرَةِ: 233) أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التَّوْبَةِ: 5) فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ أَفَادَتِ الْمُكْنَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ مَنْ وَجَدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} (النُّورِ: 24). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (الْمَائِدَةِ: 6) فَذَكَرَ (الْمَرَافِقِ) بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَ (الْكَعْبَيْنِ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ؛ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ، وَلِكُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ فَصَحَّتِ الْمُقَابَلَةُ. وَلَوْ قِيلَ إِلَى الْكِعَابِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ.....، فَإِنَّ لِكُلِّ رِجْلٍ كَعْبًا وَاحِدًا فَذَكَرَ الْكَعْبَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِيَتَنَاوَلَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ كُلِّ رِجْلٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَلَّا يَجِبَ إِلَّا غَسْلُ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ. قُلْنَا: صَدَّنَا عَنْهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِجْمَاعُ. وَتَارَةً يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ ثُبُوتِ الْجَمْعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (النُّورِ: 4). وَجَعَلَ مِنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (الْبَقَرَةِ: 25). وَتَارَةً يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَيَفْتَقِرُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا. أَمَّا مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ فِي الْقُرْآنِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمُفْرَدِ وَقَدْ يَقْتَضِيهِ بِحَسَبِ عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُقَابِلِ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (الْبَقَرَةِ: 184) الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (النُّورِ: 4) إِنَّمَا هُوَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ
فَمِنْهُ أَنَّهُ حَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا مُفْرَدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطَّلَاقِ: 12) وَحِكْمَتُهُ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ السُّفْلِ وَالتَّحْتِ، وَلَكِنْ وُصِفَ بِهَا هَذَا الْمَكَانُ الْمَحْسُوسُ، فَجَرَتْ مَجْرَى امْرَأَةِ زَوْرٍ وَضَيْفٍ فَلَا مَعْنَى لِجَمْعِهِمَا كَمَا لَا يُجْمَعُ الْفَوْقُ وَالتَّحْتُ، وَالْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُخْبِرُ إِلَى جُزْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَيَّنَ قِطْعَةً مَحْدُودَةً مِنْهَا خَرَجَتْ عَنْ مَعْنَى السُّفْلِ الَّذِي هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْعُلُوِّ فَجَازَ أَنْ تُثَنَّى إِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا جُزْءًا آخَرَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ فَجَمَعَهَا لَمَّا اعْتَمَدَ الْكَلَامُ عَلَى ذَاتِ الْأَرْضِ، وَأَثْبَتَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ لِآحَادِهَا دُونَ الْوَصْفِ بِكَوْنِهَا تَحْتُ أَوْ سُفْلُ فِي مُقَابَلَةِ عُلُوٍّ، وَأَمَّا جَمْعُ السَّمَاوَاتِ، وَإِفْرَادُهَا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ذَاتُهَا دُونَ مَعْنَى الْوَصْفِ، فَلِهَذَا جُمِعَتْ جَمْعَ سَلَامَةٍ لِأَنَّ الْعَدَدَ قَلِيلٌ، وَجَمْعُ الْقَلِيلِ أَوْلَى بِهِ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَعْنَى التَّحْتِ وَالسُّفْلِ دُونَ الذَّاتِ وَالْعَدَدِ. وَحَيْثُ أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ وَالْعَدَدُ أُتِيَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطَّلَاقِ: 12). وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا نِسْبَةَ إِلَيْهَا إِلَى السَّمَاوَاتِ وَسَعَتِهَا بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَحَصَاةٍ فِي صَحْرَاءَ، فَهِيَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ كَالْوَاحِدِ الْقَلِيلِ فَاخْتِيرَ لَهَا اسْمُ الْجِنْسِ. وَأَيْضًا فَالْأَرْضُ هِيَ دَارُ الدُّنْيَا الَّتِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ، كَمَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانُ إِصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ، فَمَا يُعَلَّقُ بِهَا هُوَ مِثَالُ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الدُّنْيَا إِلَّا مُقَلِّلًا لَهَا. وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ فَلَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا أُرِيدَ الْوَصْفُ الشَّامِلُ لِلسَّمَاوَاتِ وَهُوَ مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِ أَفْرَدْتَهُ كَالْأَرْضِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الْمُلْكِ: 16) {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (الْمُلْكِ: 17) فَأُفْرِدَ هُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ الشَّامِلَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَمَاءً مُعَيَّنَةً. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (يُونُسَ: 61) بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سَبَأٍ: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (الْآيَةَ: 3) فَإِنَّ قَبْلَهَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَعَةَ عِلْمِهِ، وَأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَاقْتَضَى السِّيَاقُ أَنْ يَذْكُرَ سَعَةَ عِلْمِهِ، وَتَعَلُّقَهُ بِمَعْلُومَاتِ مُلْكِهِ وَهُوَ السَّمَاوَاتُ كُلُّهَا وَالْأَرْضُ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سُورَةِ يُونُسَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَفْرَدَهَا إِرَادَةً لِلْجِنْسِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِفْرَادِ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الرِّزْقَ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ وَهُوَ سَمَاءٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يُونُسَ: 31) وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِمَا نَزَلَ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّحْمَنِ وَغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ سَبَأٍ {قُلِ اللَّهُ} (سَبَأٍ: 24) أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقَوْلِ لِيَعْلَمَ بِحَقِيقَتِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 3) فَإِنَّهَا جَاءَتْ مَجْمُوعَةً لِتَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِمَا فِي اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ فَالْمَعْنَى هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَذِكْرُ الْجَمْعِ هُنَا أَحْسَنُ، وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ قَالَ بِالْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ: {فِي السَّمَاوَاتِ} (الْأَنْعَامِ: 3) ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: {وَفِي الْأَرْضِ} (الْأَنْعَامِ: 3). وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَتْ مُفْرَدَةً فِي قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (الذَّارِيَاتِ: 23) أَرَادَ لِهَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ أَيْ رَبِّ كُلِّ مَا عَلَا وَسَفَلَ. وَجَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي قَوْلِهِ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الْحَدِيدِ: 1) فِي جَمِيعِ السُّوَرِ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ عَنْ تَسْبِيحِ سُكَّانِهَا عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَبَايُنِ مَرَاتِبِهِمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ جَمْعِ مَحَلِّهِمْ. وَنَظِيرُ هَذَا جَمْعُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 19). وَقَوْلِهِ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} (الْإِسْرَاءِ: 44) أَيْ تُسَبِّحُ بِذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا عَلَى اخْتِلَافِ عَدَدِهَا وَلِهَذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ بِقَوْلِهِ: (السَّبْعُ). وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَتْ مُفْرَدَةً فِي قَوْلِهِ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 22) فَالـ (رِّزْقُ) الْمَطَرُ، وَ (مَا تُوعَدُونَ) الْجَنَّةُ، وَكِلَاهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ لَا أَنَّهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَكَانَ لَفْظُ الْإِفْرَادِ أَلْيَقَ. وَجَاءَتْ مَجْمُوعَةً فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (النَّمْلِ: 65) لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ أَتَى بِهَا مَجْمُوعَةً، وَلَمْ يَجِئْ فِي سِيَاقِ الْإِخْبَارِ بِنُزُولِ الْمَاءِ مِنْهَا إِلَّا مُفْرَدَةٌ حَيْثُ وَقَعَتْ، لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ نُزُولَهُ مِنْ ذَاتِهَا بَلِ الْمُرَادُ الْوَصْفُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (يُونُسَ: 31) وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (سَبَأٍ: 24). قِيلَ: السِّيَاقُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُرْشِدٌ إِلَى الْفَرْقِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِي يُونُسَ سِيقَتْ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ، وَمَالِكُ أَسْمَاعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ بِأَنْ يُخْرِجَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، فَلَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِهَذَا كُلِّهِ حَسُنَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ فَاعِلُ هَذَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ! وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يُونُسَ: 31) أَيْ هُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَلَا يَجْحَدُونَهُ، وَالْمُخَاطَبُونَ الْمُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُزُولِ الرِّزْقِ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ السَّمَاءِ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا، وَلَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ وَلَا عَالِمِينَ بِنُزُولِ الرِّزْقِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَيْهِمْ، فَأُفْرِدَتْ لَفْظَةُ السَّمَاءِ هُنَا لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي سَبَأٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَظِمْ لَهَا ذِكْرُ إِقْرَارِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلِهَذَا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُجِيبُونَ، فَقَالَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (سَبَأٍ: 24) وَلَمْ يَقُلْ: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي يُنْزِلُ رِزْقَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَمَنَافِعِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَمِنْهَا ذِكْرُ الرِّيَاحِ فِي الْقُرْآنِ جَمْعًا وَمُفْرَدَةً، فَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الرَّحْمَةِ جَاءَتْ مَجْمُوعَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} (الرُّومِ: 48). {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الْحِجْرِ: 22). {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (الرُّومِ: 46). وَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْعَذَابِ أَتَتْ مُفْرَدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} (فُصِّلَتْ: 16). {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (الْأَحْزَابِ: 9) {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 6). {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (إِبْرَاهِيمَ: 12). {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذَّارِيَاتِ: 41). وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ رِيَاحَ الرَّحْمَةِ مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ، وَالْمَاهِيَّاتِ، وَالْمَنَافِعِ، وَإِذَا هَاجَتْ مِنْهَا رِيحٌ أُثِيرَ لَهَا مِنْ مُقَابِلِهَا مَا يَكْسِرُ سَوْرَتَهَا، فَيَنْشَأُ مِنْ بَيْنِهِمَا رِيحٌ لَطِيفَةٌ، تَنْفَعُ الْحَيَوَانَ، وَالنَّبَاتَ وَكَانَتْ فِي الرَّحْمَةِ رِيَاحًا، وَأَمَّا فِي الْعَذَابِ فَإِنَّهَا تَأْتِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَا مُعَارِضَ، وَلَا دَافِعَ، وَلِهَذَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِالْعَقِيمِ، فَقَالَ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذَّارِيَاتِ: 41) أَيْ تَعْقِمُ مَا مَرَّتْ بِهِ. وَقَدِ اطَّرَدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ لِحِكْمَةٍ. فَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} (يُونُسَ: 22) فَذَكَرَ رِيحَ الرَّحْمَةِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ لِوَجْهَيْنِ فِي الْقُرْآنِ. أَحَدُهُمَا: لَفْظِيٌّ، وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا يُقَابِلُهَا رِيحَ الْعَذَابِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا مُفْرَدَةً وَرُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِقْلَالًا نَحْوَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 54). الثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ تَمَامَ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَحْدَةِ الرِّيحِ لَا بِاخْتِلَافِهَا، فَإِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَسِيرُ إِلَّا بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ، وَتَصَادَمَتْ كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَالْغَرَقِ، فَالْمَطْلُوبُ هُنَاكَ رِيحٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فَوَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ عَاصِفَةً، بَلْ هِيَ رِيحٌ يُفْرَحُ بِطِيبِهَا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (الشُّورَى: 33) وَهَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: الرِّيحُ رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ، وَسُكُونُهَا شِدَّةٌ عَلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ. قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: وَكَذَا جَاءَ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيحَ} (فَاطِرٍ: 9) {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيحَ} (الْأَعْرَافِ: 57) وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يَنْشُرُ السَّحَابَ. وَمِنْ ذَلِكَ جَمْعُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فِي الْقُرْآنِ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 257). وَلِذَلِكَ جَمَعَ سَبِيلَ الْبَاطِلِ وَأَفْرَدَ سَبِيلَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الْأَنْعَامِ: 153). وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَطُرُقُهُ مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَمَّا كَانَتِ الظُّلَمُ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقِ الْبَاطِلِ، وَالنُّورُ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ، بَلْ هُمَا هُمَا، أَفْرَدَ النُّورَ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ؛ وَلِهَذَا وَحَّدَ الْوَلِيَّ، فَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (الْبَقَرَةِ: 257) لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، وَجَمَعَ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ لِتَعَدُّدِهِمْ، وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَهِيَ طُرُقُ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا، وَوَحَّدَ النُّورَ وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ. وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَجَمْعُهَا فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} (الْمَعَارِجِ: 37) وَجَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (الْأَعْرَافِ: 17) وَلَا سُؤَالَ فِيهِ إِنَّمَا السُّؤَالُ فِي جَمْعِ أَحَدِهِمَا وَإِفْرَادِ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} (النَّحْلِ: 48) قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ إِذَا وَحَّدَ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظُّلْمَةِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا، وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْيَمِينِ بِالْإِفْرَادِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْيَمِينُ جِهَةَ الْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ، وَأَهْلُهَا هُمُ النَّاجُونَ أُفْرِدَتْ، وَلَمَّا كَانَتِ الشِّمَالُ جِهَةَ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} (النَّحْلِ: 48). وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَمِينَ مَقْصُودٌ بِهِ الْجَمْعُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ، فَقَامَ الْعُمُومُ مَقَامَ الْجَمْعِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ فَعِيلٌ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمُبَالَغَةِ، فَسَدَّتْ مُبَالَغَتُهُ مَسَدَّ جَمْعِهِ، كَمَا سَدَّ مَسَدَّ الشَّبَهِ قَوْلُهُ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (ق: 17) قَالَهُ ابْنُ بَابْشَاذَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الظِّلَّ حِينَ يَنْشَأُ أَوَّلَ النَّهَارِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الطُّولِ، ثُمَّ يَبْدُو كَذَلِكَ ظِلًّا وَاحِدًا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ، وَإِذَا أَخَذَ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ فَإِنَّهُ يَتَزَايَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَالثَّانِي فِيهِ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَكُلَّمَا زَادَ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، فَصَارَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ظِلًّا فَحَسُنَ جَمْعُ الشَّمَائِلِ فِي مُقَابَلَةِ تَعَدُّدِ الظِّلَالِ. قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ بَابْشَاذَ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إِذَا كَانَا مُتَوَجِّهَيْنِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ. الرَّابِعُ: إِنَّ الْيَمِينَ يُجْمَعُ عَلَى أَيْمُنٍ وَأَيْمَانٍ، فَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ غَالِبًا، وَالشِّمَالَ يُجْمَعُ عَلَى شَمَائِلَ، وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَالْمَوْطِنُ مَوْطِنُ تَكْثِيرٍ، وَمُبَالَغَةٍ، فَعَدَلَ عَنْ جَمْعِ الْيَمِينِ إِلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى قَصْدِ التَّكْثِيرِ. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَأَمَّا إِفْرَادُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} (الْوَاقِعَةِ: 41) فَلِأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمَصِيرُهُمْ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ جِهَةُ أَهْلِ الشِّمَالِ مُسْتَقَرُّ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهَا مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الشِّمَالِ فَلَا يَحْسُنُ مَجِيئُهَا مَجْمُوعَةً. وَأَمَّا إِفْرَادُهُمَا فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (ق: 17) فَإِنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ قَعِيدًا وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ شِمَالَهُ، يُحْصِيَانِ عَلَيْهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ إِبْلِيسَ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (الْأَعْرَافِ: 17) فَإِنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ مِمَّا يُرِيدُ إِغْوَاءَهُمْ فَجُمِعَ لِمُقَابَلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمُقْتَضِي لِتَوْزِيعِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ. وَمِنْهَا حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهَا تَجِيءُ تَارَةً مَجْمُوعَةً وَتَارَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ، وَالنَّارُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا لَمَّا كَانَتِ الْجَنَّاتُ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ حَسُنَ جَمْعُهَا، وَإِفْرَادُهَا، وَلَمَّا كَانَتِ النَّارُ وَاحِدَةً أُفْرِدَتْ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الْوَاقِعَةِ: 18) وَلَمْ يَقُلْ: وَكُئُوسٍ، لِمَا سَنَذْكُرُهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّارُ تَعْذِيبًا، وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً نَاسَبَ جَمْعُ الرَّحْمَةِ وَإِفْرَادُ الْعَذَابِ، نَظِيرَ جَمْعِ الرِّيحِ فِي الرَّحْمَةِ، وَإِفْرَادِهَا فِي الْعَذَابِ. وَأَيْضًا فَالنَّارُ دَارُ حَبْسٍ وَالْغَاضِبُ يَجْمَعُ جَمَاعَةً مِنَ الْمَحْبُوسِينَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَنْكَدَ لِعَيْشِهِمْ، وَالْكِرِيمُ لَا يَتْرُكُ ضَيْفَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِلدَّوَامِ، إِلَّا فِي دَارٍ مُفْرَدَةٍ مُهَيَّأَةٍ لَهُ وَحْدَهُ، فَالنَّارُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ، وَلِكُلِّ مُطِيعٍ جَنَّةٌ، فَجَمَعَ الْجِنَانَ، وَلَمْ يَجْمَعِ النَّارَ. وَمِنْهَا جَمْعُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ، وَإِفْرَادُهَا فِي آخَرَ، فَحَيْثُ جُمِعَتْ فَلِجَمْعِ الدَّلَائِلِ، وَحَيْثُ وُحِّدَتْ فَلِوَحْدَانِيَّةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، لِمَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحِجْرِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الْآيَةَ: 75) ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} (الْآيَةَ: 77) فَلَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَحَّدَ الْآيَةَ، وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} (الْآيَةَ: 44). وَمِنْهَا مَجِيءُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً بِالْجَمْعِ، وَأُخْرَى بِالتَّثْنِيَةِ، وَأُخْرَى بِالْإِفْرَادِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (الْمَعَارِجِ: 40). وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرَّحْمَنِ: 17). وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (الْمُزَّمِّلِ: 9) فَحَيْثُ جَمَعَ كَانَ الْمُرَادُ أُفُقَيِ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ، وَحَيْثُ ثُنِّيَا كَانَ الْمُرَادُ مَشْرِقَيْ صُعُودِهَا، وَارْتِفَاعِهَا، فَإِنَّهَا تَبْتَدِئُ صَاعِدَةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى غَايَةِ أَوْجِهَا وَارْتِفَاعِهَا، فَهَذَا مَشْرِقُ صُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا، وَيَنْشَأُ مِنْهُ فَصْلَا الْخَرِيفِ، وَالشِّتَاءِ، فَجَعَلَ مَشْرِقَ صُعُودِهَا بِجُمْلَتِهِ مَشْرِقًا وَاحِدًا، وَمَشْرِقَ هُبُوطِهَا بِجُمْلَتِهِ مَشْرِقًا وَاحِدًا وَمُقَابِلَهُمَا مَغْرِبًا. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، مُتَحَرِّكَةٍ بِحَرَكَاتٍ مُتَدَارِكَةٍ لَا تَنْضَبِطُ لِخُطَّةٍ، وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ قِيَاسٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَكَةِ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَفْلَاكِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} (يس: 40) الْآيَةَ فَهَذَا وَجْهُ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالْإِفْرَادِ، وَالتَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ مَطْلَعٍ غَيْرِ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ بِالْأَمْسِ، وَكَذَلِكَ الْغُرُوبُ، فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ فِي تِلْكَ الْمَطَالِعِ، وَالْمَغَارِبِ، إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ، وَمَغْرِبِهِ عِنْدَ أَوَّلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، ثُمَّ تَأْخُذُ جَنُوبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي مَطْلَعٍ وَمَغْرِبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى آخَرَ مِثْلِهَا الَّذِي يُقَدِّرُ اللَّهُ لَهَا عِنْدَ أَوَّلِ فَصْلِ الشِّتَاءِ، ثُمَّ تَرْجِعُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ الرَّبِيعِيِّ وَمَغْرِبِهِ، وَهَكَذَا أَبَدًا. فَحَيْثُ أَفْرَدَ اللَّهُ لَهُ لَفْظَ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ أَرَادَ بِهِ الْجِهَةَ نَفْسَهَا الَّتِي تَشْتَمِلُ الْوَاحِدَةُ عَلَى تِلْكَ الْمَطَالِعِ جَمِيعِهَا، وَالْأُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَغَارِبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَعَدُّدِهَا وَحَيْثُ جِيءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَادِ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَدُّدِ تِلْكَ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ، وَهِيَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا، وَحَيْثُ كَانَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَالْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْجِهَةُ الَّتِي تَأْخُذُ مِنْهَا الشَّمْسُ مِنْ مَطْلَعِ الِاعْتِدَالِ إِلَى آخِرِ الْمَطَالِعِ، وَالْمَغَارِبِ الْجَنُوبِيَّةِ، وَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَشْرِقَانِ وَمَغْرِبَانِ. وَأَمَّا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ فَأَبْدَى فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَانِيَ لَطِيفَةً، فَقَالَ: أَمَّا مَا وَرَدَ مُثَنًّى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ، فَلِأَنَّ سِيَاقَ السُّورَةِ سِيَاقُ الْمُزْدَوِجَيْنِ. الثَّانِي: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا ذَكَرَ نَوْعَيِ الْإِيجَادِ، وَهُمَا الْخَلْقُ وَالتَّعْلِيمُ، ثُمَّ ذَكَرَ سِرَاجَيِ الْعَالَمِ وَمَظْهَرَ نُورِهِ، وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ النَّبَاتِ، فَإِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى سَاقٍ وَمِنْهُ مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُمَا النَّجْمُ وَالشَّجَرُ. ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ السَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَفَعَ هَذِهِ وَوَضَعَ هَذِهِ، وَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذِكْرَ الْمِيزَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعَدْلَ، وَالظُّلْمَ فِي الْمِيزَانِ، فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُمَا الْجَنُوبُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْمُكَلَّفِينَ وَهُمَا نَوْعُ الْإِنْسَانِ، وَالْجَانِّ، ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَحْرَ مِنَ الْمِلْحِ، وَالْعَذْبِ، فَلِهَذَا حَسُنَ تَثْنِيَةُ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِنَّمَا أُفْرِدَا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَهُ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، تَمَّمَهُ بِذِكْرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَظْهَرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَكَانَ وُرُودُهُمَا مُفْرَدَيْنِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَحْسَنَ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا جُمِعَا فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ فِي قَوْلِهِ {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (الْمَعَارِجِ: 40- 41) لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَسَمُفِي سَعَةِ مَشَارِقِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَإِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ، وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذْهَابُ هَؤُلَاءِ، وَالْإِتْيَانُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ ذَكَرَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ لِتَضَمُّنِهَا انْتِقَالَ الشَّمْسِ الَّتِي فِي أَحَدِ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَنَقْلَهُ سُبْحَانَهُ لَهَا، وَتَصْرِيفَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَيْفَ يُعْجِزُهُ أَنْ يُبَدِّلَ هَؤُلَاءِ، وَيَنْقُلَ إِلَى أَمْكِنَتِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْثِيرَ مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ سَبَبًا لِتَبَدُّلِ أَجْسَامِ النَّبَاتِ، وَأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْ بَرْدٍ إِلَى حَرٍّ، وَصَيْفٍ، وَشِتَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَكَيْفَ لَا يَقْدِرُ مَعَ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَبْدِيلِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ. وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (الْمَعَارِجِ: 41) فَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ سِوَى لَفْظِ الْجَمْعِ. وَأَمَّا جَمْعُهُمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (الصَّافَّاتِ: 5) لَمَّا جَاءَتْ مَعَ جُمْلَةِ الْمَرْبُوبَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَكَانَ الْأَحْسَنُ مَجِيئَهَا مَجْمُوعَةً لِتَنْتَظِمَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّعَدُّدِ. ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَشَارِقِ دُونَ الْمَغَارِبِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَشَارِقَ مَظْهَرُ الْأَنْوَارِ، وَأَسْبَابٌ لِانْتِشَارِ الْحَيَوَانِ، وَحَيَاتِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي مَعَاشِهِ، وَانْبِسَاطِهِ فَهُوَ إِنْشَاءُ شُهُودٍ، فَقَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّدِّ عَلَى مَبْدَأِ الْبَعْثِ، فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْمَشَارِقِ هَهُنَا فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْكَامِلَةَ، وَالْآيَاتِ الْفَاضِلَةَ الَّتِي تَرْقُصُ الْقُلُوبُ لَهَا طَرَبًا، وَتَسِيلُ الْأَفْهَامُ مِنْهَا رَهَبًا. وَحَيْثُ وَرَدَ الْبَارُّ مَجْمُوعًا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ قِيلَ: أَبْرَارٌ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الِانْفِطَارِ: 13)، وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: {بَرَرَةٍ} (عَبَسَ: 16) قَالَ الرَّاغِبُ: فَخَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ أَبْرَارٍ جَمْعِ بَرٍّ، وَأَبْرَارٍ جَمْعِ بَارٍّ، وَبَرٌّ أَبْلَغُ مَنْ بَارٍّ، كَمَا إِنَّ عَدْلًا أَبْلَغُ مِنْ عَادِلٍ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخَ يُطْلَقُ عَلَى أَخِي النَّسَبِ، وَأَخِي الصَّدَاقَةِ، وَالدِّينِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْجَمْعِ فِي الْقُرْآنِ فَيُقَالُ فِي النَّسَبِ: إِخْوَةٌ، وَفِي الصَّدَاقَةِ: إِخْوَانٌ، كَمَا قِيلَ: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الْحِجْرِ: 47). وَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (النِّسَاءِ: 11) قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ فَارِسٍ، وَحَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَصْدِقَاءِ وَالنَّسَبِ إِخْوَةٌ، وَإِخْوَانٌ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الْحُجُرَاتِ: 10) لَمْ يَعْنِ النَّسَبَ، وَقَالَ: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} (النُّورِ: 61). وَهَذَا فِي النَّسَبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (النُّورِ: 31) إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} (النُّورِ: 31) وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَاشْتِقَاقُ اللَّفْظَيْنِ مِنْ تَآخَيْتُ الشَّيْءَ، فَسَمَّى الْأَخَوَانِ أَخَوَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَأَخَّى مَا تَأَخَّاهُ الْآخَرُ أَيْ يَقْصِدُهُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَيُقَالُ: أُخُوَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَمِنْهَا إِفْرَادُ الْعَمِّ، وَالْخَالِ. وَمِنْهَا إِفْرَادُ السَّمْعِ وَجَمْعُ الْبَصَرِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 7) لِأَنَّ السَّمْعَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرِيَّةُ فَأُفْرِدَ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الْجَارِحَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ قُلْتَ: أَبْصَرَ إِبْصَارًا وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَعْمَلَ الْحَاسَّةَ جَمَعَهُ بِقَوْلِهِ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 19) وَقَالَ: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} (فُصِّلَتْ: 5). وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ السَّمْعِ الْأَصْوَاتُ وَهِيَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمُتَعَلِّقَ الْبَصَرِ الْأَلْوَانُ، وَالْأَكْوَانُ، وَهِيَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، فَأَشَارَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مُتَعَلِّقِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَصَرُ الَّذِي هُوَ نُورُ الْعَيْنِ مَعْنًى يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُقْلَتَيْنِ، وَلَا كَذَلِكَ السَّمْعُ، فَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَلِهَذَا إِذَا غَطَّيْتَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ يَنْتَقِلُ نُورُهَا إِلَى الْأُخْرَى بِخِلَافِ السَّمْعِ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ بِنُقْصَانِ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} (الْبَقَرَةِ: 19) أَجْرَى الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ عَلَى أَصْلِهِمَا مَصْدَرَيْنِ فَأَفْرَدَهُمَا دُونَ الظُّلُمَاتِ، يُقَالُ: رَعَدَتِ السَّمَاءُ رَعْدًا، وَبَرَقَتْ بَرْقًا، وَالْحَقُّ إِنَّ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ مَصْدَرَانِ فَأَفْرَدَهُمَا، أَوْ هُمَا مُسَبَّبَانِ عَنْ سَبَبٍ لَا يَخْتَلِفُ، بِخِلَافِ الظُّلْمَةِ فَإِنَّ أَسْبَابَهَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَمِنْهَا حَيْثُ ذِكْرُ الْكَأْسِ فِي الْقُرْآنِ كَانَ مُفْرَدًا، وَلَمْ يُجْمَعْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ} (الْوَاقِعَةِ: 18) وَلَمْ يَقُلْ: وَكُئُوسٍ، لِأَنَّ الْكَأْسَ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرَابٌ فَلَيْسَ بِكَأْسٍ، بَلْ قَدَحٌ. وَالْقَدَحُ إِذَا جُعِلَ فِيهِ الشَّرَابُ فَالِاعْتِبَارُ لِلشَّرَابِ لَا لِإِنَائِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَشْرُوبُ، وَالظَّرْفُ اتُّخِذَ لِلْآلَةِ، وَلَوْلَا الشَّرَابُ، وَالْحَاجَةُ إِلَى شُرْبِهِ لَمَا اتُّخِذَ، وَالْقَدَحُ مَصْنُوعٌ وَالشَّرَابُ جِنْسٌ، فَلَوْ قَالَ: كُئُوسٌ، لَكَانَ اعْتَبَرَ حَالَ الْقَدَحِ، وَالْقَدَحُ تَبَعٌ، وَلَمَّا لَمْ يَجْمَعِ اعْتَبَرَ حَالَ الشَّرَابِ، وَهُوَ أَصْلٌ، وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى، فَانْظُرْ كَيْفَ اخْتَارَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُصَحَاءِ قَالُوا: دَارَتِ الْكُئُوسُ، وَمَالَ الرُّءُوسُ، فَدَعَاهُمُ السَّجْعُ إِلَى اخْتِيَارِ غَيْرِ الْأَحْسَنِ، فَلَمْ يَدْخُلْ كَلَامُهُمْ فِي حَدِّ الْفَصَاحَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكَأْسَ، وَاعْتَبَرَ الْأَصْلَ قَالَ {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الْوَاقِعَةِ: 18) فَذَكَرَ الشَّرَابَ. وَحَيْثُ ذَكَرَ الْمَصْنُوعَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرَابِ جَمَعَ، فَقَالَ: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} (الْوَاقِعَةِ: 18) ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَقَالَ: {مِنْ فِضَّةٍ} (الْإِنْسَانِ: 15). وَمِنْهَا إِفْرَادُ الصَّدِيقِ، وَجَمْعُ الشَّافِعِينَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (الشُّعَرَاءِ: 100- 101) وَحِكْمَتُهُ كَثْرَةُ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَادَةِ، وَقِلَّةُ الصَّدِيقِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا امْتُحِنَ بِإِرْهَاقِ ظَالِمٍ، نَهَضَتْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ بِشَفَاعَتِهِ رَحْمَةً لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بِأَكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ، وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ. وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّدِيقِ، فَقَالَ اسْمٌ لَا مَعْنَى لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الْجَمْعَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ: إِذَا قُلْتَ: عَبِيدٌ وَنَخِيلٌ فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ، وَالْكَبِيرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} (الرَّعْدِ: 4) وَقَالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فُصِّلَتْ: 46) وَحِينَ ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْهُمْ قَالَ {الْعِبَادِ} (يس: 30)، وَكَذَلِكَ قَالَ حِينَ ذَكَرَ التَّمْرَ مِنَ النَّخِيلِ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} (ق: 10)، وَ {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الْقَمَرِ: 10)، فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ، وَاخْتِيَارِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا فِي مَذْهَبِ اللُّغَةِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا هَذَا التَّفْرِيقَ، وَلَا نَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الدَّقِيقِ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْجَمْعَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (الْبَقَرَةِ: 266) إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} (الْبَقَرَةِ: 266). وَقَالَ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} (النِّسَاءِ: 9). فَأَمَّا وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَمْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (النُّورِ: 31) إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} فَخَالَفَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي الْأَبْنَاءِ. وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} (الْأَحْزَابِ: 55). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} (الْبَقَرَةِ: 261) وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ} (يُوسُفَ: 43)، فَالْمَعْدُودُ وَاحِدٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ تَفْسِيرُهُ، فَالْأَوَّلُ جَاءَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَالثَّانِي بِجَمْعِ الْقِلَّةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ سِيقَتْ فِي بَيَانِ الْمُضَاعَفَةِ وَالزِّيَادَةِ، فَنَاسَبَ صِيغَةَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَآيَةَ يُوسُفَ لُحِظَ فِيهَا الْمَرْئِيُّ، وَهُوَ قَلِيلٌ، فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، لِيُصَدِّقَ اللَّفْظُ الْمَعْنَى
جَمْعُ التَّكْسِيرِ يَشْمَلُ أُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَمْعُ السَّلَامَةِ يَخْتَصُّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بِأَوَّلِ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِهِمْ فَبِحُكْمِ الْإِلْحَاقِ، وَالتَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يُوسُفَ: 4)، وَعَلَى هَذَا فَأَشْرَفُ الْجَمْعَيْنِ جَمْعُ السَّلَامَةِ، وَمَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ مِنْ مُذَكَّرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ قَدْ يُتْبَعُ بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَةِ مُؤَنَّثَةً بِالتَّاءِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْخَبَرِ، تَقُولُ: حُقُوقٌ مَعْقُودَةٌ، وَأَعْمَالٌ مَحْسُوبَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (الْغَاشِيَةِ: 13- 16) وَقَالَ: {أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (الْبَقَرَةِ: 80). وَقَدْ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي غَيْرِ الْمُفْرَدِ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ إِلَّا أَنَّهُ فَصِيحٌ، وَمِنْهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (الْبَقَرَةِ: 203)
نُونُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي جَمْعِ الْعَاقِلَاتِ سَوَاءٌ الْقِلَّةُ كَالْهِنْدَاتِ، أَوِ الْكَثْرَةُ كَالْهُنُودِ، فَتَقُولُ: الْهِنْدَاتُ يَقُمْنَ، وَالْهُنُودُ يَقُمْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} (الْبَقَرَةِ: 233) {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (الْبَقَرَةِ: 228) هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِفْرَادِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 15) وَلَمْ يَقُلْ: مُطَهَّرَاتٌ. وَأَمَّا جَمْعُ غَيْرِ الْعَاقِلِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: إِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَتَيْتَ بِضَمِيرِهِ مُفْرَدًا، فَقُلْتَ: الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ، وَإِنْ كَانَ لِلْقِلَّةِ، أَتَتْ جَمْعًا. وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 36) إِلَى أَنْ قَالَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التَّوْبَةِ: 36) فَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا يَعُودُ إِلَى الِاثْنَيْ عَشْرَ، وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التَّوْبَةِ: 36) فَهَذَا عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السِّرُّ فِي هَذَا حَيْثُ كَانَ يُؤْتَى مَعَ الْكَثْرَةِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ، وَمَعَ الْقِلَّةِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ؟ وَهَلَّا عَكَسَ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ الْفَرَّاءُ لَهُ سِرًّا لَطِيفًا فَقَالَ: لَمَّا كَانَ الْمُمَيَّزُ مَعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَاحِدًا، وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ وَاحِدًا، وَهُوَ الدِّرْهَمُ، وَأَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فَمُمَيَّزُهُ جَمْعٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَهَكَذَا إِلَى الْعَشَرَةِ تَمْيِيزُهُ جَمْعٌ، فَلِهَذَا أَعَادَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ جَمْعًا وَإِفْرَادًا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لُقْمَانَ: 27) فَأَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ وَلَمْ يَقُلْ: بُحُورٌ لِتُنَاسِبَ نَظْمَ الْكَلَامِ، وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ فِي إِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (الْبَقَرَةِ: 228) فَأَضَافَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْقُرُوءِ، وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ، قَالَ الْحَرِيرِيُّ: الْمَعْنَى لِتَتَرَبَّصَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، فَلَمَّا أَسْنَدَ إِلَى جَمَاعَتِهِنَّ ثَلَاثَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةٌ أَتَى بِلَفْظِ قُرُوءٍ لِتَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُرَادَةِ وَالْمَعْنَى الْمَلْمُوحِ
وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي بَيَانِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُجَلَّدَيْنِ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ لِلْعُدُولِ إِلَى الضَّمَائِرِ أَسْبَابٌ: مِنْهَا- وَهُوَ أَصْلُ وَصْفِهَا- لِلِاخْتِصَارِ وَلِهَذَا قَامَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 35) مَقَامَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ كَلِمَةً لَوْ أَتَى بِهَا مُظْهَرَةً. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النُّورِ: 31) نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيٍّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمَائِرَ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا. وَقَدْ قِيلَ: فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ اسْمًا، مَا بَيْنَ ضَمِيرٍ وَظَاهِرٍ. وَمِنْهَا الْفَخَامَةُ بِشَأْنِ صَاحِبِهِ، حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (الْقَدْرِ: 1) يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} (الْبَقَرَةِ: 97) وَمِنْهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَمِنْهَا التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الْبَقَرَةِ: 168) يَعْنِي الشَّيْطَانَ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 27). {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} (الِانْشِقَاقِ: 14). الثَّانِي: الْأَصْلُ أَنْ يُقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، بِدَلِيلِ الْأَكْثَرِيَّةِ، وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (الْبَقَرَةِ: 282) وَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ} (الْأَنْعَامِ: 112) فَأَخَرَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ. وَقَدْ قَسَّمَ النَّحْوِيُّونَ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ إِلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا وَهُوَ الْأَصْلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ نَحْوُ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121). {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} (هُودٍ: 42). {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النُّورِ: 40). وَقَوْلِهِ: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ} (الْأَحْقَافِ: 29). الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مُؤَخَّرٍ فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمٍ فِي النِّيَّةِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} (طه: 67). وَقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (الْقَصَصِ: 78). وَقَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرَّحْمَنِ: 39). الثَّالِثُ: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى صَاحِبِ الضَّمِيرِ بِالتَّضَمُّنِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (الْمَائِدَةِ: 8) فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اعْدِلُوا. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الْأَنْعَامِ: 121) فَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ لِلْأَكْلِ لِدَلَالَةِ تَأْكُلُوا. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (النِّسَاءِ: 8) إِلَى قَوْلِهِ {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (النِّسَاءِ: 8) أَيِ الْمَقْسُومُ، لِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ، وَالْأَقْرَبُونَ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَإِضْمَارِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (الْوَاقِعَةِ: 83) {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} (الْقِيَامَةِ: 26) أَضْمَرَ النَّفْسَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْحُلْقُومِ، وَالتَّرَاقِي عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 22) يَعْنِي الشَّمْسَ. وَقِيلَ: بَلْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَهُوَ الْعَشِيُّ؛ لِأَنَّ الْعَشِيَّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَالْمَعْنَى إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ. وَقِيلَ: فَاعِلُ تَوَارَتْ ضَمِيرُ الصَّافِنَاتِ. ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْفُتُوحَاتِ، وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ اتِّفَاقَ الضَّمَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَخَالُفِهَا، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الثَّامِنِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (الْعَادِيَاتِ: 4- 5) قِيلَ: الضَّمِيرُ لِمَكَانِ " الْإِغَارَةِ " بِدَلَالَةِ " وَالْعَادِيَاتِ " عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَكَانٍ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (الْقَدْرِ: 1) أُضْمِرَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (الْبَقَرَةِ: 178) فَـ " عُفِيَ " يَسْتَلْزِمُ عَافِيًا إِذْ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَأُعِيدَ الْهَاءُ مِنْ (إِلَيْهِ) عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُضْمَرُ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَإِضْمَارِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (فَاطِرٍ: 45) وَقَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 26). وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ الضَّمِيرَ لِلدُّنْيَا، وَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ لَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا، وَالْبَعْضُ يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 67) يَعْنِي الْقُرْآنَ، أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} (يُوسُفَ: 26). {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} (الْقَصَصِ: 26). {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (النِّسَاءِ: 11) الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11) عُلِمَ أَنَّ ثَمَّ مَيِّتًا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (النِّسَاءِ: 8) ثُمَّ قَالَ: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (النِّسَاءِ: 8) أَيْ مِنَ الْمَوْرُوثِ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ مَا سَبَقَ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا} (الْجَاثِيَةِ: 9)، وَلَمْ يَقُلْ: " اتَّخَذَهُ " رَدًّا لِلضَّمِيرِ إِلَى " شَيْئًا " لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بَلْ كَانَ إِذَا سَمِعَ بَعْضَ آيَاتِ اللَّهِ اسْتَهْزَأَ بِجَمِيعِهَا. وَقِيلَ: شَيْئًا بِمَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ آيَةٌ. وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الصَّاحِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِاسْتِحْضَارِهِ بِالْمَذْكُورِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَهُ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} (يس: 8) فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْأَيْدِي لِأَنَّهَا تُصَاحِبُ الْأَعْنَاقَ فِي الْأَغْلَالِ، وَأَغْنَى ذِكْرُ الْأَغْلَالِ عَنْ ذِكْرِهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} (فَاطِرٍ: 11) أَيْ مِنْ عُمُرِ غَيْرِ الْمُعَمَّرِ فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ الْمُعَمَّرِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُعَمَّرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِتَقَابُلِهِمَا فَكَانَ يُصَاحِبُهُ الِاسْتِحْضَارُ الذِّهْنِيُّ. وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} (النِّسَاءِ: 11) بَعْدَ قَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11). وَقَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (الْبَقَرَةِ: 28) فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ مَعَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرُّجْعَى، وَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ خِلَافٌ أُصُولِيٌّ، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 34) فَإِنَّ الْفِضَّةَ بَعْضُ الْمَذْكُورِ فَأَغْنَى ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْجَمِيعِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} (التَّوْبَةِ: 34) أَصْنَافُ مَا يُكْنَزُ. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ دُونَ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} (فَاطِرٍ: 11) وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ. وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} (السَّجْدَةِ: 23) عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَمِمَّا يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (الْبَقَرَةِ: 228) وَيُسْتَرَاحُ مِنْ إِلْزَامِ تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النِّسَاءِ: 176) وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظٌ مُثَنًّى يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ كَانَتَا، قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا يُثَنَّى لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَثَنَّى الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَيْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا فِي " مَنْ " حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يُفِيدُ الْعَدَدُ مُجَرَّدًا مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. السَّادِسُ: أَلَّا يَعُودَ عَلَى مَذْكُورٍ، وَلَا مَعْلُومٍ بِالسِّيَاقِ، أَوْ غَيْرِهِ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْهُولُ الَّذِي يَلْزَمُهُ التَّفْسِيرُ بِجُمْلَةٍ، أَوْ مُفْرَدٍ، فَالْمُفْرَدُ فِي نِعْمَ، وَبِئْسَ، وَالْجُمْلَةُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْقِصَّةِ، نَحْوُ: هُوَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) أَيِ الشَّأْنُ اللَّهُ أَحَدٌ. وَقَوْلِهِ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 38). وَقَوْلِهِ: {أَنَا اللَّهُ} (طه: 14). وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} (الْحَجِّ: 46). وَقَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا إِذَا كَانَ عَائِدُهُ مُؤَنَّثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (الْأَنْعَامِ: 29) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} (طه: 74) فَذَكَرَ الضَّمِيرَ مَعَ اشْتِمَالِ الْجُمْلَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْفَضْلَةِ، إِذِ الْمَعْنَى مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا يَجْزِهِ جَهَنَّمَ. (تَنْبِيهٌ)، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْفَصْلَ يَكُونُ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ، وَالْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُخَاطَبِ، قَالَ تَعَالَى: {هَذَا هُوَ الْحَقَّ} (الْأَنْفَالِ: 32) {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} (الْمَائِدَةِ: 17) {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا} (الْكَهْفِ: 39) وَيَكُونُ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا غَائِبًا، وَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ وَمَنْصُوبَهُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} (الْجِنِّ: 19). الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (الْبَقَرَةِ: 25) فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي " بِهِ " يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَظِيرُهُ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (النِّسَاءِ: 135) أَيْ بِجِنْسِ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} عَلَى الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمُتَكَلَّمِ بِهِ لَوَحَّدَهُ. الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَدْ يُذْكَرُ شَيْئَانِ وَيُعَادُ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ الْغَالِبُ كَوْنُهُ لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 45) فَأَعَادَ الضَّمِيرَ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} (يُونُسَ: 5) وَالْأَصْلُ " قَدَّرَهُمَا " لَكِنِ اكْتَفَى بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ لِلْقَمَرِ لِوَجْهَيْنِ: قُرْبِهِ مِنَ الضَّمِيرِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الشُّهُورُ، وَيَكُونُ بِهِ حِسَابُهَا. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 34) أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْفِضَّةِ لِقُرْبِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمَكْنُوزِ وَهُوَ يَشْمَلُهَا. وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (التَّوْبَةِ: 62) أَرَادَ يُرْضُوهُمَا، فَخَصَّ الرَّسُولَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهُ هُوَ دَاعِي الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُخَاطِبُ لَهُمْ شِفَاهًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَذُكِرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ تَعْظِيمًا، وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ الرَّسُولِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} (النُّورِ: 48) فَذُكِرَ اللَّهُ تَعْظِيمًا، وَالْمَعْنَى تَامٌّ بِذِكْرِ رَسُولِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} (الْأَنْفَالِ: 20). وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} (النِّسَاءِ: 112) أَعَادَ الضَّمِيرَ لِلْإِثْمِ لِقُرْبِهِ، وَيَجُوزُ رُجُوعُهُ إِلَى الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى لَفْظِهَا، بِتَأْوِيلِ: وَمَنْ يَكْسِبُ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَمْ يُؤْثَرُ الْأَوَّلُ بِالْعَائِدِ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (الْجُمُعَةِ: 11) مَعْنَاهُ انْفَضُّوا إِلَيْهِمَا، فَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالْعَائِدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ الِانْفِضَاضِ عَنْهُ وَهُوَ يَخْطُبُ. قَالَ: فَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَإِنَّهَا تَارَةً تُؤْثِرُ الثَّانِيَ بِالْعَائِدِ، وَتَارَةً الْأَوَّلَ، فَتَقُولُ: إِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلَةٌ، وَإِنَّ عَبْدَكَ وَجَارِيَتَكَ عَاقِلٌ. قُلْتُ: لَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (الْجُمُعَةِ: 11). وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} (النِّسَاءِ: 118) لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ لَفْظِهِ، أَوْ هِيَ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَمَنْ جَعَلَهُ نَظِيرَ هَذَا فَلَمْ يُصِبْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى التِّجَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةً، لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا أَكْثَرُ مِنَ اللَّهْوِ، وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَصْلًا، وَاللَّهْوُ تَبَعًا، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ بِالطَّبْلِ لِقُدُومِهَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَأَعَادَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذَكُّرِ. الْخَامِسُ: قَدْ يَذْكُرُ شَيْئَانِ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 78) يَعْنِي حُكْمَ سُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ. وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (النُّورِ: 26) فَأَوْقَعَ أُولَئِكَ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ. الْبَحْثُ السَّادِسُ: قَدْ يُثَنَّى الضَّمِيرُ، وَ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرَّحْمَنِ: 22) قَالُوا: وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَقَوْلِهِ: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} (الْكَهْفِ: 61) وَإِنَّمَا نَسِيَهُ الْفَتَى. السَّابِعُ: قَدْ يَجِيءُ الضَّمِيرُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَهُوَ لِغَيْرِهِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 12) يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 13) فَهَذَا لِوَلَدِهِ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 101) قِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ حُذَافَةَ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: حُذَافَةُ، فَكَانَ نَسَبُهُ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (الْمَائِدَةِ: 101) وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْحَجِّ حِينَ قَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} (الْمَائِدَةِ: 101) يُرِيدُ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ بِكُمْ إِلَى عِلْمِهَا حَاجَةٌ تَبْدُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 102) أَيْ طَلَبَهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا طَلَبٌ، فَلَيْسَتِ الْهَاءُ رَاجِعَةً لِأَشْيَاءَ مُتَقَدِّمَةٍ، بَلْ لِأَشْيَاءَ أُخَرَ مَفْهُومَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (الْمَائِدَةِ: 101) وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى أَشْيَاءَ مَذْكُورَةٍ لَتَعَدَّى إِلَيْهَا بِـ (عَنْ) لَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الْحَجِّ: 78) يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ) عَائِدٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَفِي هَذَا} رَاجِعٌ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا هُوَ قَالَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْنِي {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الْحَجِّ: 78) يَعْنِي فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَالْمَعْنَى جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَهُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ لِتَكُونُوا، أَيْ سَمَّاكُمْ وَجَعَلَكُمْ مُسْلِمِينَ لِتَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الْحَجِّ: 78) مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ اتَّبِعُوا، لِأَنَّ هَذَا النَّاصِبَ نَصَبَهُ قَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الْحَجِّ: 78) لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَفِي سُورَةِ " يس " مَوْضِعَانِ تَوَهَّمَ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يس: 37) فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي " هُمْ " رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهَارَ لَيْسَ مُظْلِمًا، وَالثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَانِ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ، إِنَّمَا الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ، وَ (مُظْلِمُونَ) دَاخِلُو الظَّلَامِ، كَقَوْلِكَ: " قَوْمٌ مُصْبِحُونَ "، وَ " مُمْسُونَ " إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (يس: 81) يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَاهُ مِثْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا إِعَادَةَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى إِنْكَارِهِمْ إِعَادَتَهُمَا بِابْتِدَائِهِمَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا إِعَادَةَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ، لِيَتَحَقَّقَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: لِتَبَيُّنِ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (الْأَحْقَافِ: 33). فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَثْبَتَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ مِثْلِهِمْ لَا عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِمْ. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِمِثْلِهِمْ " هُمْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّورَى: 11) وَقَوْلِهِمْ: مِثْلِي لَا يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ أَنَا، وَبِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فَاطِرٍ: 10) قَدْ يُتَوَهَّمُ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَنُصِبَ الْعَمَلُ كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرًا يَضْرِبُهُ، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالْهَاءُ لِلْكَلِمِ. قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي " يَرْفَعُهُ " عَائِدٌ لِلْكَلِمِ، لِأَنَّ الْكَلِمَ جَمْعُ كَلِمَةٍ، قَالَ: كَلِمٌ كَالشَّجَرِ فِي أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِالْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} (يس: 80) وَكَذَلِكَ وُصِفَ الْكَلِمُ بِالطَّيِّبِ، وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي " يَرْفَعُهُ " عَائِدًا إِلَى الْعَمَلِ لَكَانَ مَنْصُوبًا فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَمَا جَاءَ التَّنْزِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ. {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الْإِنْسَانِ: 31). وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي " يَرْفَعُهُ " عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلِ، فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى قَوْلِهِ: " يَصْعَدُ "، وَيُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ نَاصِبٌ، كَمَا أُضْمِرَتْ لِقَوْلِهِ: (وَالظَّالِمِينَ) وَالْمَعْنَى: يَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَمَعْنَى " يُرْفَعُ الْعَمَلُ " أَنَّهُ لَا يُحْبَطُ ثَوَابُهُ فَيُرْفَعُ لِصَاحِبِهِ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَالْعَمَلِ السَّيِّئِ الَّذِي يَقَعُ مَعَهُ الْإِحْبَاطُ فَلَا يُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. الثَّامِنُ: إِذَا اجْتَمَعَ ضَمَائِرُ فَحَيْثُ أَمْكَنَ عَوْدُهَا لِوَاحِدٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهَا لِمُخْتَلِفٍ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ وَلِهَذَا لَمَّا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} إِلَخْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} (طه: 39) لِلتَّابُوتِ وَمَا بَعْدَهُ، وَمَا قَبْلَهُ لِمُوسَى عَابَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَعَلَهُ تَنَافُرًا، وَمُخْرِجًا لِلْقُرْآنِ عَنْ إِعْجَازِهِ، فَقَالَ: وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى، وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ، وَبَعْضِهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ تَنَافُرِ النَّظْمِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَقْذُوفُ فِي الْبَحْرِ هُوَ التَّابُوتُ، وَكَذَلِكَ الْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ. قُلْتُ: مَا ضَرَّكَ لَوْ جَعَلْتَ الْمَقْذُوفَ وَالْمُلْقَى إِلَى السَّاحِلِ هُوَ مُوسَى فِي جَوْفِ التَّابُوتِ؛ حَتَّى لَا تُفَرِّقَ الضَّمَائِرَ فَيَتَنَافَرَ عَلَيْكَ النَّظْمُ الَّذِي هُوَ قِوَامُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ. انْتَهَى وَلَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} (الْفَتْحِ: 9) الضَّمَائِرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُرَادُ بِتَعْزِيزِ اللَّهِ تَعْزِيزُ دِينِهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ فَرَّقَ الضَّمَائِرَ فَقَدْ أَبْعَدَ. أَيْ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا لِلرَّسُولِ إِلَّا الْأَخِيرَ، لَكِنْ قَدْ يَقْتَضِي الْمَعْنَى التَّخَالُفَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الْكَهْفِ: 22) الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي فِيهِمْ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مِنْهُمْ لِلْيَهُودِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ، وَالْمُبَرِّدُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 59) بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} (النَّحْلِ: 100). وَقَوْلِهِ: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} (سَبَأٍ: 25). وَقَوْلِهِ: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (الرُّومِ: 9) أَيْ عَمَرُوا الْأَرْضَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ قُرَيْشٍ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَتْهَا قُرَيْشٌ. وَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} (التَّوْبَةِ: 40) الْآيَةُ فِيهَا اثْنَا عَشَرَ ضَمِيرًا، خَمْسَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ.... وَالثَّالِثُ ضَمِيرٌ (فِي الْغَارِ) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ، فَيَحْتَمِلُ ضَمِيرًا، وَالرَّابِعُ (صَاحِبُهُ)، وَالْخَامِسُ (لَا تَحْزَنْ)، وَالسَّادِسُ (مَعَنَا)، وَالسَّابِعُ فِي (عَلَيْهِ) عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ، لِأَنَّ السَّكِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ، إِذْ كَانَ خُرُوجُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} (التَّوْبَةِ: 26) فَالسَّكِينَةُ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى نَفْسِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا مِنْ أَجْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (يُوسُفَ: 42) قِيلَ: الضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ عَلَى يُوسُفَ، أَيْ فَأَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: يَعُودَانِ عَلَى الْفَتَى الَّذِي ظَنَّ يُوسُفُ أَنَّهُ نَاجٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّ يُوسُفَ قَالَ لِلنَّاجِي: ذَكِّرِ الْمَلِكَ بِأَمْرِي. وَرَجَّحَ ابْنُ السِّيدِ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يُوسُفَ: 45) أَيْ بَعْدَ حِينٍ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ بَعْدَ " أَمَهٍ " بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ نِسْيَانٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ تَذَكُّرَ الْفَتَى بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَالذِّكْرُ عَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَيَكُونَ مَصْدَرَ ذَكَرْتُهُ ذِكْرًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، فَأَضَافَ الذِّكْرَ إِلَى الرَّبِّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ يُوسُفَ، وَجَازَ ذَلِكَ لِمُلَاءَمَتِهِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ يُخَالَفُ بَيْنَ الضَّمَائِرِ حَذَرًا مِنَ التَّنَافُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التَّوْبَةِ: 36) كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التَّوْبَةِ: 36) لَمَّا أَعَادَهُ عَلَى " أَرْبَعَةٍ " وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ عَوْدَهُ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا، بَلْ هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَيُبِيحَ الظُّلْمَ فِي الثَّمَانِيَةِ بَلْ تَرْكُ الظُّلْمِ فِي الْكُلِّ وَاجِبٌ. قُلْتُ: لَكِنْ يَجُوزُ التَّنْصِيصُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْحُرُمِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ قَبِيحٌ مُطْلَقًا، وَفِيهِنَّ أَقْبَحُ فَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. التَّاسِعُ قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ الضَّمِيرِ أُمُورٌ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ: مِنْهَا الْإِشَارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الْإِسْرَاءِ: 36). وَمِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النَّازِعَاتِ: 37 إِلَى 41). وَقَوْلِهِ: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} (إِبْرَاهِيمَ: 44) أَيْ رُسُلَكَ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يُوسُفَ: 90) أَصْلُ الْكَلَامِ " أَجْرَهُ وَصَبْرَهُ "، وَلَمَّا كَانَ الْمُحْسِنُونَ جِنْسًا، وَ {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} وَاحِدٌ تَحْتَهُ أَغْنَى عُمُومُهُ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (ص: 50) وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْأَبْوَابَ بَدَلٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي (مُفَتَّحَةً). وَهَذَا تَكَلُّفٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ " الْأَبْوَابُ " مُرْتَفِعَةً بِ (مُفَتَّحَةً) الْمَذْكُورِ، أَوْ بِمِثْلِهِ مُقَدَّرًا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مُفَتَّحَةً صَالِحٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَبْوَابِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْدَالٍ أَيْضًا. وَمِنْهَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِضْمَارَ فَيُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّأْكِيدِ. الْعَاشِرُ: الْأَصْلُ فِي الضَّمِيرِ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ وَلَنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ، وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا ضَمِيرٌ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، نَحْوَ: لَقِيتُ غُلَامَ زَيْدٍ فَأَكْرَمْتُهُ، فَالضَّمِيرُ لِلْغُلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إِبْرَاهِيمَ: 34). وَعِنْدَ التَّعَارُضِ رَاعَى ابْنُ حَزْمٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ فَقَالَا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الْأَنْعَامِ: 45) يَعُودُ عَلَى الْخِنْزِيرِ دُونَ لَحْمِهِ لِقُرْبِهِ، وَقَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ مُطَّرِدٍ، فَقَدْ يَعُودُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النَّحْلِ: 114). وَكَذَا الصِّفَةُ فَإِنَّهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} (يُوسُفَ: 43). وَلِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: وَكَذَا عَوْدُهُ لِلْأَقْرَبِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، فَقَدْ يَخْرُجُ عَنِ الْأَصْلِ لِدَلِيلٍ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلَانِ تَسَاقَطَا، وَنُظِرَ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: عَوْدُهُ إِلَى مَا فِيهِ الْعَمَلُ بِهِمَا أَوْلَى كَمَا يَقُولُهُ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَوْجُودٌ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 4) فَأَخْبَرَ بِـ " خَاضِعِينَ " عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَلَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْمُضَافِ لَقَالَ: خَاضِعَةً، أَوْ خُضَّعًا، أَوْ خَوَاضِعَ، وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ خُضُوعَ أَصْحَابِ الْأَعْنَاقِ بِخُضُوعِ أَعْنَاقِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (غَافِرٍ: 37) فَقَدْ عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُوسَى، وَالظَّنُّ بِفِرْعَوْنَ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى نَفْسَهُ قَدْ غَلِطَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ (إِلَهِ مُوسَى) اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا. الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا عُطِفَ بِـ (أَوْ) وَجَبَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ، ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ نَحْوَ: إِنْ جَاءَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَأَكْرِمْهُ، لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (النِّسَاءِ: 135) فَقِيلَ: إِنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى إِنْ " يَكُنِ الْخَصْمَانِ " فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْنَى. وَقِيلَ: لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلْعَطْفِ، وَعَكْسُ هَذَا إِذَا عُطِفَ بِالْوَاوِ وَجَبَ تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (التَّوْبَةِ: 62) فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (النَّازِعَاتِ: 46) أَيْ وَضُحَى يَوْمِهَا فَدَلَّ بِالْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: وَإِنَّمَا أَضَافَ الضُّحَى إِلَى نَهَارِ الْعَشِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لَمْ يَحْسُنِ التَّرْدِيدُ بِـ (أَوْ) لِأَنَّ عَشِيَّةَ كُلِّ نَهَارٍ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ، وَضُحَاهَا مِقْدَارُ رُبْعِهِ مَثَلًا، وَهُوَ مِقْدَارُ نِصْفِ الْعَشِيَّةِ فَلَمَّا أَضَافَهُ إِلَى نَهَارِهَا عُلِمَ تَقَارُبُهُمَا فَحَسُنَ التَّرْدِيدُ، لِإِفَادَتِهِ التَّرْدِيدَ بَيْنَ اللُّبْثِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَوْ أَطْلَقَهُ لَجَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَشِيَّةُ نَهَارٍ قَصِيرٍ، وَضُحَى يَوْمٍ طَوِيلٍ فَتَسَاوَى ذَلِكَ الضُّحَى بِالْعَشِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ التَّرْدِيدُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} (الْأَحْقَافِ: 35) وَهُوَ الْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الزَّمَانِ، وَبَيْنَ الضُّحَى وَالْعَشِيَّةِ، وَكَيْفَ حَسُنَ التَّرْدِيدِ؟. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحِسَابَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ طَوِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْسَبُهُ قَصِيرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} (طه: 103) ثُمَّ قَالَ {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} (طه: 104). وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَخِفَّتِهِ، وَلَبِثْتُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَرْزَخِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (الْفُرْقَانِ: 41) أَيْ بَعَثَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 234) إِلَى قَوْلِهِ: " يَتَرَبَّصْنَ " إِذَا جَعَلْنَاهُ الْخَبَرَ، فَالْأَصْلُ يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَوَضَعَ الضَّمِيرَ مَوْضِعَ الْأَزْوَاجِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِنَّ، فَأَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ
فَائِدَةٌ: [مَرْتَبَةُ الْمُضْمَرِ مَعَ الظَّاهِرِ] الْمُضْمَرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الظَّاهِرِ لَفْظًا أَوْ مَرْتَبَةً أَوْ لَفْظًا وَمَرْتَبَةً، وَلَا يَكُونُ قَبْلَ الظَّاهِرِ لَفْظًا وَمَرْتَبَةً، إِلَّا فِي أَبْوَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، كَمَا سَبَقَ، وَبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِعِمَّا هِيَ} (الْبَقَرَةِ: 271) وَ {سَاءَ مَثَلًا} (الْأَعْرَافِ: 177) وَالضَّمِيرِ فِي (رُبَّهُ رَجُلًا) وَبَابِ الْإِعْمَالِ، إِذَا أَعْمَلْتَ الثَّانِيَ وَالْأَوَّلُ يَطْلُبُ عُمْدَةً، فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّكَ تُضْمِرُ فِي الْأَوَّلِ فَتَقُولُ: ضَرَبُونِي وَضَرَبْتُ الزَّيْدَيْنِ
فَائِدَةٌ: [الضَّمِيرُ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَى مُشَاهَدٍ مَحْسُوسٍ] الضَّمِيرُ لَا يَعُودُ إِلَّا عَلَى مُشَاهَدٍ مَحْسُوسٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (مَرْيَمَ: 35) فَضَمِيرُ " لَهُ " عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَابِقًا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ الْمَوْجُودِ فَصَحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ لِلْقَضَاءِ لِدَلَالَةِ " قَضَى " عَلَيْهِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى " مِنْ أَجْلِ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (الْعَادِيَاتِ: 8) أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ
الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُتَوَجِّهًا، وَقَدْ يُعْدَلُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَيُسَمِّيهِ السَّكَّاكِيُّ الْأُسْلُوبُ الْحَكِيمُ. وَقَدْ يَجِيءُ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السُّؤَالِ وَأَغْفَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَقَدْ يَجِيءُ أَنْقَصَ لِضَرُورَةِ الْحَالِ. مِثَالُ مَا عُدِلَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (الْبَقَرَةِ: 189) فَعَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ لَمَّا قَالُوا: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَمْتَلِئَ وَيَسْتَوِيَ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ؟ فَأُجِيبُوا بِمَا أُجِيبُوا بِهِ لِيُنَبَّهُوا عَلَى أَنَّ الْأَهَمَّ مَا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَنْهُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الْبَقَرَةِ: 215) سَأَلُوا عَمَّا يُنْفِقُونَ فَأُجِيبُوا بِبَيَانِ الْمَصْرِفِ تَنْزِيلًا لِسُؤَالِهِمْ مَنْزِلَةَ سُؤَالِ غَيْرِهِ، لِيُنَبِّهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} (الْبَقَرَةِ: 215) بَيَانَ مَا يُنْفِقُونَهُ وَهُوَ خَيْرٌ، ثُمَّ زِيدُوا عَلَى الْجَوَابِ بَيَانَ الْمَصْرِفِ. وَنَظِيرُهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17) فَيَكُونُ طَابَقَ وَزَادَ، نَعَمْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَهُ مَالٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: مَاذَا أُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا؟ وَأَيْنَ نَضَعُهَا؟ فَنَزَلَتْ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَتِ الْآيَةُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ السَّائِلَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِغَيْرِ مَا يَطْلُبُ بَلْ أُجِيبَ بِبَعْضِ مَا سَأَلَ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ كَانَ سُؤَالًا عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى مَنْ تُصْرَفُ؟ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَالْجَوَابُ يَخْرُجُ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، وَأَمَّا هَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي فَعَنْ قَدْرِ الْإِنْفَاقِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ أَيْضًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ فِرْعَوْنُ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (الشُّعَرَاءِ: 23- 24) لِأَنَّ (مَا) سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، أَوْ عَنِ الْجِنْسِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ خَطَأً لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ لَيْسَ تُرَى مَاهِيَّتُهُ فَتُبَيَّنُ، وَلَا جِنْسَ لَهُ فَيُذْكَرُ، عَدَلَ الْكَلِيمُ عَنْ مَقْصُودِ السَّائِلِ إِلَى الْجَوَابِ بِمَا يُعْرَفُ بِالصَّوَابِ عِنْدَ كَيْفِيَّةِ الْخِطَابِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَرَيَانَ مَعَهُ فَأَجَابَهُ بِالْوَصْفِ الْمُنَبِّهِ عَنِ الظَّنِّ الْمُؤَدِّي لِمَعْرِفَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِجَهْلِهِ، وَاعْتَقَدَ الْجَوَابَ خَطَأً قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ يُعَجِّبُهُمْ {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 25) فَأَجَابَهُ الْكَلِيمُ بِجَوَابٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَيَتَضَمَّنُ الْإِبْطَالَ لِعَيْنِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 26) فَأَجَابَ بِالْأَغْلَظِ، وَهُوَ ذِكْرُ الرُّبُوبِيَّةِ لِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ عَالَمِهِمْ نَصًّا، فَاسْتَهْزَأَ بِهِ فِرْعَوْنُ وَخَيَّبَهُ، وَلَمَّا لَمْ يَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَطَّنُوا غَلُظَ عَلَيْهِمْ فِي الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (الشُّعَرَاءِ: 28) فَكَأَنَّهُ شَكَّ فِي حُصُولِ عَقْلِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (الْبَقَرَةِ: 217) وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْقِتَالِ فِيهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ إِلَّا بَعْدَ الْقِتَالِ فِيهِ فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِالسُّؤَالِ عَنْ هَذَا الشَّهْرِ: هَلْ أُبِيحَ فِيهِ الْقِتَالُ؟ وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ كَبِيرٌ لِيَعُمَّ الْحُكْمُ كُلَّ قِتَالٍ وَقَعَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْجَوَابِ إِذَا كَانَ السَّائِلُ قَصْدُهُ التَّعَنُّتُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الْإِسْرَاءِ: 85) فَذَكَرَ صَاحِبُ " الْإِيضَاحِ " فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ: إِنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا سَأَلُوا تَعْجِيزًا وَتَغْلِيظًا، إِذَا كَانَ الرُّوحُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ، وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ، يُقَالُ لَهُ الرُّوحُ، وَصِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى، فَقَصَدَ الْيَهُودُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَبِأَيٍّ يُسَمَّى أَجَابَهُمْ قَالُوا لَيْسَ هُوَ، فَجَاءَهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَالُ كَيْدًا يُرْسِلُ بِهِ كَيْدَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ أَمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؟ فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ جَوَابٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ ذَلِكَ، أَوْ يَقُولَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ فِعْلِهِ، وَخَلْقِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ فِي الْقُرْآنِ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ، وَحِينَئِذٍ فَوَقَعَ الْجَوَابُ مَوْقِعَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: الرُّوحُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ، يَجْعَلُهُ دَلَالَةً وَعِلْمًا عَلَى صِدْقِهِ، وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِمْ. وَحَكَاهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي الْغُرَرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 86) فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَلَوْ شَاءَ لَرَفَعَهُ. وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ، فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 17- 18) فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَالَ يَعْقُبُهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَصَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّهَ لِصِفَاتِهَا حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 70- 71) وَحَسَّنَهُ إِظْهَارُ الِابْتِهَاجِ بِعِبَادَتِهَا، وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى مُوَاظَبَتِهَا لِيَزْدَادَ غَيْظُ السَّائِلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} (الْأَنْعَامِ: 64) بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (الْأَنْعَامِ: 63) الْآيَةَ، وَلَوْلَا قَصْدُ بَسْطِ الْكَلَامِ لِيُشَاكِلَ مَا تَقَدَّمَ لَقَالَ يُنَجِّيكُمُ اللَّهُ. وَمِثَالُ النُّقْصَانِ مِنْهُ أَيْ: مِنَ الْجَوَابِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} (يُونُسَ: 15) أَيِ ائْتِ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ سَبُّ آلِهَتِنَا، أَوْ بَدِّلْهُ بِأَنْ تَجْعَلَ مَكَانَ آيَةِ عَذَابٍ آيَةَ رَحْمَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ آلِهَتِنَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ وَطَوَى الْجَوَابَ عَنِ الِاخْتِرَاعِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِي إِمْكَانِ الْبَشَرِ بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَقْدُورِ، فَطَوَى ذِكْرَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ مُحَالٌ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ: أَنَّ التَّبْدِيلَ قَرِيبٌ مِنَ الِاخْتِرَاعِ فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى جَوَابٍ وَاحِدٍ لَهُمَا. وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّبْدِيلُ أَسْهَلَ مِنَ الِاخْتِرَاعِ، وَقَدْ نَفَى إِمْكَانَ التَّبْدِيلِ كَانَ الِاخْتِرَاعُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى.
قِيلَ: أَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُعَادَ فِي نَفْسِ سُؤَالِ السَّائِلِ، لِيَكُونَ وَفْقَ السَّائِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} (يُوسُفَ: 90) وَأَنَا فِي جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَنْتَ فِي سُؤَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} (آلِ عِمْرَانَ: 81) فَهَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا عِوَضَ ذَلِكَ مَحْذُوفَ الْجَوَابِ اخْتِصَارًا وَتَرْكًا لِلتَّكْرَارِ. وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ بِتَقْدِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يُونُسَ: 34) فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ {قُلِ اللَّهُ} (يُونُسَ: 34) جَوَابَ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يُونُسَ: 34) فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يُونُسَ: 34) فَتَرَكَ ذِكْرَ السُّؤَالِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} (يُونُسَ: 35)
|