الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} معطوف على جميع ما تقدم من قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40] إلى هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة بل على جميع ما تقدمها لا سيما قوله: {ولا تلبسوا} فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله: {ولا تشتروا بآياتي} [البقرة: 41] كما تقدم. وإن شئت أن تجعل كلاً معطوفاً على الذي قبله فهومعطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفاً على ما قبله كذلك، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتْها دون البقية وذلك كعطف {وتكتموا الحق} على {لا تلبسوا} فإنها متعينة للعطف على {تلبسوا} لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح بالأوْلى. وجوزوا أن يكون {وتكتموا الحق} منصوباً بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع بين الأمرين وهو بعيد لأن كليهما منهي عنه والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع بالأوْلى بخلاف العكس اللهم إلا أن يقال إنما نهوا عن الأمرين معاً على وجه الجمع تعريضاً بهم بأنهم لا يرجا منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر. أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجا منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل. و (الحَق) الأمر الثابت من حَقَّ إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها. والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بُطلاً وبطولاً وبطلاناً إذا ذهب ضياعاً وخسراً وذهب دمه بُطلاً أي هدراً. والمراد به هنا ما تتبرأ منه النفوس وتزيله مادامت خلية عن غرض أوهوى، وسمي باطلاً لأنه فعل يذهب ضياعاً وخساراً على صاحبه. واللبس خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة حروف مثل علَى واللاممِ والباءِ على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف. وقد يعلق به ظرفُ عندَ. وقد يجرد عن التعليق بالحرف. ويُطلق على اختلاط المعاني وهو الغالب، وظاهر كلام الراغب في «مفردات القرآن» أنه هو المعنى الحقيقي، ويقال في الأمر لُبسةٌ بضم اللام أي اشتباه، وفي حديث شق الصدر «فخفت أن يكون قد التُبس بي» أي حصل اختلاط في عقلي بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب سمِع. فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق، وهذا اللَّبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قَصْد إبطالها فشأنُ من يريد إبطالها أن يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى: {وكذلك زَين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبِسوا عليهم دينهم} [الأنعام: 137] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام. وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة إننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعه، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله، وقد قال شاعرهم وهو الخطيل بن أوس: أطعنا رسولَ الله إذ كان بيننا *** فيا لعباد اللَّهِ مالِأَبي بكر وقد فعل ذلك الناقمون على عثمان رضي الله عنه فلبَّسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه، وسقط من يده خاتم النبيء صلى الله عليه وسلم وذلك رمز على سقوط خلافته. وقد قالت الخوارج «لا حكم إلا لله» فقال علي رضي الله عنه: «كلمة حق أريد بها باطل». وحرَّف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهراً وباطناً فكان من ذلك لبس كثير، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب «الرسائل» الملقبين بإخوان الصفاء. ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها ويعارضها نحو قوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة. وللتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يُظن أنه دليل فهو تأويل باطل فإن وقع بلا دليل أصلاً فهو لعب لا تأويل ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى الذي جاء له كما قال ابن الرومي: لئن أخطأتُ في مدْحي *** ك ما أخطأت في منعي لقد أنزلتُ حاجاتي *** بواد غير ذي زرع وقوله: {وأنتم تعلمون} حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول (تعلمون) محذوف دل عليه ما تقدم، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لَبسكم الحق بالباطل. قال الطيبي عند قوله تعالى الآتي: {أفلا تعقلون} [البقرة: 44] إن قوله تعالى: {وأنتم تعلمون} غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على أنهم موصوفون بالعلم الذي هووصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} إلى قوله: {أفلا تعقلون} [البقرة: 44] إذْ نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} أمرٌ بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام فقولُه: {وآمنوا بما أنزلت} [البقرة: 41] الآية راجع إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته، فالوسيلة {اذْكروا نعمتي إلى فارهبون} [البقرة: 40] والمقصدُ {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم}، والغاية {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسباتتٍ للأوامر. فقوله: {وأقيموا الصلاة} إلخ أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة الإسلام، وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة وأنهم كملت لهم الأمور المطلوبة. وفي هذا الأمر تعريض بالمنافقين، ذلك أن الإيمان عقد قلبي لا يدل عليه إلا النطق، والنطقُ اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف الدين إذا كان غير معتقد مدلوله كما قال تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} [البقرة: 14] الآية، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته، ولأن الزكاة إنفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق. ولذلك جاء في المنافقين {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142] وقوله: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 4، 5] وفي «الصحيح» أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين. وفي هذه الآية دليل لمالك على قتل من يمتنع من أداء الصلاة مع تحقق أنه لم يؤدها من أول وقت صلاة من الصلوات إلى خروجه إذا كان وقتاً متفقاً بين علماء الإسلام، لأنه جَعل ذلك الامتناع مع عدم العذر دليلاً على انتفاء إيمانه، لكنه لما كان مصرحاً بالإيمان قال مالك: إنه يقتل حداً جمعاً بين الأدلة ومنعها لذريعة خرم الملة. ويوشك أن يكون هذا دليلاً لمن قالوا بأن تارك الصلاة كافر لولا الأدلة المعارضة. وفيها دليل لما فعل أبو بكر رضي الله عنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم؛ لأن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له: كيف تقاتلهم وقد قالوا: لا إله إلا الله وقد قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» فقال أبو بكر: لآقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر. وقوله: {واركعوا مع الراكعين} تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله: {واركعوا مع الراكعين}. والركوع طأْطأَة وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل، وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم، قال الأعشى: إذا مَا أتانا أبو مالك *** رَكَعْنَا له وخَلَعْنا العِمَامه (وروي سجدنا له وخلعنا العمارا، والعمار هو العمامة). وقوله: {مع الراكعين} إيماء إلى وجوب ممثالة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة فالمراد بالراكعين المسلمون وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها وشرائطها.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} اعتراض بين قوله: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: 43] وقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] ووجه المناسبة في وقوعه هنا أنه لما أمرهم بفعل شعائر الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وذيل ذلك بقوله: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43] ليشير إلى أن صلاتهم التي يفعلونها أصبحت لا تغني عنهم، ناسب أن يزاد لذلك أن ما يأمر به دينهم من البر ليسوا قائمين به على ما ينبغي، فجيء بهذا الاعتراض، وللتنبيه على كونه اعتراضاً لم يقرن بالواو لئلا يتوهم أن المقصود الأصلي التحريض على الأمر بالبر وعلى ملازمته، والغرض من هذا هو النداء على كمال خسارهم ومبلغ سوء حالهم الذي صاروا إليه حتى صاروا يقومون بالوعظ والتعليم كما يقوم الصانع بصناعته والتاجر بتجارته لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها ليستحقوا بذلك ما يعوضون عليه من مراتب ورواتب فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس. والمخاطب بقوله: {أتأمرون} جميع بني إسرائيل الذين خوطبوا من قبل، فيقتضي أن هذه الحالة ثابتة لجميعهم أي أن كل واحد منهم تجده يصرح بأوامر دينهم ويشيعها بين الناس ولا يمتثلها هو في نفسه، ويجوز أن يكون المقصود بهذا الخطاب فريقاً منهم فإن الخطاب الموجه للجماعات والقبائل يأخذ كل فريق ما هو حظه من ذلك الخطاب، فيكون المقصود أحبارهم وعلماءهم وهم أخص بالأمر بالبر، فعلى الوجه الأول يكون المراد بالناس إما المشركين من العرب فإن اليهود كانوا يذكرون لهم ما جاء به دينهم والعرب كانوا يحفلون بسماع أقوالهم كما قال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} [البقرة: 89] وإما أن يكون المراد من (الناس) مَن عدا الآمر كما تقول أفعل كما يفعل الناس وكقوله: {إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] أي أيأمر الواحد غيره وينسى نفسه، وعلى الوجه الثاني يكون المراد بالناس العامة من أمة اليهود أي كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ ولا يطلبون نجاة أنفسهم. والاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازاً بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إراد الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريباً غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازاً مرسلاً ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضاً مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك وأيّاً ما كان فهو مجاز مرسل على ما اختاره السيد في «حاشية المطول» في باب الإنشاء علاقته اللزوم وقد تردد في تعيين علاقته التفتزاني وقال: إنه مما لم يحم أحد حوله. : والبر بكسر الباء الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة والمعاملة، وفعله في الغالب من باب علم إلا البر في اليمن فقد جاء من باب علم وباب ضرب، ومن الأقوال المأثورة البر ثلاثة: بر في عبادة الله وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب، وذلك تبع للوفاء بسعة الإحسان في حقوق هذه الجوانب الثلاثة. والنسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو الغفلة اليسيرة بحيث يتنبه بأقل تنبيه، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب «الأساس» مجازاً وهو التحقيق وهو كثير في القرآن. والنسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما. قيل في قوله تعالى: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهدها ولأن العادة تنسيه حاله. ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس فيكون البر راجعاً إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها. وجملة: {وتنسون أنفسكم} يجوز أن تكون حالاً من ضمير {تأمرون} أو يكون محل التوبيخ والتعجب هو أمر الناس بالبر بقيد كونه في حال نسيان، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على {تأمرون} وتكون هي المقصودة من التوبيخ والتعجيب ويجعل قوله: {أتأمرون الناس} تمهيداً لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين. وبهذا تعلم أنه لا يتوهم قصد النهي عن مضمون كلا الجملتين إذ القصد هو التوبيخ على اتصاف بحالة فظيعة ليست من شيم الناصحين لا قصد تحريم فلا تقع في حيرة من تحير في وجه النهي عن ذلك ولا في وهم من وهم فقال: إن الآية دالة على أن العاصي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر كما نقل عنهم الفخر في «التفسير» فإنه ليس المقصود نهي ولا تحريم وإنما المقصود تفظيع الحالة ويدل لذلك أنه قال في تذييلها {أفلا تعقلون} ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه. والأنفس جمع نفس بسكون الفاء وهي مجموع ذات الإنسان من الهيكل والروح كما هنا وباعتبار هذا التركيب الذي في الذات اتسع إطلاق النفس في كلام العرب تارة على جميع الذات كما في التوكيد نحو جاء فلان نفسه وقوله: {النفس بالنفس} [المائدة: 45] وقوله: {تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85] وتارة على البعض كقول القائل أنكرت نفسي وقوله: {وتنسون أنفسكم} وعلى الإحساس الباطني كقوله: {تعلم ما في نفسي} [المائدة: 116] أي ضميري. وتطلق على الروح الذي به الإدراك {إن النفس لأمارة بالسوء} [يوسف: 53] وسيأتي لهذا زيادة إيضاح عند قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس} في سورة النحل (111). وقوله: وأنتم تتلون الكتاب} جملة حالية قيد بها التوبيخ والتعجيب لأن نسيان أنفسهم يكون أغرب وأفظع إذا كان معهم أمران يقلعانه، وهما أمر الناس بالبر، فإن شأن الأمر بالبر أن يذكر الآمر حاجة نفسه إليه إذا قدر أنه في غفلة عن نفسه، وتلاوة الكتاب أي التوراة يمرون فيها على الأوامر والنواهي من شأنه أن تذكرهم مخالفة حالهم لما يتلونه. وقوله: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقلهم استفهاماً مستعملاً في الإنكار والتوبيخ نزلوا منزلة من انتفى تعقله فأُنكر عليهم ذلك، ووجه المشابهة بين حالهم وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع مصاحبة شيئين يذكرانه، قارب أن يكون منفياً عنه التعقل. وفعل {تعقلون} منزل منزلة اللازم أو هو لازم. وفي هذا نداء على كمال غفلتهم واضطراب حالهم. وكون هذا أمراً قبيحاً فظيعاً من أحوال البشر مما لا يشك فيه عاقل.
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} خطاب لبني إسرائيل بالإرشاد إلى ما يعينهم على التخلق بجميع ما عدد لهم من الأوامر والنواهي الراجعة إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذمات، له أحسن وقع من البلاغة فإنهم لما خوطبوا بالترغيب والترهيب والتنزيه والتشويه ظن بهم أنهم لم يبق في نفوسهم مسلك للشيطان ولا مجال للخذلان وأنهم أنشأوا يتحفزون للامتثال والائتساء، إلا أن ذلك الإلف القديم يثقل أرجلهم في الخطو إلى هذا الطريق القويم، فوصف لهم الدواء الذي به الصلاح وريش بقادمتي الصبر والصلاة منهم الجناح. فالأمر بالاستعانة بالصبر لأن الصبر ملاك الهدى فإن مما يصد الأمم عن اتباع دين قويم إلفهم بأحوالهم القديمة وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها فإذا تدرعوا بالصبر سهل عليهم اتباع الحق. وأما الاستعانة بالصلاة فالمراد تأكد الأمر بها الذي في قوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] وهذا إظهار لحسن الظن بهم وهو طريق بديع من طرق الترغيب. ومن المفسرين من زعم أن الخطاب في قوله: {واستعينوا} إلخ للمسلمين على وجه الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر، وهذا وهم لأن وجود حرف العطف ينادي على خلاف ذلك ولأن قوله: {إلا على الخاشعين} مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} الآية اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي. والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد وأي عجب في هذا؟ وقريب منه آنفاً قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43] خطاباً لبني إسرائيل لا محالة. والصبر عرفه الغزالي في «إحياء علوم الدين» بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة وهو تعريف خاص بالصبر الشرعي صالح لأن يكون تفسيراً للآية لأنها في ذكر الصبر الشرعي، وأما الصبر من حيث هو الذي هو وصف كمال فهو عبارة عن احتمال النفس أمراً لا يلائمها إما لأن مآله ملائم، أو لأن عليه جزاء عظيماً فأشبه ما مآله ملائم، أو لعدم القدرة على الانتقال عنه إلى غيره مع تجنب الجزع والضجر، فالصبر احتمال وثبات على ما لا يلائم، وأقل أنواعه ما كان عن عدم المقدرة ولذا ورد في «الصحيح»: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» أي الصبر الكامل هو الذي يقع قبل العلم بأن التفصي عن ذلك الأمر غير ممكن وإلا فإن الصبر عند اعتقاد عدم إمكان التفصي إذا لم يصدر منه ضجر وجزع هو صبر حقيقة. فصيغة الحصر في قوله «إنما الصبر» حصر ادعائي للكمال كما في قولهم أنت الرجل. والصلاة أريد بها هنا معناها الشرعي في الإسلام وهي مجموع محامد لله تعالى، قولاً وعملاً واعتقاداً فلا جرم كانت الاستعانة المأمور بها هنا راجعة لأمرين: الصبر والشكر. وقد قيل إن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر كما في «الإحياء» وهو قول حسن، ومعظم الفضائل ملاكها الصبر إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال، والمكارم راجعة إلى قوة الإرادة وكبح زمام النفس عن الإسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية والغضبية عما لا يفيد كمالاً أو عما يورث نقصاناً فكان الصبر ملاك الفضائل فما التحلم والتكرم والتعلم والتقوى والشجاعة والعدل والعمل في الأرض ونحوها إلا من ضروب الصبر. ومما يؤثر عن علي رضي الله عنه: الشجاعة صبر ساعة. وقال زفر بن الحارث الكلابي يعتذر عن انهزام قومه: سقيناهم كاساً سقونا بمثلها *** ولكنهم كانوا على الموت أصبرا وحسبك بمزية الصبر أن الله جعله مكمل سبب الفوز في قوله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 1 3] وقال هنا: {واستعينوا بالصبر والصلاة}. قال الغزالي: ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له، فقال عز من قائل: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} [السجدة: 24]. وقال: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] وقال: {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153] اه. وأنت إذا تأملت وجدت أصل التدين والإيمان من ضروب الصبر فإن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته، وبوجوب طاعتها واحداً من جنسها لا تراه يفوقها في الخلقة وفي مخالفة عادة آبائها وأقوامها من الديانات السابقة. فإذا صار الصبر خلقاً لصاحبه هون عليه مخالفة ذلك كله لأجل الحق والبرهان فظهر وجه الأمر بالاستعانة على الإيمان وما يتفرع عنه بالصبر فإنه خلق يفتح أبواب النفوس لقبول ما أمروا به من ذلك. وأما الاستعانة بالصبر فلأن الصلاة شكر والشكر يذكر بالنعمة فيبعث على امتثال المنعم على أن في الصلاة صبراً من جهات في مخالفة حال المرء المعتادة ولزومه حالة في وقت معين لا يسوغ له التخلف عنها ولا الخروج منها على أن في الصلاة سراً إلاهياً لعله ناشئ عن تجلي الرضوان الرباني على المصلي فلذلك نجد للصلاة سراً عظيماً في تجلية الأحزان وكشف غم النفس وقد ورد في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه (بزاي وباء موحدة أي نزل به) أمر فزع إلى الصلاة» وهذا أمر يجده من راقبه من المصلين وقال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] لأنها تجمع ضروباً من العبادات. وأما كون الشكر من حيث هو معيناً على الخير فهو من مقتضيات قوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]. وقوله: {وإنها لكبيرة} اختلف المفسرون في معاد ضمير {إنها} فقيل عائد إلى الصلاة والمعنى إن الصلاة تصعب على النفوس لأنها سجن للنفس وقيل الضمير للاستعانة بالصبر والصلاة المأخوذة من {استعينوا} على حد {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]. وقيل راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله تعالى: {اذكروا نعمتي} [البقرة: 40] إلى قوله {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وهذا الأخير مما جوزه صاحب «الكشاف» ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها والمحامل مُرادة. والمراد بالكبيرة هنا الصعبة التي تشق على النفوس، وإطلاق الكبر على الأمر الصعب والشاق مجاز مشهور في كلام العرب لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير في حمله أو تحصيله قال تعالى: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} [البقرة: 143] وقال: {وإن كان كبر عليك إعراضهم} [الأنعام: 35] الآية. وقال: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} [الشورى: 13]. وقوله: {إلا على الخاشعين} أي الذين اتصفوا بالخشوع، والخشوع لغة هو الانزواء والانخفاض ق النابغة: ونُؤْيٌ كجِذْم الحَوْض أَثلم خَاشِع *** أي زال ارتفاع جوانبه. والتذلل خشوع، قال جعفر بن عبلة الحارثي: فلا تحسبي أني تَخَشعت بعدكم *** لَشْيءٍ ولا أني من الموت أفرق وهو مجاز في خشوع النفس وهو سكون وانقباض عن التوجه إلى الإباية أو العصيان. والمراد بالخاشع هنا الذي ذلل نفسه وكسر سورتها وعودها أن تطمئن إلى أمر الله وتطلب حسن العواقب وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه لقبول الخير. وكأن المراد بالخاشعين هنا الخائفون الناظرون في العواقب فتخف عليهم الاستعانة بالصبر والصلاة مع ما في الصبر من القمع للنفس وما في الصلاة من التزام أوقات معينة وطهارة في أوقات قد يكون للعبد فيها اشتغال بما يهوى أو بما يحصِّل منه مالاً أو لذة. وقريب منه قول كثير: فقلت لها يا عز كل مصيبة *** إذا وُطنت يوماً لها النفس ذلت وأحسب أن مشروعية أحكام كثيرة قصد الشارع منها هذا المعنى وأعظمها الصوم. ولا يصح حمل الخشوع هنا على خصوص الخشوع في الصلاة بسبب الحال الحاصل في النفس باستشعار العبد الوقوف بين يدي الله تعالى حسبما شرحه ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة الأول من «البيان والتحصيل» وهو المعنى المشار إليه بقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1، 2]، فإن ذلك كله من صفات الصلاة وكمال المصلي فلا يصح كونه هو المخفف لكلفة الصلاة على المستعين بالصلاة كما لا يخفى. وقد وصف تعالى الخاشعين بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون وهي صلة لها مزيد اتصال بمعنى الخشوع ففيها معنى التفسير للخاشعين ومعنى بيان منشأ خشوعهم، فدل على أن المراد من الظن هنا الاعتقاد الجازم وإطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين كثير جداً، قال أوس بن حجر يصف صياداً رمى حمار وحش بسهم: فأرسله مستيقن الظن أنه *** مخالطُ ما بين الشرا سيف جائف وقال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجَّج *** سراتهم بالفارسي المسرج فهو مشترك بين الاعتقاد الجازم وبين الاعتقاد الراجح. والملاقاة والرجوع هنا مجازان عن الحساب والحشر أو عن الرؤية والثواب؛ لأن حقيقة اللقاء وهو تقارب الجسمين، وحقيقة الرجوع وهو الانتهاء إلى مكان خرج منه المنتهى مستحيلة هنا. والمقصود من قوله: {وإنها لكبيرة} إلخ التعريض بالثناء على المسلمين، وتحريض بني إسرائيل على التهمم بالاقتداء بالمؤمنين وعلى جعل الخطاب في قوله: {واستعينوا} للمسلمين يكون قوله: {وإنها لكبيرة} تعريضاً بغيرهم من اليهود والمنافقين. والملاقاة مفاعلة من لقي، واللقاء الحضور كما تقدم في قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] والمراد هنا الحضور بين يدي الله للحساب أي الذين يؤمنون بالبعث، وسيأتي تفصيل لها عند قوله تعالى {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223] في هذه السورة، وفي سورة الأنعام (31) عند قوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله.}
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلاً لما وقع في خطابهم الأول لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب وما يترتب عليه، فإن الخطاب الأول قصد منه تذكيرهم بنعم الله تعالى ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يرد إليهم من الله من أمر ونهي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثال كان حق البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلماماً ويشير إليها إجمالاً، تنبيهاً بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به ولم يزل الخطباء والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها: خليفةَ الله ساعدَ القدرُ *** عُلاك مالاح في الدجا قمر ثم قال: والناس طرا بأرض أندلس *** لولاك ما وطنوا ولا عمروا وقد أهمتهمُ نفوسُهم *** فوجهوني إليك وانتظروا فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم وأذن له في الجلوس فسلم عليه. قال القاضي أبو القاسم الشريف وكان من جملة الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا. فكان الإجمال في المقدمة قضاء لحق صدارتها بالتقديم وكان الإفضاء إلى المقصود قضاء لحقه في العناية، والرجوع إلى تفصيل النعم قضاء لحقها من التعداد فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم وتكريم للمنعم عليه وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر. فللتكرير هنا نكتة جمع الكلامين بعد تفريقهما ونكتة التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة. والنعمة هنا مراد بها جميع النعم لأنّه جنس مضاف فله حكم الجمع كما في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوففِ بعهدكم} [البقرة: 40]. وقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} عطف على {نعمتي} أي واذكروا تفضيلي إياكم على العالمين وهذا التفضيل نعمة خاصة فعطفه على (نعمتي) عطف خاص على عام وهو مبدأ لتفصيل النعم وتعدادها وربما كان تعداد النعم مغنياً عن الأمر بالطاعة والامتثال لأن من طبع النفوس الكريمة امتثال أمر المنعم لأن النعمة تورث المحبة. وقال منصور الوراق: تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه *** هذا لَعمري في القياس بديعُ لو كان حُبّك صادقاً لأطعته *** إن المحِب لمن يُحب مُطيع وهذا التذكير مقصود به الحث على الاتسام بما يناسب تلك النعمة ويستبقي ذلك الفضل. ومعنى العالمين تقدم عنه قوله: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2] والمراد به هنا صنف من المخلوقات ولا شك أن المخلوقات تصنف أصنافاً متنوعة على حسب تصنيف المتكلم أو السامع، فالعالمون في مقام ذكر الخلق هم أصناف المخلوقات كالإنس والدواب والطير والحوت، والعالمون في مقام ذكر فضائل الخلق أو الأمم أو القبائل يراد بها أصناف تلك المتحدث عنها فلا جرم أن يكون المراد من العالمين هناهم الأمم الإنسانية فيعم جميع الأمم لأنه جمع معرف باللام لكن عمومه هنا عرفي يختص بأمم زمانهم كما يختص نحو: جمع الأمير الصاغة بصاغة مكانه أي بلده ويختص أيضاً بالأمم المعروفة كما يختص جمع الأمير الصاغة بالصاغة المتخذين الصياغة صناعة دون كل من يعرف الصياغة وذلك كقولك: هو أشهر العلماء وأنجب التلامذة، فالآية تشير إلى تفضيل بني إسرائيل المخاطبين أو سلفهم على أمم عصرهم لا على بعض الجماعات الذين كانوا على دين كامل مثل نصارى نجران، فلا علاقة له بمسألة تفضيل الأنبياء على الملائكة بحال ولا التفات إلى ما يشذ في كل أمة أو قبيلة من الأفراد فلا يلزم تفضيل كل فرد من بني إسرائيل على أفراد من الأمم بلغوا مرتبة صالحة أو نبوءة لأن التفضيل في مثل هذا يراد به تفضيل المجموع، كما تقول قريش أفضل من طيء وإن كان في طيء حاتم الجواد. فكذلك تفضيل بني إسرائيل على جميع أمم عصرهم وفي تلك الأمم أمم عظيمة كالعرب والفرس والروم والهند والصين وفيهم العلماء والحكماء ودعاة الإصلاح والأنبياء لأنه تفضيل المجموع على المجموع في جميع العصور، ومعنى هذا التفضيل أن الله قد جمع لهم من المحامد التي تتصف بها القبائل والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي شرف النسب وكمال الخلق وسلامة العقيدة وسعة الشريعة والحرية والشجاعة، وعناية الله تعالى بهم في سائر أحوالهم، وقد أشارت إلى هذا آية: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليهم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} [آل عمران: 20] وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلَف بحسن السمعة وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين ولكنهم ذكروا بما كانوا عليه فإن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور. ووجه زيادة الوصف بقوله: {التي أنعمت عليكم} مر في أختها الأولى.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} عَطَفَ التحذير على التذكير، فإنه لما ذكرهم بالنعمة وخاصة تفضيلهم على العالمين في زمانهم وكان ذلك منشأ غرورهم بأنه تفضيل ذاتي فتوهموا أن التقصير في العمل الصالح لا يضرهم فعقب بالتحذير من ذلك. والمراد بالتقوى هنا معناها المتعارف في اللغة لا المعنى الشرعي. وانتصاب {يوماً} على المفعولية به وليس على الظرفية ولذلك لم يقرأ بغير التنوين. والمراد باتقائه اتقاؤه من حيث ما يحدث فيه من الأهوال والعذاب فهو من إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه كما تقول مكان مخوف. و {تجزي} مضارع جزى بمعنى قضى حقاً عن غيره، وهو متعد بعن إلى أحد مفعوليه فيكون {شيئاً} مفعوله الأول، ويجوز أيضاً أن يكون مفعولاً مطلقاً إذا أريد شيئاً من الجزاء ويكون المفعول محذوفاً. وجملة: {لا تجزي نفس} صفة ليوماً وكان حق الجملة إذا كانت خبراً أو صفة أو حالاً أو صلة أن تشتمل على ضمير ما أجريت عليه، ويكثر حذفه إذا كان منصوباً أو ضميراً مجروراً فيحذف مع جاره ولا سيما إذا كان الجار معلوماً لكون متعلقه الذي في الجملة لا يتعدى إلا بجار معين كما هنا تقديره فيه وإنما جاز حذفه لأن المحذوف فيه متعين من الكلام وقد يحذف لقرينة كما في حذف ضمير الموصول إذا جر بما جر به الموصول. ونظير هذا الحذف قول العريان الجرمي من جرم طيء: فقلت لها لاَ والذي حجَّ حاتم *** أُخونُككِ عهداً إنني غير خوّان تقديره حج حاتم إليه. وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس أي لا يغني أحد كائناً من كان فلا تغني عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غَناء أولئك عنهم، فالمقصود نفي غنائهم عنهم بأن يحولوا بينهم وبين عقاب الله تعالى، أي نفي أن يجزوا عنهم جزاء يمنع الله عن نوالهم بسوء رعياً لأوليائهم، فالمراد هنا الغناء بحرمة الشخص وتوقع غضبه وهو غناء كفء العدو الذي يخافه العدو على ما هو معروف عند الأمم يومئذ من اتقائهم بطش مولى أعدائهم وإحجامهم عما يوجب غضبه تقية من مكره أو ضره أو حرمان نفعه قال السموأل: وما ضرنا أنا قليل وجارنا *** عزيز وجار الأكثرين ذليل وقال العنبري: لو كنتُ من مازن لم تَستبِحْ إبلي *** بنُو الشقيقة من ذُهل بن شيبان وبهذا يتبين أن مفاد قوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} مغاير لمفاد ما ذكر بعده بقوله: {ولا يقبل منها شفاعة} إلخ فقوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئاً}، هو بمعنى قوله تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19]. وقوله: {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل} الضميران عائدان للنفس الثانية المجرورة بعن أي لا يقبل من نفس شفاعة تأتي بها ولا عدل تعتاض به لأن المقصود الأصلي إبطال عقيدة تنصل المجرم من عقاب الله ما لم يشأ الله؛ ليكون الضمير في قوله: {ولا هم ينصرون} راجعاً إلى مرجع الضميرين قبله. وهذا التأييس يستتبع تحقير من توهمهم الكفرة شفعاء وإبطال ما زعموه مغنياً عنهم من غضب الله من قرابين قربوها ومجادلات أعدوها وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} [النحل: 111]. ومن المفسرين من فسر قوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} بما يعم الإجزاء فجعل ما هو مذكور بعده من عطف الخاص على العام ولذلك قال الشيخ ابن عطية: «حصرت هذه الآية المعاني التي اعتاد بها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في شدة لا يتخلص إلا بأن يُشفع له أو يفتدى أو ينصر» اه وألغى جمعها لحالة أن يتجنب الناس إيقاعه في شدة اتقاء لمواليه، وما فسرنا به أرشق. وقد جمع كلام شيوخ بني أسد مع أمرئ القيس حين كلموه في دم أبيه حجر فقالوا: فأَحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: أما إن اخترت من بني أسد أشرفها بيتاً فقدناه إليك بنسعه تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف، وإما وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتُسْدل الأزر وتُعقد الخمر فوق الرايات» اه. وقرأ الجمهور (ولا يقبل) بياء تحتية ياء المضارع المسند إلى مذكر لمناسبة قوله بعده: {ولا يؤخذ منها عدل}، ويجوز في كل مؤنث اللفظ غير حقيقي التأنيث أن يعامل معاملة المذكر لأن صيغة التذكير هي الأصل في الكلام فلا تحتاج إلى سبب، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بمثناة فوقية رعياً لتأنيث لفظ (شفاعة). والشفاعة: السعي والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها أم كانت بمجرد سعي المتوسط ويقال لطالب الشفاعة مستشفع. وهي مشتقة من الشفع لأن الطالب أو التائب يأتي وحده فإذا لم يجد قبولاً ذهب فأتى بمن يتوسل به فصار ذلك الثاني شافعاً للأول أي مصيّره شفعاً. والعدل بفتح العين العوض والفداء، سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدى بمثله في القيمة أو العين ويسويه به، يقال عدل كذا بكذا أي سواه به. والنصر هو إعانة الخصم في الحرب وغيره بقوة الناصر وغلبته. وإنما قدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق زيادة على ما استفيد من نفي الفعل مع إسناده للمجهول كما أشرنا إليه آنفاً. وقد كانت اليهود تتوهم أو تعتقد أن نسبتهم إلى الأنبياء وكرامة أجدادهم عند الله تعالى مما يجعلهم في أمن من عقابه على العصيان والتمرد كما هو شأن الأمم في إبان جهالتها وانحطاطها وقد أشار لذلك قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم} [المائدة: 18]. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية للاحتجاج لقولهم بنفي الشفاعة في أهل الكبائر يوم القيامة لعموم (نفس) في سياق النفي المقتضي أن كل نفس لا يقبل منها شفاعة وهو عموم لم يرد ما يخصصه عندهم. والمسألة فيها خلاف بين المعتزلة وأصحاب الأشعري. واتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة يوم القيامة للطائعين والتائبين لرفع الدرجات، لم يختلف في ذلك الأشاعرة والمعتزلة فهذا اتفاق على تخصيص العموم ابتداء، والخلاف في الشفاعة لأهل الكبائر فعندنا تقع الشفاعة لهم في حط السيئات وقت الحساب أو بعد دخول جهنم لما اشتهر من الأحاديث الصحيحة في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم «لكل نبيء دعوة مستجابة وقد ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي» وغير ذلك. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إن الأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر المعنوي كما أشار إليه القرطبي في نقل كلامه. وعند المعتزلة لا شفاعة لأهل الكبائر لوجوه منها الآيات الدالة على عدم نفع الشفاعة كهاته الآية، وقوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]. {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} [البقرة: 254] {ما للظامين من حميم ولا شفيع} [غافر: 18] قالوا والمعصية ظلم. ومنها قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] وصاحب الكبيرة ليس بمرتضى، ومنها قوله: {فاغفر للذين تابوا} [غافر: 7]. والجواب عن الجميع أن محل ذلك كله في الكافرين جمعاً بين الأدلة وأن قوله: {لمن ارتضى} يدل على أن هنالك إذناً في الشفاعة كما قال: {إلا لمن أذن له} [سبأ: 23] وإلا لكان الإسلام مع ارتكاب بعض المعاصي مساوياً للكفر وهذا لا ترضى به حكمة الله وأما قوله: {فاغفر للذين تابوا} فدعاء لا شفاعة. والظاهر أن الذي دعا المعتزلة إلى إنكار الشفاعة منافاتها لخلود صاحب الكبيرة في العذاب الذي هو مذهب جمهورهم الذين فسروا قول واصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين بمعنى إعطاء العاصي حكم المسلم في الدنيا وحكم الكافر في الآخرة ولا شك أن الشفاعة تنافي هذا الأصل، فما تمسكوا من الآيات إنماهو لقصد التأبيد ومقابلة أدلة أهل السنة أمثالها. ولم نر جوابهم عن حديث الشفاعة، وأحسب أنهم يجيبون عنه بأن أخبار الآحاد لا تنقض أصول الدين ولذلك احتاج القاضي أبو بكر إلى الاستدلال بالتواتر المعنوي. والحق أن المسألة أعلق بالفروع منها بالأصول لأنها لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته ولو جاريناهم في القول بوجوب إثابة المطيع وتعذيب العاصي، فإن الحكمة تظهر بدون الخلود وبحصول الشفاعة بعد المكث في العذاب، فلما لم نجد في إثبات الشفاعة ما ينقض أصولهم فنحن نقول لهم: لم يبق إلا أن هذا حكم شرعي في تقدير تعذيب صاحب الكبيرة غير التائب وهو يتلقى من قبل الشارع وعليه فيكون تحديد العذاب بمدة معينة أو إلى حصول عفو الله أو مع الشفاعة، ولعل الشفاعة تحصل عند إرادة الله تعالى إنهاء مدة التعذيب. وبعد فمن حق الحكمة أن لا يستوي الكافرون والعصاة في مدة العذاب ولا في مقداره، فهذه قولة ضعيفة من أقوالهم حتى على مراعاة أصولهم، وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع الأمة قبل حدوث البدع على ثبوت الشفاعة في الآخرة، وهو حق فقد قال سواد بن قارب يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكُن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة *** بمغننٍ فتيلاً عن سواد بن قارب وأما الشفاعة الكبرى العامة لجميع أهل موقف الحساب الوارد فيها الحديث الصحيح المشهور فإن أصول المعتزلة لا تأباها. وقوله: {ولا يؤخذ منها عدل} والعدل بفتح العين يطلق على الشيء المساوي شيئاً والمماثل له ولذلك جعل ما يفتدي به عن شيء عدلاً وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: {أو عدل ذلك صياماً} [المائدة: 95] فالمعنى: ولا يقبل منها ما تفتدي به عوضاً عن جرمها. والنصر هو إعانة العدو على عدوه ومحاربه إما بالدفاع معه أو الهجوم معه فهو في العرف مراد منه الدفاع بالقوة الذاتية وأما إطلاقه على الدفاع بالحجة نحو {من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 52] وعلى التشيع والاتباع نحو {إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] فهو استعارة.
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} عطف على قوله: {نعمتي} [البقرة: 47] فيُجْعل (إذ) مفعولاً به كما هو في قوله تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم} [الأعراف: 86] فهو هنا اسم زمان غير ظرف لفعل والتقدير اذكروا وقت نجيناكم، ولما غلبت إضافة أسماء الزمان إلى الجمل وكان معنى الجملة بعدها في معنى المصدر وكان التقدير اذكروا وقت إنجائنا إياكم، وفائدة العدول عن الإتيان بالمصدر الصريح لأن في الإتيان بإذ المقتضية للجملة استحضاراً للتكوين العجيب المستفاد من هيئة الفعل لأن الذهن إذا تصور المصدر لم يتصور إلا معنى الحدث وإذا سمع الجملة الدالة عليه تصور حدوث الفعل وفاعله ومفعوله ومتعلقاته دفعة واحدة فنشأت من ذلك صورة عجيبة، فوزان الإتيان بالمصدر وزان الاستعارة المفردة، وزان الإتيان بالفعل وزان الاستعارة التمثيلية، وليس هو عطفاً على جملة {اذكروا} [البقرة: 47] كما وقع في بعض التفاسير لأن ذلك يجعل (إذ) ظرفاً فيطلب متعلقاً وهو ليس بموجود، ولا يفيده حرف العطف لأن العاطف في عطف الجمل لا يفيد سوى التشريك في حكم الجملة المعطوف عليها، وليس نائباً مناب عامل، ولا يريبك الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه أعني {وإذ نجيناكم} بجملة {واتقوا يوماً} [البقرة: 48] فتظنه ملجأ لاعتبار العطف على الجملة لما علمت فيما تقدم أن قوله: {واتقوا} ناشئ عن التذكير فهو من علائق الكلام وليس بأجنبي، على أنه ليس في كلام النحاة ما يقتضي امتناع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي فإن المتعاطفين ليسا بمرتبة الاتصال كالعامل والمعمول، وعُدي فعل {أنجينا} إلى ضمير المخاطبين مع أن التنجية إنما كانت تنجية أسلافهم لأن تنجية أسلافهم تنجية للخلف فإنه لو بقي أسلافهم في عذاب فرعون لكان ذلك لاحقاً لأخلافهم فذلك كانت منة النتجية منتين: منة على السلف ومنة على الخلف فوجب شكرها على كل جيل منهم ولذلك أوجبت عليهم شريعتهم الاحتفال بما يقابل أيام النعمة عليهم من أيام كل سنة وهي أعيادهم وقد قال الله لموسى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5]. وآل الرجل أهله. وأصل آل أهل قلبت هاؤه همزة تخفيفاً ليتوصل بذلك إلى تسهيل الهمزة مداً. والدليل على أن أصله أهل رجوع الهاء في التصغير إذ قالوا: أهيل ولم يسمع أُويل خلافاً للكسائي. والأهل والآل يراد به الأقارب والعشيرة والموالي وخاصة الإنسان وأتباعه. والمراد من آل فرعون وَزَعَته ووكلاؤه، ويختص الآل بالإضافة إلى ذي شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا يقال آل الجاني ولا آل مكة، ولما كان فرعون في الدنيا عظيماً وكان الخطاب متعلقاً بنجاة دنيوية من عظيم في الدنيا أطلق على أتباعه آل فلا توقف في ذلك حتى يحتاج لتأويله بقصد التهكم كما أول قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46] لأن ذلك حكاية لكلام يقال يوم القيامة وفرعون يومئذ محقر، هلك عنه سلطانه. فإن قلت: إن كلمة أهل تطلق أيضاً على قرابة ذي الشرف لأنها الاسم المطلق فلماذا لم يؤت بها هنا حتى لا يطلق على آل فرعون ما فيه تنويه بهم؟ قلت: خصوصية لفظ آل هنا أن المقام لتعظيم النعمة وتوفير حق الشكر والنعمة تعظيم بما يحف بها فالنجاة من العذاب وإن كانت نعمة مطلقاً إلا أن كون النجاة من عذاب ذي قدرة ومكانة أعظم لأنه لا يكاد ينفلت منه أحد. ولا قرار على زأر من الأسد *** وإنما جعلت النجاة من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقاً للفعل بمن هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيهاً على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم أقل رحمة وأضيق نفوساً من ولاة الأمور كما قال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا *** لم يفعلوا مما أمرت فتيلاً جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوه، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين والهكصوص في سنة 3300 أو سنة 1900 قبل المسيح على خلاف ناشئ عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة 1700 ق م عند ظهور العائلة الثامنة عشرة، فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي، واسم فرعون يومئذ أبو فيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريّان بن الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة 1739 قبل ميلاد المسيح، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده حكم المملكة المصرية السفلى. وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمناً طويلاً غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعاً بجهة يقال لها أرض (جاسان) ومكث الإسرائيليون على ذلك نحواً من أربعمائة سنة تغلب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رعمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة 1311 قبل المسيح وكان محارباً باسلاً وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب، فحدثت أسباب أو سوء ظنون أوجبت تنكر القبط على الإسرائيليين وكلفوهم أشق الأعمال وسخروهم في خدمة المزارع والمباني وصنع الآجر. وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن (فيثوم) ومدينة (رعمسيس) ثم خشي فرعون أن يكون الإسرائيليون أعواناً لأعدائه عليه فأمر باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب فكان يأمر بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم. وأما ما يحكيه القصاصون أن فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحاً إذ يبعد أن يروج مثل هذا على رئيس مملكة فيفنى به فريقاً من رعاياه، اللهم إلا أن يكون الكهنة قد أغروا فرعون باليهود قصداً لتخليص المملكة من الغرباء أو تفرسوا من بني إسرائيل سوء النوايا فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي لإقناع فرعون، بوجوب الحذر من الإسرائيليين ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين استخفافاً باليهود، فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص: 15] والحاصل أن التاريخ يفيد على الإجمال أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين. ولقد أبدع القرآن في إجمالها إذ كانت تفاصيل إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها. وجملة: {يسومونكم سوء العذاب} حال من {آل فرعون} يحصل بها بيان ما وقع الإنجاء منه وهو العذاب الشديد الذي كان الإسرائيليون يلاقونه من معاملة القبط لهم. ومعنى {يسومونكم} يعاملونكم معاملة المحقوق بما عومل به يقال سامه خسفاً إذا أذله واحتقره فاستعمل سام في معنى أنال وأعطى ولذلك يعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر. وحقيقة سام عرض السوم أي الثمن. وسوء العذاب أشده وأفظعه وهو عذاب التسخير والإرهاق وتسليط العقاب الشديد بتذبيح الأبناء وسبي النساء والمعنى يذبحون أبناء آبائكم ويستحيون نساء قومكم الأولين. والمراد من الأبناء قيل أطفال اليهود وقيل: أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال: إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعاً للنسل ويسبون الأمهات استعباداً لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج. وإبقاء الرجال في مثل هاته الحالة أشد من قتلهم. أو لعل تقصيراً ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال ومربيات الصغار وكان سببه شغلهن بشؤون أبنائهن فكان المستعبِدون لهم إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل. والاستحياء استفعال يدل على الطلب للحياة أي يبقونهن أحياء أو يطلبون حياتهن. ووجه ذكره هنا في معرض التذكير بما نالهم من المصائب أن هذا الاستحياء للإناث كان المقصد منه خبيثاً وهو أن يعتدوا على أعراضهن ولا يَجدن بداً من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق فيكون قوله: {ويستحيون نساءكم} كناية عن استحياء خاص ولذلك أدخل في الإشارة في قوله: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على تلك المصيبة. وقيل إن الاستحياء من الحياء وهو الفرج أي يفتشون النساء في أرحامهن ليعرفوا هل بهن حمل وهذا بعيد جداً وأحسن منه أن لو قال إنه كناية كما ذكرنا آنفاً. وقد حكت التوراة أن فرعون أوصى القوابل بقتل كل مولود ذكر. وجملة: {يذبحون أبناءكم} إلخ بيان لجملة {يسومونكم سوء العذاب} فيكون المراد من سوء العذاب هنا خصوص التذبيح وما عطف عليه وهو {ويستحيون نساءكم} لما عرفت فكلاهما بيان لسوء العذاب فكان غير ذلك من العذاب لا يعتد به تجاه هذا. ولك أن تجعل الجملة في موضع بدل البعض تخصيصاً لأعظم أحوال سوء العذاب بالذكر وهذاهو الذي يطابق آية سورة إبراهيم (6) التي ذكر فيها {ويذبحون أبناءكم بالعطف على سوء العذاب} وليس قوله {ويستحيون} مستأنفاً لإتمام تفصيل صنيع فرعون بل هو من جملة البيان أو البدل للعذاب ويدل لذلك قوله تعالى في الآية الأخرى: {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4] فعقب الفعلين بقوله: {إنه كان من المفسدين}. والبلاء الاختبار بالخير والشر قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168] وهو مجاز مشهور حقيقته بلاء الثوب بفتح الباء مع المد وبكسرها مع القصر وهو تخلقه وترهله ولما كان الاختبار يوجب الضجر والتعب سمي بلاء كأنه يُخلق النفس، ثم شاع في اختبار الشر لأنه أكثر إعناتاً للنفس، وأشهر استعماله إذا أطلق أن يكون للشر فإذا أرادوا به الخير احتاجوا إلى قرينة أو تصريح كقول زهير: جزى الله بالإحساننِ ما فعلا بكم *** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فيطلق غالباً على المصيبة التي تحل بالعبد لأن بها يختبر مقدار الصبر والأناة والمراد هنا المصيبة بدليل قوله {عظيم}. وقيل أراد به الإنجاء والبلاء بمعنى اختبار الشكر وهو بعيد هنا. وتعلق الإنجاء بالمخاطبين لأن إنجاء سلفهم إنجاء لهم فإنه لو أبقى سلفهم هنالك للحق المخاطبين سوء العذاب وتذبيح الأبناء، أو هو على حذف مضاف أي نجينا آباءكم، أو هو تعبير عن الغائب بضمير الخطاب إما لنكتة استحضار حاله وإما لكون المخاطبين مثالهم وصورتهم فإن ما يثبت من الفضائل لآباء القبيلة يثبت لأعقابهم فالإتيان بضمير المخاطب على خلاف مقتضى الظاهر على حد ما يقال في قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] فالخطاب ليس بالتفات لأن اعتبار أحوال القبائل يعتبر للخلف ما ثبت منه للسلف.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} هذا زيادة في التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة، بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون، وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم ومعجزة لموسى عليه السلام وتعدية فعل {فرقنا} إلى ضمير المخاطبين بواسطة الحرف جار على نحو تعدية فعل {نجيناكم} [البقرة: 49] إلى ضميرهم كما تقدم. وفَرَق وفرَّق بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد إذ التشديد يفيده تعدية ومعناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً، وقد قيل إن فرّق للأجسام وفرق للمعاني نقله القرافي عن بعض مشايخه وهو غير تام كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بدليل هذه الآية، فالوجه أن فَرَّقَ بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز. وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة (فرقنا) بالتخفيف والتخفيف منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى فكان ذلك الفرق الشديد خفيفاً. وتصغر في عين العظيم العظائم *** وأل في (البحر) للعهد وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر وسمته التوراة بحر سوف. والباء في (بكم) إما للملابسة كما في طارت به العنقاء وعدا به الفرس، أي كان فرق البحر ملابساً لكم والمراد من الملابسة أنه يفرق وهم يدخلونه فكان الفرق حاصلاً بجانبهم. وجوز صاحب «الكشاف» كون الباء للسببية أي بسببكم يعني لأجلكم. والخطاب هنا كالخطاب في قوله: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} [البقرة: 49]. وقوله: {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون} هو محل المنة وذكر النعمة وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك عدوهم، قال الفرزدق: كيف تراني قَاليا مجنى *** قد قتل الله زياداً عني فكون قوله: {وإذ فرقنا بكم البحر} تمهيداً للمنة لأنه سبب الأمرين النجاة والهلاك وهو مع ذلك معجزة لموسى عليه السلام. وقد أشارت الآية إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من مغادرة البلاد المصرية وذلك أنهم لما خرجوا ليلاً إما بإذن من فرعون كما تقول التوراة في بعض المواضع، وإما خفية كما عبرت عنه التوراة بالهروب، حصل لفرعون ندم على إطلاقهم أو أغراه بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة الأعمال التي كانوا يسخرون فيها أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض جهات مملكته المصرية فخشى شرهم إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده. إن بني إسرائيل ما خرجوا من جهات حاضرة مصر وهي يومئذ مدينة منفيس لم يسلكوا الطريق المألوف لبلاد الشام إذ تركوا أن يسلكوا طريق شاطئ بحر الروم (المتوسط) فيدخلوا برية سينا من غير أن يخترقوا البحر ولا يقطعوا أكثر من اثنتي عرة مرحلة أعني مائتين وخمسين ميلاً وسلكوا طريقاً جنوبية شرقية حول أعلى البحر الأحمر لئلا يسلكوا الطريق المألوفة الآهلة بقوافل المصريين وجيوش الفراعنة فيصدوهم عن الاسترسال في سيرهم أو يُلحق بهم فرعون من يردهم لأن موسى علم بوحي كما قال تعالى: {وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنك متبعون} [الشعراء: 52] إن فرعون لا يلبث أن يصدهم عن المضي في سيرهم فلذلك سلك بهم بالأمر الإلهي طريقاً غير مطروقة فكانوا مضطرين للوقوف أمام البحر في موضع يقال له «فم الحيروث» فهنالك ظهرت المعجزة إذ فلق الله لهم البحر بباهر قدرته فأمر موسى أن يضربه بعَصاه فانفلق وصار فيه طريق يبس مرت عليه بنو إسرائيل وكان جند فرعون قد لحق بهم ورام اقتحام البحر وراءهم فانطبق البحر عليهم فغرقوا. وقوله: {وأغرقنا آل فرعون} أي جنده وأنصاره. ولم يذكر في هاته الآية غرق فرعون لأن محل المنة هو إهلاك الذين كانوا المباشرين لتسخير بني إسرائيل وتعذيبهم والذين هم قوة فرعون وقد ذكر غرق فرعون في آيات أخرى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله، وكان ذلك في زمن الملك «منفتاح» ويقال له «منفطة» أو «مينيتاه» من فراعنة العائلة التاسعة عشرة في ترتيب فراعنة مصر عند المؤرخين. قوله: {وأنتم تنظرون} جملة حالية من الفاعل وهو ضمير الجلالة في {فرقنا} و{أنجينا} و{أغرقنا} مقيدة للعوامل الثلاثة على سبيل التنازع فيها، ولا يتصور في التنازع في الحال إضمار في الثاني على تقدير إعمال الأول لأن الجملة لا تضمر كما لا يضمر في التنازع في الظرف نحو سكن وقرأ عندك ولعل هذا مما يوجب إعمال الأول وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضاً نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيماناً وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد. ويجوز أن تكون الجملة حالاً من المفعول وهو (آل فرعون) أي تنظرونهم، ومفعول {تنظرون} محذوف ولا يستقيم جعله منزلاً منزلة اللازم. وإسناد النظر إليهم باعتبار أن أسلافهم كانوا ناظرين ذلك لأن النعمة على السلف نعمة على الأبناء لا محالة فضمير الخطاب مجاز.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} تذكير لهم بنعمة عفو الله عن جرمهم العظيم بعبادة غيره وذلك مما فعله سلفهم، فإسناد تلك الأفعال إلى ضمير المخاطبين باعتبار ما عطف عليه من قوله: {ثم عفونا عنكم} فإن العفو عن الآباء منة عليهم وعلى أبنائهم يجب على الأبناء الشكر عليه كما تقدم عند قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40، 47]. ووقع في «الكشاف» و«تفسير البغوي» و«تفسير البيضاوي» أن الله وعد موسى أن يؤتيه الشريعة بعد أن عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد مهلك فرعون، وهذا وهم فإن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر البتة بعد خروجهم، كيف والآيات صريحة في أن نزول الشريعة كان بطورسينا وأن خروجهم كان ليعطيهم الله الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وقد أشار في «الكشاف» في سورة الدخان إلى التردد فيه ولا ينبغي التردد في ذلك. وقوله: {ثم اتخذتم العجل من بعده} هو المقصود وأما ما ذكر قبله فهو تمهيد وتأسيس لبنائه وتهويل لذلك الجرم إظهاراً لسعة عفو الله تعالى وحلمه عنهم. وتوسيط التذكير بالعفو عن هذه السيئة بين ذكر النعم المذكورة مراعاة لترتيب حصولها في الوجود ليحصل غرضان غرض التذكير وغرض عرض تاريخ الشريعة. والمراد من المواعدة هنا أمر الله موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاة الله تعالى وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة. وقراءة الجمهور {وواعدنا} بألف بعد الواو على صيغة المفاعلة المقتضية حصول الوعد من جانبين الواعد والموعود والمفاعلة على غير بابها لمجرد التأكيد على حد سافر وعافاه الله، وعالج المريض وقاتله الله، فتكون مجازاً في التحقيق لأن المفاعلة تقتضي تكرر الفعل من فاعلين فإذا أخرجت عن بابها بقي التكرر فقط من غير نظر للفاعل ثم أريد من التكرر لازمه وهو المبالغة والتحقق فتكون بمنزلة التوكيد اللفظي. والأشهر أن المواعدة لما كان غالب أحوالها حصول الوعد من الجانبين شاع استعمال صيغتها في مطلق الوعد وقد شاع استعمالها أيضاً في خصوص التواعد بالملاقاة كما وقع في حديث الهجرة «وواعداه غار ثور». وقول الشاعر: فواعديه سَرْحَتَي مالك *** أو الرُّبا بينهما أسهلا واستعملت هنا لأن المناجاة والتكلم يقتضي القرب فهو بمنزلة اللقاء على سبيل الاستعارة ولذلك استغني عن ذكر الموعود به لظهوره من صيغة المواعدة. وقيل المفاعلة على بابها بتقدير أن الله وعد موسى أن يعطيه الشريعة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه أن يمتثل لذلك، فكان الوعد حاصلاً من الطرفين وذلك كاف في تصحيح المفاعلة بقطع النظر عن اختلاف الموعود به، وذلك لا ينافي المفاعلة لأن مبنى صيغة المفاعلة حصول فعل متماثل من جانبين لا سيما إذا لم يذكر المتعلق في اللفظ كما هنا لقصد الإيجاز البديع لقصد إعظام المتعلق من الجانبين، ولك أن تقول سوغ حذفه علم المخاطبين به فإن هذا الكلام مسوق للتذكير لا للإخبار والتذكير يكتفى فيه بأقل إشارة فاستوى الحذف والذكر فرجح الإيجاز وإن كان الغالب اتحاده. وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وعدنا} بدون ألف عقب الواو على الحقيقة. وموسى هو رسول الله إلى بني إسرائيل وصاحب شريعة التوراة، وهو موسى بن عمران ولم يذكر اسم جده ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب. ولد بمصر في حدود سنة ألف وخمسمائة قبل ميلاد عيسى ولما ولدته أمه خافت عليه أن يأخذه القبط فيقتلوه لأنه في أيام ولادته كان القبط قد ساموا بني إسرائيل سوء العذاب لأسباب غير مشروعة كما تقدم عند قوله تعالى: {يذبحون أبناءكم} [البقرة: 49] فأمر ملك مصر بقتل كل ذكر يولد في إسرائيل. وأمه تسمى «يوحانذ» وهي أيضاً من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى فتحيلت لإخفائه عن القبط مدة ثلاثة أشهر ثم ألهمها الله فأرضعته رضعة ووضعته في سفط منسوج من خوص البردي وطلته بالمغرة والقار لئلا يدخله الماء ووضعت فيه الولد وألقته في النيل بمقربة من مساكن فرعون على شاطئ النيل ووكلت أختاً له اسمها مريم بأن ترقب الجهة التي يلقيه النيل فيها وماذا يصنع به، وكان ملك مصر في ذلك الوقت تقريباً هو فرعون رعمسيس الثاني، ولما حمله النهر كانت ابنة فرعون المسماة ثرموت مع جَوارٍ لها يمشين على حافة النهر لقصد السباحة والتبرد في مائه قيل كانوا في مدينة عين شمس فلما بصرت بالسفط أرسلت أمة لها لتنظر السفط فلما فتحنه وجدن الصبي فأخذته ابنة فرعون إلى أمها وأظهرت مريم أخت موسى نفسها لابنة فرعون فلما رأت رقة ابنة فرعون على الصبي قالت: إن فينا مرضعاً أفأذهب فأدعوها لترضعه؟ فقالت: نعم فذهبت وأتت بأم موسى. وأخذت امرأة فرعون الولد وتبنته وسمته موشى قيل: إنه مركب من كلمة «مو» بمعنى الماء وكلمة «شى» بمعنى المنقَذ وقد صارت في العربية موسى والأظهر أن هذا الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون وأنه غير اسمه بعد ذلك. ونشأ موسى في بيت فرعون كولد له ولما كبر علم أنه ليس بابن لفرعون وأنه إسرائيلي ولعل أمه أعلمته بذلك وجعلت له أمارات يوقن بها وأنشأه الله على حب العدل ونصر الضعيف وكان موسى شديداً قوي البنية ولما بلغ أشده في حدود نيف وثلاثين من عمره حدث له حادث قتل فيه قبطياً انتصاراً لإسرائيلي ولعل ذلك كان بعد مفارقته لقصر فرعون أي بعد موت مربيه فخاف موسى أن يقتص منه وهاجر من مصر ومر في مهاجرته بمدين وتزوج ابنة شعيب ثم خرج من مدين بعد عشر سنين وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة. وأوحى الله إليه في طريقه أن يخرج بني إسرائيل من مصر وينقذهم من ظلم فرعون فدخل مصر ولقي أخاه هارون في جملة قومه في مصر وسعى في إخراج بني إسرائيل من مصر بما قصه الله في كتابه وكان خروجه ببني إسرائيل من مصر في حدود سنة 1460 ستين وأربعمائة وألف قبل المسيح في زمن منفطاح الثاني وتوفي موسى عليه السلام قرب أريحا على جبل نيبو سنة 1380 ثمانين وثلاثمائة وألف قبل ميلاد عيسى ودفن هنالك وقبره غير معروف لأحد كما هو نص التوراة. وقوله: {أربعين ليلة} انتصب على أنه ظرف لمتعلق {واعدنا} وهو اللقاء الموعود به ناب هذا الظرف عن المتعلق أي مناجاة وغيرها في أربعين ليلة إن جعل {واعدنا} مسلوب المفاعله وإن أبقي على ظاهره قدرنا متعلقين وعلى كلا التقديرين فانتصاب (أربعين) على الظرفية لذلك المحذوف على أن إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه مجاز شائع في كلام البلغاء ومنه {واتقوا يوماً لا تجزى نفس} [البقرة: 48] كما تقدم والأمور التي اشتملت عليها الأربعون ليلة معلومة للمخاطبين يتذكرونها بمجرد الإلماع إليها. وبما حررناه في قوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} تستغني عن تطويلات واحتمالات جرت في كلام الكاتبين هنا من وجوه ذكرها التفتزاني وعبد الحكيم وقد جمع الوجه الذي أبديناه محاسنها. وجعل الميقات ليالي لأن حسابهم كان بالأشهر القمرية. وعطفت جملة {اتخذتم العجل من بعده} بحرف {ثم} الذي هو في عطف الجمل للتراخي الترتيبي للإشارة إلى ترتيب في درجات عظم هذه الأحوال وعطف {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} أيضاً لتراخي مرتبة العفو العظيم عن عظيم جرمهم فروعي في هذا التراخي أن ما تضمنته هذه الجمل عظائم أمور في الخير وضده تنبيهاً على عظم سعة رحمة الله بهم قبل المعصية، وبعدها وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به ولشناعة ذكره وتقديره معبوداً أو إلهاً وبه تظهر فائدة ذكر {من بعده} لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالاً لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزاته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] الآية. وفائدة ذكر (من) للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه السلام وهذه أيضاً حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد كما قال الحرث بن كلدة: فما أدري أغيَّرهم تناءٍ *** وطول العهد أم مالٌ أصابوا ففي قوله: {من بعده} تعريض بقلة وفائهم في حفظ عهد موسى. وقوله: {من بعده} أي بعد مغيبه وتقدير المضاف مع بعد المضاف إلى اسم المتحدث عنه شائع في كلام العرب لظهوره بحسب المقام وإذا لم يكن ما يعنيه من المقام فالأكثر أنه يراد به بعد الموت كما في قوله تعالى: {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً} [غافر: 34] وقوله: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} [البقرة: 246]. وإنما اتخذوا العجل تشبهاً بالكنعانيين الذين دخلوا إلى أرضهم وهم الفنيقيون سكان سواحل بلاد الشام فإنهم كانوا عبدة أوثان وكان العجل مقدساً عندهم وكانوا يمثلون أعظم الآلهة عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي ماداً ذراعيه كمتناول شيء يحتضنه وكانوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس فكانوا يقربون إليه القرابين وربما قربوا له أطفالهم صغاراً فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى فظنوا ذلك أمارة قبول القربان فتباً لجهلهم وما يصنعون. وكان يسمى عندهم «بعلا» وربما سموه «مولوك» وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب فلما مر بهم بنو إسرائيل قالوا لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] فانتهرهم موسى وكانوا يخشونه فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه وظنوا أن موسى هلك فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه. وقوله: {وأنتم ظالمون} حال مقيدة لاتخذتم ليكون الاتخاذ مقترناً بالظلم من مبدئه إلى منتهاه وفائدة الحال الإشعار بانقطاع عذرهم فيما صنعوا وأن لا تأويل لهم في عبادة العجل أو لأنهم كانوا مدة إقامتهم بمصر ملازمين للتوحيد محافظين على وصية إبراهيم ويعقوب لذريتهما بملازمة التوحيد فكان انتقالهم إلى الإشرك بعد أن جاءهم رسول انتقالاً عجيباً. فلذلك كانوا ظالمين في هذا الصنع ظلماً مضاعفاً فالظاهر أن ليس المراد بالظلم في هاته الآية الشرك والكفر وإن كان من معاني الظلم في اصطلاح القرآن لظهور أن اتحاذ العجل ظلم فلا يكون للحال معه موقع. وقد اطلعت بعد هذا على «تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي» فوجدته قال: {وأنتم ظالمون} أي لا شبهة لكم في اتخاذه. وقوله: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} هو محل المنة، وعطفه بثم لتراخي رتبة هذا العفو في أنه أعظم من جميع تلك النعم التي سبق عدها ففيه زيادة المنة فالمقصود من الكلام هو المعطوف بثم وأما ما سبق من قوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} إلخ فهو تمهيد له وتوصيف لما حفّ بهذا العفو من عظم الذنب. وقوله: {من بعد ذلك} حال من ضمير «عفونا» مقيدة للعفو إعجاباً به أي هو عفو حال حصوله بعد ذلك الذنب العظيم وليس ظرفاً لغواً متعلقاً بعفونا حتى يقال: إن ثم دلت على معناه فيكون تأكيداً لمدلول ثم تأخير العفو فيه وإظهار شناعته بتأخير العفو عنه وإنما جاء قوله ذلك مقترناً بكاف خطاب الواحد في خطاب الجماعة لأن ذلك لكونه أكثر أسماء الإشارة استعمالاً بالإفراد إذ خطاب المفرد أكثر غلب فاستعمل لخطاب الجمع تنبيهاً على أن الكاف قد خرجت عن قصد الخطاب إلى معنى البعد ومثل هذا في كلام العرب كثير لأن التثنية والجمع شيآن خلاف الأصل لا يصار إليهما إلا عند تعيين معناهما فإذا لم يقصد تعيين معناهما فالمصير إليهما اختيار محض. وقوله: {لعلكم تشكرون} رجاء لحصول شكركم، وعدل عن لام التعليل إيماء إلى أن شكرهم مع ذلك أمر يتطرقه احتمال التخلف فذكر حرف الرجاء دون حرف التعليل من بديع البلاغة فتفسير لعل بمعنى لكي يفيت هذه الخصوصية وقد تقدم كيفية دلالة لعل على الرجاء في كلام الله تعالى عند قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم إلى قوله لعلكم تتقون} [البقرة: 21]. ومعنى الشكر تقدم في قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2] وللغزالي فيه باب حافل عدلنا عن ذكره لطوله فارجع إليه في كتاب «الإحياء».
|