/ فَصْـــل
قد أمرنا الله ـ تعالى ـ باتباع ما أنزل إلىنا من ربنا، وباتباع ما يأتي منه من الهدى، وقد أنزل علىنا الكتاب والحكمة، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ علىكُمْ وَمَا أَنزَلَ علىكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 231]، والحكمة من الهدى، قال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، والأمر باتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر باتباع الحكمة التي بعث بها الرسول، وباتباعه وطاعته مطلقًا.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] وقال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو علىكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[الجمعة:2، 3].
وقد أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعًا، كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عليه مَا حُمِّلَ وَعلىكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} إلى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، إلى قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلى قوله: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ} [النور: 54 ـ 63]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}
[النساء:64، 65].
وقولـه تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} إلى قوله: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 13، 14]، وقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}
[الأحزاب: 66 ـ 68]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}
[الفرقان: 27 ـ 29]. فهذه النصوص توجب اتباع الرسول، وإن لم نجد ما قاله منصوصًا بعينه في الكتاب، كما أن تلك الآيات توجب اتباع الكتاب، وإن لم نجد ما في الكتاب منصوصًا بعينه في حديث عن الرسول غير الكتاب. فعلىنا أن نتبع الكتاب، وعلىنا أن نتبع الرسول، واتباع أحدهما هو اتباع الآخر؛ فإن الرسول بلغ الكتاب، والكتاب أَمَرَ بطاعة الرسول. ولا يختلف الكتاب والرسول البتة، كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضًا، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
/والأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباع الكتاب، وفي وجوب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم؛ كقوله: (لا ألفينَّ أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم)، هذا الحديث في السنن والمسانيد، مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة جهات، من حديث أبي ثعلبة، وأبي رافع، وأبي هريرة، وغيرهم.
وفي صحيح مسلم عنه من حديث جابر؛ أنه قال في خطبة الوداع: (وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله تعالى)، وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفي أنه قيل له: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قيل: فكيف كتبه على الناس الوصية؟ قال: أوصي بكتاب الله. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن، كما فسرت أعداد الصلوات، وقَدْر القراءة فيها، والجهر والمخافتة، وكما فسرت فرائض الزكاة ونُصُبها، وكما فسرت المناسك وقدر الطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، ونحو ذلك.
وهذه السنة إذا ثبتت، فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب /اتباعها، وقد يكون من سنته ما يظن أنه مخالف لظاهر القرآن وزيادة عليه؛ كالسنة المفسرة لنصاب السرقة، والموجبة لرجم الزاني المحصن، فهذه السنة ـ أيضًا ـ مما يجب اتباعه عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين، إلا من نازع في ذلك من الخوارج المارقين، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قاتلهم يوم القيامة).
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة في وصفهم وذمهم والأمر بقتالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد بن حنبل:صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه،وقد روي مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، كأنها هي التي أشار إليها أحمد بن حنبل، فإن مسلمًا أخذ عن أحمد.
وقد روي البخاري حديثهم من عدة أوجه، وهؤلاء أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعدل فإنك لم تعدل. فمن جوز عليه أن يظلمه فلا يعدل كمن يوجب طاعته فيما ظلم فيه، لكنهم يوجبون اتباع ما بلغــه عن الله، وهــذا من جهلهـم وتناقضهم؛ ولهذا قال النبي/ صلى الله عليه وسلم: (ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟!) وقال: (لقد خبت وخسرت إن لم أعدل)، أي: إن اتبعت من هو غير عادل فأنت خائب خاسر. وقال: (أَيَأْمَنُنِي من في السماء ولا تَأْمَنُونِي؟!)، يقول: (إذا كان الله قد ائتمنني على تبليغ كلامه أفلا تأمنوني على أن أؤدي الأمانة إلى الله؟) قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} [آل عمران: 161].
وفي الجملة، فالقرآن يوجب طاعته في حكمه وفي قسمه، ويذم من يعدل عنه في هذا أو هذا، كما قال تعالى في حكمه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إلىكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}
[النساء:60 ـ 64]، وقال تعالى:{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إليه مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عليهمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
[النور: 47 ـ 52].
وقال في قسمه للصدقات والفيء، قال في الصدقات: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ}
[التوبة: 58، 59]، وقال في الفيء: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَإلىتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إليهمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
الآيات الثلاث [الحشر: 7- 9].
فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه ـ كالخوارج ـ طاعن في /كتاب الله مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مفارق لجماعة المسلمين، وكان شيطان الخوارج مَقْمُوعًا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثـلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة على ـ رضي الله عنه ـ وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا علىا ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولي الطائفتين بالحق على بن أبي طالب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تَمْرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولي الطائفتين بالحق).
ولهذا لما ناظرهم من ناظرهم؛ كابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهما، بينوا لهم بطلان قولهم بالكتاب والميزان، كما بين لهم ابن عباس، حيث أنكروا على على بن أبي طالب قتاله لأهل الجمل، ونهيه عن اتباع مدبرهم، والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم، وكانت حجة الخوارج أنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر، فإن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم، وإن كانوا كفارًا أبيحت دماؤهم وأموالهم وذراريهم، فأجابهم ابن عباس بأن القرآن يدل على أن عائشة أم المؤمنين، وبين أن أمهات المؤمنين حرام، فمن أنكر أمومتها فقد خالف كتاب الله، ومن استحل فرج أمه فقد خالف كتاب الله.
وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمنًا لم يبح قتاله بحال، وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة، حيث ظنوا أن من قاتل علىا كافر؛/ فإن هذا خلاف القرآن، قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
[الحجرات: 9، 10]، فأخبر ـ سبحانه ـ أنهم مؤمنون مقتتلون، وأمر إن بغت إحداهما على الأخرى أن تقاتل التي تبغي، فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء، ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، وأنه يأمر بقتال الباغية حيث أمر الله به.
وكذلك عمر بن عبد العزيز لما ناظرهم وأقروا بوجوب الرجوع إلى ما نقله الصحابة عن الرسول من فرائض الصلاة، بين لهم عمر أنه كذلك يجب الرجوع إلى ما نقلوه عنه صلى الله عليه وسلم من فريضة الرجم ونصاب الزكاة، وأن الفرق بينهما فرق بين المتماثلين، فرجعوا إلى ذلك.
وكذلك ابن عباس ناظرهم لما أنكروا تحكيم الرجال بأن الله قال في الزوجين: إذا خيف شقاق بينهما أن يبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، وقال: {إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وأمر ـ أيضًا ـ أن يحكم في الصيد بجزاء مثل ما قتل من النَّعَم يحكم به ذوا عدل منكم، فمن أنكر التحكيم مطلقًا فقد خالف كتاب الله ـ تعالى ـ وذكر ابن عباس أن / التحكيم في أمر أميرين لأجل دماء الأمة أولي من التحكيم في أمر الزوجين، والتحكيم لأجل دم الصيد. وهذا استدلال من ابن عباس بالاعتبار وقياس الأولي، وهو من الميزان، فاستدل عليهم بالكتاب والميزان، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
أمر ـ سبحانه ـ بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمر ـ إن تنازعنا في شيء ـ أن نرده إلى الله والرسول، فدل هذا على أن كل ما تنازع المؤمنون فيه من شيء فعليهم أن يردوه إلى الله والرسول، والمعلق بالشرط يعدم عند عدم الشرط، فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يكن هذا الأمر ثابتًا؛ وكذلك إنما يكون لأنهم إذا لم يتنازعوا كانوا على هدي وطاعة الله ورسوله فلا يحتاجوا حينئذ أن يأمروا بما هم فاعلون من طاعة الله والرسول.
ودل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا بل اجتمعوا، فإنهم لا يجتمعون على ضلالة، ولو كانوا قد يجتمعون على ضلالة لكانوا حينئذ أولي بوجوب الرد إلى الله والرسول منهم إذا تنازعوا، فقد يكون أحد الفريقين مطيعًا الله والرسول. فإذا كانوا مأمورين في هذا الحال بالرد إلى الله والرسول ليرجع إلى ذلك فريق منهم ـ خرج عن ذلك ـ فلأن يؤمروا بذلك /إذا قدر خروجهم كلهم عنه بطريق الأولي والأحري ـ أيضًا ـ فقد قال لهم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ علىكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم} [آل عمران: 103].
فلما نهاهم عن التفرق مطلقًا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم، وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، كما قال: {و هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
[الأنفال: 62، 63]، فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم، ومما مَنَّ به عليهم، فلم يكن ذلك اجتماعًا على باطل؛ لأن الله ـ تعالى ـ أعلم بجميع الأمور. انتهى والحمد الله رب العالمين.
/ وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ـ رضي الله عنه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين.
قاعدة نافعة
في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود؛ إما عام، وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول، وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول، أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة.
والرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله /تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:122]،فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات. وسمي الله ـ تعالى ـ رسالتــه روحًا، والروح إذا عُدِم فقد فقدت الحياة، قال الله ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلىكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشوري:52]، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور. فالروح الحياة، والنور النور.
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورًا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
فشبه العلم بالماء المنزل من السماء؛ لأن به حياة القلوب، كما أن / بالماء حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية؛ لأنها محل العلم، كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا، ووادٍ يسع ماء كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلاً وواد يسع ماء قليلاً، وأخبر ـ تعالى ـ أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنه يذهب جُفَاءً، أي: يرمي به ويخفي، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، فإذا تَرَابَي فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]، فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء. ونظير هذين المثالين: المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} إلى قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء} إلى آخر الآية [البقرة: 17 ـ 19]. وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حي، وإن كانت حياته حياة بَهِيمِيَّة، فهو عادم الحياة الروحانية العُلْوِية التي سببها سبب الإيمان، وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فإن الله ـ سبحانه ـ جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.
/ فالأصل الأول: يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.
والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب.
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومَنْ يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه.
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتًا لا تُرْجي الحياة معه أبدًا، أو شَقِي/ شقاوة لا سعادة معها أبدًا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] أي: لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، فخص هؤلاء بالفلاح، كما خص المتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم، ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودًا وعدمًا.
وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل؛ ولهذا قص الله علىنا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقي آثارهم وديارهم عِبْرَةً لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاؤوا به، واتخاذهم أولياء من دونه.
وهذه سنته ـ سبحانه ـ فيمن خالف رسله، وأعرض عما جاؤوا به /واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقي الله ـ سبحانه ـ آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ؛ لئلا نفعـل كمـا فعلــوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 34، 35]، وقال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 136-138] أي: تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، وقال ـ تعالى ـ في مدائن قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ}
[الحجر: 74 ـ 76] يعني: مدائنهم بطريق مقيم يراها المارُّ بها، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [الروم: 9].
وهذا كثير في الكتاب العزيز؛ يخبر الله ـ سبحانه ـ عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أَتْبَاع المرسلين؛ ولهذا يذكر ـ سبحانه ـ في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب. ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
[الشعراء: 158، 159]، فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة، وهو: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته.